لست مصابة بمرض عضال! [ 93 ]
غرقت لويسا في التفكير قليلًا، ثم مرّرت يدها في الهواء بحذر كي لا يلامس جلدها حجر الأثر.
“لويسا.”
“هم؟”
“في الحقيقة، الأمر لا يخص الشمال وحده.”
“وماذا أيضًا؟”
“هذا. وجدت ما حدثتِني عنه سابقًا.”
تلقّت لويسا الصندوق المسطّح الذي مدّه نحوها ديميان على حين غرّة.
كان بحجم راحة اليد، مكسوًا بالمخمل، يوحي مظهره وكأنه يحوي جوهرة.
“ما هذا؟”
ارتسم الاستفهام في عينيها وهي تنظر إليه.
“افتحيه.”
‘ما هذا بحقّ السماء؟ عن أي شيء كنتُ قد تحدّثتُ من قبل؟’
أمالت رأسها قليلًا، ثم فتحت الصندوق ببطء.
“عقد؟ هل أنا من طلبت هذا أصلًا؟”
“نعم. لكنه ليس عقدًا عاديًّا.”
في وسط السلسلة الذهبية الرفيعة تدلّى حجر شبه شفاف بحجم ظفر خنصر.
‘مهلاً… هذا الحجر…’
رمقت لويسا يدها اليسرى الموضوعة فوق العقد.
“…لا تقل إن هذا أداة أثرية؟”
“بلى.”
“هاه؟ حقًا؟ مهلاً، إن كان هو ما قصدتُه سابقًا… فهل فيه وظيفة تسجيل؟”
ابتسم ديميان ابتسامة واثقة وأومأ برأسه.
‘لا أصدق أنه أحضره فعلًا! كنتُ قد تمتمتُ به عابرًا، فهل ظلّ يبحث عنه كل هذا الوقت؟’
ارتخى فمها في ابتسامة، وعيناها المتلألئتان فضحتا بهجتها الصافية.
“سعيد لأنك فرحتِ به. جربتُه وهو يعمل. لكن مدته قصيرة… أقصاها خمس دقائق.”
“خمس دقائق تكفيني! الحصول على أداة أثرية أمر عسير أصلًا… شكرًا لك حقًا.”
“صحيح أن كثيرًا من الاحجار لا تعمل، لكن هذا الحجر يعمل. اضغطي عليه باستمرار لعشر ثوانٍ لتشغيله.”
فعلت كما قال، وشعرت بالحرارة تسري فيه قليلًا.
خشيت أن يتوهّج باللون الأحمر القاني مثل بريق الهاوية، لكن لحسن الحظ لم يظهر شيء للعين.
“شكرًا لك. سأستخدمه جيدًا. آه… أكان انشغالك مؤخرًا بسبب البحث عنه؟”
“لا، ليس هذا السبب. أنا أتحقق مما إذا كان في العاصمة مقبرة شبيهة بتلك التي في الشمال.”
اتسعت عينا لويسا مندهشة.
“أأنت تبحث عن مقبرة؟ عن النفق ذاك؟”
“نعم. ولأن من يعملون عليها قلة شديدة التحفّظ، لم نتمكن من حشد عدد كبير، فاشتركتُ أنا أيضًا.”
“هذا خطر جدًا! لمَ تُعرّض نفسك لهذا؟”
“حتى سموّ ولي العهد يبحث بنفسه، فكيف أبقى بعيدًا؟ أأنتِ تقلقين على أخيك إلى هذا الحد؟”
“طبعًا!”
“لويسا…!”
غطى ديميان فمه متأثرًا.
صحيح أن جزءًا من حماستها سببه الأداة، لكن قلقها كان حقيقيًّا.
ألم يكن الدوق بليك قد وقع فريسةً هناك بلا حيلة؟
“أخي… أرجوك، كن حذرًا.”
توسّلت بعينين مثقلتين بالقلق.
أما هو، فاكتفى بالابتسام عريضًا راضيًا، مما جعلها ترى فيه شيئًا من الطيش.
***
لكن…
لماذا وجدت نفسها هي بالذات في هذا المأزق؟
زفرت لويسا، تنظر إلى الوحوش التي حاصرتها من كل جانب.
بدأت الحكاية في وقت متأخر من الصباح، حين زارتها ضيفة غير متوقعة.
