لست مصابة بمرض عضال! [ 88 ]

 

“آه، يا سيادة الكاهن الأكبر. بطبيعة الحال هذا واجبي.”

 

“يا له من لطف بالغ. لا شيء يُعدّ بديهيًّا، بل هو أمر يتشارك الجميع في حمله.”

 

“ذلك…….”

 

“أفهم نوايا القدّيسة، غير أنّ هذه المسألة لا يجوز أن تتحملها وحدها.”

 

‘يُجيدون الحديث.’

 

أغمضت لويسا عينيها بلا مبالاة ثم أعادت فتحهما.

 

“آنسة بليك، العاصمة الآن تتعرض لهجوم مفاجئ من الوحوش، لذا يصعب على القدّيسة مغادرة هذا المكان.”

 

‘هاه، وأخيرًا دخلوا في صلب الموضوع.’

 

“غير أنّ الموجات السحر الاسود في الشرق آخذة في التصاعد بلا انقطاع، فالوضع هناك أيضًا يستدعي تدخّلًا عاجلًا.”

 

أمالت لويسا رأسها قليلًا، تتأمل بيلا والكاهن الأكبر على التوالي.

 

“إذن فلتتوجّهوا إلى الشرق.”

 

“أرغب بذلك، لكن كما ذكرت آنفًا، العاصمة بدورها في خطر…….”

 

“ولهذا قلت إنني هنا في العاصمة أصلًا، فلتذهبوا أنتم إلى الشرق.”

 

“آنسة بليك!”

 

“سيادة الكاهن بيدْآل، اخفض صوتك. كيف لك أن ترفعه بهذا الشكل المخيف في الكنيسة المقدسة؟”

 

“ذلك لأنكِ قاطعتي حديثي دون إذن.”

 

“أتسمي هذه مقاطعة؟ هذا مؤسف. ألسنا نحاول أن نجد ما نتفق عليه ونتحاور على أساسه؟”

 

انتفخت العروق في جبين بيدْآل حتى بدت واضحة، وارتجفت وجنتاه وفمه المغلق كأنّه يكبح جماح غضب شديد.

 

‘مظهره هكذا أهون بكثير من وجهه المتملّق كالأفعى.’

 

ولكي تكبح ابتسامة رضا كادت تفلت، تظاهرت لويسا بالتجهم.

 

“القدّيسة تعاني إنهاكًا متراكمًا يمنعها من استخدام قوتها. هل تدركين ما مقدار ما عانيناه في العاصمة بسبب عجزها؟!”

 

“أعرف جيدًا. فأنا من حلّ الأمر.”

 

كانت واضحة محاولة تغطية تهرّب القدّيسة من التطهير بذريعة الإرهاق. مهما يكن، فلا شك أن ثمة علاقة خفية بين الاثنين.

 

“كنتِ حاضرة بنفسك، فتعلمين الحقيقة. وإن لم تنجح في الشرق كذلك، فلا معنى لإرسالها. أليس الأجدر أن يُوفد من هو أكثر قوّة وحيوية؟”

 

“أجل.”

 

لوّحت لويسا برأسها موافقة، فارتسمت على فم بيدْآل ابتسامة انتصار لحظية.

 

“لكن يا سيادة الكاهن بيدآل، ألم يُبلّغك أحد بالتقارير؟”

 

تجمد وجهه في الحال.

 

“أين هو ذلك الشخص القوي؟ أنا نفسي كدت أفقد حياتي ثلاثة أيام كاملة بعد التطهير في الشرق. وفي العاصمة أيضًا سقطت مغشيًّا عليّ وحُملت إلى الخارج.”

 

“لديّ تقارير تفيد أنكِ لم تفقدي وعيكِ في العاصمة.”

 

“معلوماتك مغلوطة إذن. لقد سقطت، ثم قضيت أيّامًا مريضة أعاني، وهذا أمر ثابت.”

 

‘صحيح أنّ رافاييل بالغ في الاهتمام وحملني بنفسه، لكن ما يضرني لو تجاهلت ذلك؟’

 

أغمضت لويسا عينيها ببجاحة وهي ترمش ببراءة.

 

“أتريدين حقًا أن نُقارن شدّة الآلام الآن؟ إنّه حدث جلل يخصّ الإمبراطورية! كيف تذكرينه بخفّة لسان؟”

 

“ألم تكن أنت من بدأ بالحديث عنه أولًا يا سيادة الكاهن؟”

 

“أوه! أهذا وقت التلاعب بالألفاظ؟!”

 

وضرب بيدْآل الطاولة الكبيرة براحته ضربة مدوّية.

 

لزم الكهنة الصمت مترقبين، بينما لمعت عينا بيلا وهما مثبتتان على لويسا وحدها.