“القديسة جاءت؟”
“نعم… تقول إن الأمر عاجل ولا بد أن تراكِ.”
قالتها ماري بوجه متحرج وهي تترقب رد فعلها.
رمشت لويسا بدهشة منذ الصباح، ثم خطت في هدوء.
‘أهذا دايجو فو؟ الأمر مطابق تمامًا لما حدث المرة السابقة.’
لم يُدخلها الخدم إلى غرفة الاستقبال، بل وقفت متصلبة عند الباب، فيما بدا كبير الخدم يحاول ردعها.
هناك وقفت بيلا وحيدة.
دفعت لويسا شعرها إلى الخلف ونزلت الدرج ببطء.
وما إن لمحتها بيلا حتى أشرق وجهها.
“آنسة!”
“…آنستي القديسة، أرجو أن تكفي عن زياراتك المفاجئة.”
“آه، أعذريني… الأمر ملحّ للغاية.”
“كان الأولى أن تحددي موعدًا مسبقًا.”
أدارت لويسا الأمر ببرود، متجاهلة اعتذاراتها.
إن لم تضع حدًّا الآن، فستظل تأتي فجأة كل مرة بحجة الاستعجال.
أطرقت بيلا وجهها شاحب وقد لمعت في عينيها نظرة مترددة كأنها تستأذن بالكلام.
أومأت لها لويسا إشارة أن تتحدث.
“…شعرتُ بطاقة سحر اسود طفيفة في العاصمة.”
“نعم؟ وأين؟”
“كنتُ في العربة فالتقطتها على نحو متقطع… أريد أن أتحقق ثانية، وأظن أن وجودكِ إلى جانبي سيكون أفضل. فشخصان أقدر من واحد.”
“تستطيعين فعل ذلك وحدك.”
مالت لويسا برأسها ببرود، فارتجفت كتفا بيلا.
“في… في الحقيقة… منذ مهرجان الصيد لم أعد أتحكم في قوتي كما من قبل. ربما بسبب الصدمة… لم أعد واثقة.”
“…….”
“خشيت أن أكون مخطئة فأضيّع وقت الآخرين… فهل تساعدينني؟”
خرج منها زفير ثقيل، وظلّت تحدّق في وجه بيلّا بصمت دون أن تنبس بكلمة، حتى غمرت الدموع عيني بيلّا.
“ألا تقصدين أننا… سننطلق الآن فورًا؟”
“نعم…”
أجابت بيلّا بصوت مرتجف، مطأطئة رأسها كمن لا يقوى على رفع عينيه بعد.
فتحت لويسا عينيها دهشة من هذا الموقف الغريب.
فهمت الظروف، لكن أكان هناك ما يدعو لأن يكون الانطلاق حالًا؟ أم أنّها استشعرت أمرًا خطيرًا حقًا؟
‘حقًا… يا لها من مزعجة.’
لم تستدرّ دموع بيلّا رقّتها، بل أثارت فيها الضجر فحسب. فعادت لويسا تزفر بقوة.
‘لا مفر إذن…’
على الأرجح ستظل متسمّرة هناك إلى أن توافق، وطردها صراحةً لم يكن خيارًا بعد ما قيل في الكنيسة الكبرى.
فلو رفضت، ستسارع بيلّا إلى ذلك الكاهن بيدال وتبوح بما جرى، وعندها يجد ذاك الرجل المتربّص أصلًا ليلتقط أي هفوة صيدًا ثمينًا بين يديه.
ستكون حجّة جاهزة له: إن كانت ترفض مجرد مرافقة القديسة، فكيف يأتمنونها على إرسال القديسة إلى الشرق؟
كان السيناريو واضحًا أمامها، فحدّقت بعينيها الضيّقتين في بيلّا.
‘سواء كانت صادقة أم لا، لا بدّ من مجاراتها… ولعلّها تظفر بخيط يكشف حقيقتها.’
“…حسنًا. لكن ليس طويلًا.”
“ماذا؟”
رفعت بيلّا رأسها دفعة واحدة، وانعكس في عينيها الخضراوين بريق الترقّب، لكن ما واجهها كان ملامح باردة متحجّرة.
“لن نتجاوز ساعة واحدة. هذا كل ما هنالك.”
ومع وقع القرار الحاسم، خبا البريق سريعًا من عينيها.
***
خلال الطريق نحو السوق، ظلّت العربة يغمرها الصمت، كما في المرة التي ذهبا فيها معًا إلى الكنيسة الكبرى.
ولم تجد لويسا في هذا ثِقلاً، بل بدا لها مألوفًا.
جلست تحدّق في النافذة بشرود، غير آبهة بنظرات الوخز التي شعرت بها على خدّها.
واضح أنّ بيلّا لم يكن لديها ما تقوله، ولهذا لم تُكلّف نفسها عناء الالتفات إليها.
وحين ولجت العربة الشارع الرئيس، عدّلت لويسا من وضع قبعتها. عندها فقط قطعت بيلّا الصمت:
“من هنا علينا أن نتفقد المكان سيرًا. هل لا بأس عندك؟”
“نعم، ولكن… هل هذا هو الموضع الذي شعرتِ فيه بطاقة السحر الاسود؟”
“أجل، كان قريبًا من هنا. لكني لمحتها مرورًا، لذا أريد أن أطوف حول المنطقة بهدوء. ثم إن…”
وبينما العربة تتوقف عند الرصيف، ترجّلت بيلّا أولًا، ثم التفتت نحو لويسا قبل أن تُكمل:
“وجودك سيسهّل الأمر، فأنتِ أيضًا قادرة على الإحساس بالطاقة.”
رمقتها لويسا للحظةً قبل أن تنزل دون تعليق.
وسرعان ما اصطفّ فرسان الكنيسة ليحيطوا ببيلّا، وفرسان الدوقية ليحيطوا بلويسا، حتى بدا أنهم جميعًا يشكّلون جدارًا مضاعفًا من الحماية.
‘هذا مبالغ فيه… كيف سنفحص شيئًا بهذا الشكل؟’
مسحت لويسا المكان بعينيها قبل أن تقول للفرسان:
“ابتعدوا قليلًا للخلف، لا أرى بوضوح.”
كانت قد ارتدت ثيابًا بسيطة لتتخفّى، لكنّ بيلّا بزيّ القديسة كان أشبه بمنارة تلفت الأنظار، فلم يكن مستغربًا تزايد النظرات نحوهما.
ظنّت لويسا في بادئ الأمر أنّ المكان سيكون زقاقًا مهجورًا، فإذا به شارع مكتظّ يعجّ بالحركة.
لقد أساءت التقدير.
تراجع الفرسان نصف خطوة، مظهرين أنّهم لن يسمحوا بأكثر من ذلك. فآثرت لويسا الاكتفاء، ثم التفتت إلى بيلّا:
“إن صحّ أنّك استشعرتِ شيئًا في هذا الشارع المزدحم… فلابدّ أن هناك متغيّرًا محتمَلًا.”
وخطر ببالها حينها مشهد الساحر الأسود الذي فجّر نفسه يومًا في السوق.
لو كان كلام بيلّا صحيحًا، فقد تستشعر أثر الطاقة في أي عابر مجهول.
“متغيّر؟”
“نعم. ربما كنتِ فقط صادفتِ مارًّا بتلك الطاقة.”
“لكن… أيمكن أن يحملها البشر؟ ألم تقولي إنّها لا تصدر إلا عن الوحوش؟”
“رأيت سابقًا أنّ السحرة السود يستعملونها أحيانًا. أقول هذا تحسّبًا لا أكثر.”
“السحرة السود…؟”
ارتسمت على وجه بيلّا ملامح مترددة.
“على أيّ حال، فلننظر. وإن لم نجد شيئًا، فليكن ذلك أيضًا ضمن الحساب.”
“أجل، فهمت.”
أومأت بيلّا مرتبكة، فصوّبت لويسا نظرها فيها برهة قبل أن تصرفه، مستجمعة حواسها إلى أقصى درجة.
ازدحام الأصوات من حولها، والهمسات المارّة، والنظرات الموجّهة… كلّها أمور تشتت التركيز، لكنها أخفت ذلك وراء ملامح ساكنة جامدة.
أما بيلّا فبعكسها كانت تلوّح للمارّة وتبتسم لهم، وهو ما لم يفعل سوى زيادة الإرباك.
“الناس كثيرون جدًا هنا… سيغدو الأمر أصعب فأصعب.”
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 93"