 

سرت ثوانٍ من الصمت الخانق. وبرود قاتم غلّف عيني لويسا البنفسجيتين.

 

“صحيح أن لديّ القدرة على التطهير، لكن ليس من حقّكم أن تفرضوا عليّ أوامر بهذا الشكل الاعتباطي. وبلهجة فيها كل هذا الجفاء.”

 

“جفاء؟! إنّي لم أزل أكلّمك بكل احترام.”

 

“أتقول ذلك حقًا وتظنّه صحيحًا؟”

 

“……بالطبع!”

 

“مخيّب للآمال. لم أتوقع أن يكون الكاهن الأكبر رجلًا على هذه الدرجة من العنف.”

 

وما إن سقط بصرها على يده الموضوعة على الطاولة حتى انتفض وسحبها بتوتر.

 

“لا أظنّ أن هذا حوار، بل محاولة لفرض قرار أحادي. ولن يكون الأمر هكذا. من الآن فصاعدًا، إن أردتم مخاطبتي، فليكن عبر أسرة الدوق بليك فقط.”

 

“آنسة بليك!”

 

انتفض بيدْآل واقفًا، فنهضت لويسا بدورها تلاقيه بنظرة صارمة.

 

“يبدو أن سيادة الكاهن الأكبر يحمل عداءً دفينًا تجاه أسرة بليك. كيف يمكنكم تفسير تهجّمكم على الابنة الوحيدة للأسرة بهذا الشكل؟”

 

“سيادة الكاهن! لا يليق هذا بك!”

 

“الكاهن بيدْآل! أيليق بك أن تجعل المجلس يتوتر هكذا؟”

 

فمهما كان القصر الإمبراطوري قد أعطاهم صلاحيات، فإن صدامًا مباشرًا مع أسرة الدوق بليك سيظل محدود العواقب.

 

فأسرة الدوق بما تحمله من نفوذ عسكري ومالي، هي الركيزة الوحيدة التي تحفظ الشمال بأسره. 

 

ولو حملت ضغينة تجاه الإمبراطورية، لصار الأمر معضلة عظمى.

 

فضلًا عن أن الكنيسة نفسها اعتادت الاستعانة بفرسان الشمال مرارًا، فلا يمكنها أن تفرّط في علاقتها مع تلك الأسرة بهذه السهولة.

 

وكان الدوق بليك رجلًا يفكر دومًا في الاحتمالات البعيدة، فلو ساءت الأمور لم يكن يستبعد خيار اللجوء السياسي أو حتى تأسيس دولة جديدة تمامًا.

 

ولذلك، فإنّ الإمبراطور كما الكنيسة الكبرى، وهما يعلمان جيدًا ما يتمتع به الدوق من قدرة على الفعل والحركة، لا بدّ أن يضعا هذا الاحتمال في حسبانهما ويتوجسا منه دائمًا.

 

قال بيدآل كبير الكهنة بصوت جهوري:

 

“الآن آنسة بليك تُهين الكنيسة! أوَلم تُمنح قوة مقدسة؟ فبدلًا من أن تُسخّرها فيما هو حق، تريد استغلالها للهيمنة والتلاعب!”

 

“سيدي الكبير!”

 

“أخرس!”

 

ومع ذلك، ظلّ متشبثًا بكبريائه على هذا النحو… فما الذي يجعله واثقًا إلى هذه الدرجة؟ ما الذي يسند ظهره ليقف هكذا متغطرسًا؟

 

وبينما ارتفعت أصوات الكهنة من خلفها، كانت لويسا تمشي نحو الباب، فقفزت بيلا وأمسكت بذراعها على عجل.

 

“الآنسة الشابة! لحظة فقط!”

 

“نعم؟”

 

“أتنوين حقًا أن تغادري هكذا؟”

 

“نعم. أظن أني قلت كل ما لدي.”

 

كان صوتها حازمًا، فانكشف القلق جليًّا على وجه بيلا.

 

“الكبير بيدآل قلق جدًا بشأني. يخشى أن أنهار إن ذهبت إلى الشرق، فلذلك تشدد في الأمر… فهل لا تعيدين محاولة الحديث معه بهدوء؟”

 

“لقد أوضحتُ رأيي بجلاء. إن غادرتِ يا صاحبة القداسة العاصمة، فسأتولى أنا مهمة التطهير هنا.”

 

“لكن هذا──!”

 

“هذا أقصى ما أستطيع قبوله. إن أرادوا أكثر من ذلك، فلن يكون بيننا حديث.”

 

“الآنسة الشابة!”

 

“ألن تُفلتي ذراعي الآن؟ بدأ الأمر يؤلمني.”

 

كانت قبضتها محكمة لدرجة أن الدم يكاد يتوقف عن الجريان.

 

ونظرت لويسا بهدوء إلى وجه بيلا، وقد تبدل بريق عينيها اللطيفتين إلى نظرة مليئة بالحدة، وملامحها متشنجة، وعيناها محمرّتان، وشفاهها منطبقة بغضب مكبوت، ويداها ترتجفان.

 

بدت وكأنها كانت تريد أن تُجرّ لويسا معها لتشهد بنفسها ذهاب لويسا إلى الشرق، لكنها إذ فشلت ظهر وجهها الحقيقي الخبيث.

 

“صاحبة القداسة، الكهنة خلفك لا يعرفون ماذا يفعلون الآن.”

 

أما زلتِ مطمئنة ووجهك مكشوف بهذا الشكل؟ 

 

قالتها لويسا بتلميح مبطن، فما كان من بيلا إلا أن أفلتت ذراعها فجأة كأنها نزعتها بقوة، ثم أسدلت رأسها وأخفت وجهها بين كفيها.

 

‘آه… أهذا تمثيل دور الضحية إذن؟’

 

حرّكت لويسا أصابعها لتستعيد الإحساس بيدها، ثم وضعت كفها بلطف على كتف بيلا وقالت:

 

“أظن أنّك تشعرين بالأسف لأنك جئتِ بي إلى هنا لتساعديني، وانتهى الأمر على هذا الشكل.”

 

ثم انحنت نحو الكهنة الذين اقتربوا وهم قلقون وهمست:

 

“منذ البداية، صاحبة القداسة هي التي أصرت على الذهاب شرقًا. فلماذا يتدخل آخرون ليثيروا الخلاف؟ على أي حال… أرجوكم اعتنوا بها جيدًا.”

 

ارتجفت كتفا بيلا عند تلك الجملة، حين أشارت لويسا إلى أن بيلا نفسها من قالت إنها ستذهب أولًا إلى الشرق.

 

ثم حيّت لويسا الكهنة ببرود، وغادرت المكان بخطوات واثقة.

 

***

 

“لويسا.”

 

التفتت إلى الصوت المألوف.

 

“القائد رافاييل! آه، يبدو أن السير آندي قد نقل إليك كلامي. جيد.”

 

“نعم. إذن انتهى الحديث كله؟”

 

“نعم.”

 

اقترب رافاييل وسار بمحاذاتها، فتراجع الفرسان المرافقون بضع خطوات خلفهم.

 

“كنت أرغب بالدخول، لكن خفت أن لا ترغبي، فانتظرت.”

 

توقفت خطوات لويسا لوهلة.

 

‘ماذا؟! هل يطلب مني أن أمتدحه؟’

 

“هل أحسنتُ صنيعًا إذن؟”

 

‘إذًا نعم… كان ينتظر الثناء حقًا.’

 

أومأت لويسا برأسها بصلابة وهي في حيرة، فارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه، لم تكن واضحة جدًا لكنها بدت كإشارة على شعور بالرضى والفخر.

 

ظلت لويسا تحدّق فيه مذهولة للحظة، ثم ما لبث أن عاد إلى جديته المعتادة، فأعاد عليها السؤال:

 

“هل لي أن أعرف ما الأمر أصلًا؟”

 

“آه… أرادوا مني أن أذهب لمساعدة الشرق.”

 

“ماذا تقولين! ولماذا تذهبين إلى الشرق أنتِ؟!”

 

لم يكد ينهي كلامه حتى انتفض رافاييل بغضب، وقد ارتسمت على وجهه علامات الانزعاج الشديد.

 

لكن الغريب أن لويسا شعرت بالسكينة أمام غضبه، كأن شيئًا ما يثبت ظهرها ويمنحها أمانًا.

 

“لا تقولي إنك وافقتِ؟”

 

ارتخت ملامحها قليلًا.

 

“كلا. قلتُ بوضوح إن ذهبت صاحبة القداسة للشرق وحصل خلل، فسأتولى أنا مهمة التطهير. لكنهم رفضوا.”

 

“رفضوا؟! ولماذا؟”

 

“قالوا إن صاحبة القداسة متعبة جدًا، ولن تقدر على تحمل أعباء الشرق. وأنا أيضًا ذكرت أنني سقطتُ مريضة بعد التطهير، فلم يقبلوا.”

 

“أحسنتِ. لكن من الذي تجرأ وطلب مثل هذا الطلب السخيف؟ أكان جميع الكهنة؟”

 

“لا. بدا أن الكبير بيدآل وحده هو الذي أصر.”

 

“بيدآل… إذن هو.”

 

“هل تعرفه جيدًا؟”

 

****

ترجمة : سنو

 

بالنسبه لقُراء المواقع.

انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )

 

بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee

او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee