كانت نبرتها تعني بوضوح: إن كان الأمر قصيرًا فقولي ما لديكِ هنا وعودي سريعًا.
سواء أدركت بيلا تلك الإشارة أم لم تفعل، فقد هزّت رأسها بهدوء وفتحت فمها لتجيب:
“لا. يمكنني الحديث هنا. لكن… هل كنتِ في طريقكِ للخروج ربما؟”
“نعم.”
تأملت بيلا بعناية ثياب لويسا التي أعدّتها سلفًا لموعدٍ آخر، ثم عقدت حاجبيها بحرج.
“هل يجب أن تذهبي حالًا؟”
“قديسة، قولي غرضكِ مباشرة.”
“آه، المعذرة. فقط… لأن الخروج هو بالضبط سبب مجيئي، فارتبكت قليلًا.”
“……خروجي هو الغرض؟”
“متى موعدكِ؟ إن استطعتِ أن ترافِقيني قليلًا إلى الكنيسة الكبرى فقط، فذلك يكفي. ألن يكون صعبًا؟”
انقبض جبين لويسا.
“حقًّا أمر يثير الدهشة. لم تكتفِ بزيارتي بلا إخطار، بل تدعينني فجأة لمرافقتكِ إلى الكنيسة؟”
“أعتذر. لقد تقرر عقد اجتماع طارئ في الكنيسة الكبرى، ورأيت أنّ حضوركِ ضروري.”
“اجتماع في الكنيسة؟ وما حاجتي أنا إليه؟”
“……لأن سبب الاجتماع هو حضرتكِ بالذات.”
خفضت بيلا بصرها بوجهٍ متأثر، حتى بدا وكأنها المظلومة، مع أنّها هي من أقدمت على الزيارة الوقحة. لو رآهما غريب لظن أن لويسا هي من تضايقها.
“فكرتُ أنه من الأفضل أن تسمعي الأمر بنفسك. لذلك جئتُ على عجل قبل أن يبدأ الاجتماع… أرجو المعذرة.”
“وأيّ أمرٍ ذاك الذي لا بد أن يحضره المعنيّ بنفسه؟”
تنفّست لويسا بعمق وهي تقولها.
صحيح أن بيلا تكرر كلمة المعذرة، لكن من الواضح أنّها لا تنوي العودة وحدها.
فهي رغم حذرها تقول ما تريد قوله، وزادت على ذلك أن جاءت بنفسها.
لم يبدُ عليها مطلقًا أنّها ستتراجع.
سادت لحظة صمت.
ثم تحركت شفتا بيلا الورديتان مترددة:
“……بعثة حضرتكِ إلى الشرق.”
‘هذا لم أتوقعه قط.’
تجمّد وجه لويسا وبرودٌ جليدي اكتسى ملامحها.
***
تسارعت المشاهد خلف نافذة العربة. جلست لويسا تحدّق في الخارج، متجاهلة نظرات بيلا الجالسة قبالتها.
الأصل أن وجهتها كانت القصر الإمبراطوري، فإذا بها تُساق فجأة إلى الكنيسة. والأسوأ أنّها أُجبرت على ذلك، فزاد انقباض صدرها.
‘لا بد أن أرى وجوه من يدبّر هذا.’
لم تعرف ما نواياهم بذكر إرسالها إلى الشرق: أهو محاولة لإخضاعها لرفضها منصب القديسة؟ أم مجرد خطوة لمراقبتها وكبحها؟ أياً يكن، فالوضع لا يبشّر بخير.
فالإمبراطور سقيم، والكاردينال منقطع في قاعة الصلاة. قد يصدر قرار جائر بلا رقيب.
وإن فعلوا، فهذا يعني أنهم مستعدون لعداوة الدوق بليك.
لكن لماذا هي بالذات؟
ما الذي يدفعهم إلى المجازفة؟
ذهبت لويسا بنفسها لترى الأجواء. لكن ما أحزنها أنّها فوتت ذهابها إلى المكتبة الإمبراطورية مع رافاييل.
‘لا يجب أن تتباعد الطرق. ليتني ألتقيه مباشرة في الكنيسة، وإلا وجب أن أوصي فرسانه بتبليغه.’
وصلت العربة أمام البوابة الرئيسية للكنيسة. ومع بطء حركتها التفتت لويسا فرأت بيلا لا تزال تنظر إليها.
التقت عيناهما لحظة، وسرعان ما انقشع الجمود عن ملامح بيلا ليظهر ابتسامة رقيقة.
“ألستِ متوترة؟”
“……لا أدري.”
ابتسمت بيلا بحرج إزاء جواب لويسا المقتضب.
“أعرف أنكِ لا ترغبين بالمجيء. لكن لستِ مضطرة لإخفاء ذلك عني. سأحاول مساعدتكِ قدر ما أستطيع.”
‘هاه، وكأنها قادرة.’
أطلقت لويسا سخرية في سرها وأدارت وجهها نحو الباب.
على أي حال، كان الدوق بليك قد منحها الإذن بألا تبالي بعداوة الكنيسة.
فمنذ رفضها منصب القديسة، كان قد صرّح بذلك بوضوح. ولو لم يسافر اليوم إلى الشمال، لكان بالتأكيد رافقها إلى هذا الاجتماع.
بل لعلّهم استغلوا غيابه لجرّها إلى هنا.
شكوكٌ لا حصر لها تسللت في رأسها، لكن وجهها ظلّ ساكنًا وهي تنزل من العربة.
“الآنسة الشابة؟”
“آه.”
فإذا بوجه مألوف يرحّب بها فورًا.
‘أليس ذاك من قدّم نفسه سابقًا بصفته مساعد رافاييل الخاص؟ لكن… ما اسمه كان؟’
“أنا آندي وايت. نادِني فقط بآندي، رجاءً.”
ربما شعر بتردّدها، فاقترب منها بابتسامة ودّية.
“نعم، السير آندي.”
“أشكرك. لكن ما سبب مجيئكِ مع الآنسة القدّيسة؟ آه، على كلٍّ، القائد خرج قبل قليل.”
“كان لديّ أمر أريد مقابلته من أجله. تقول إنّ رافاييل خرج؟”
“نعم، قبل خمس دقائق.”
“آه…….”
لم تظن أنّه سيغادر بهذه السرعة. فقد قيل إنّه سيأتي عند الظهيرة، فظنّت أنّ هناك متّسعًا من الوقت.
“هل تحملين شيئًا تودّين أن أبلّغه؟”
سأل آندي بذكاء.
“كنت قد اتّفقت على لقائه وقت الغداء. كنت أنوي تأجيل الموعد إن التقينا في الكنيسة، لكننا أخطأنا الطريق على ما يبدو.”
“إذن سألحق به فورًا. هل عليّ أن أتوجّه إلى قصر الدوق بليك؟”
“إن كان قد خرج مبكرًا بالفعل، فالأرجح أنّه توجه إلى هناك.”
“مفهوم.”
انحنى قليلًا ثم انصرف بخطوات سريعة. وبينما همّت لويسا أن تتنفس الصعداء، جاءها صوت منخفض من خلفها:
“خروجك كان بسبب القائد إذن.”
كان الصوت عائدًا إلى بيلا التي وقفت خلفها.
وحين التفتت إليها، رأت عينيها الغارقتين وهي تحدّق فيها، وشفاهها المرسومة بانتظام ارتسمت عليها مسحة جمال، لكن ابتسامتها حملت برودة مغايرة لبراءتها السابقة.
قابلت لويسا نظرتها في صمت. والسكوت القصير ذاك أشعرها باختناق شديد كأنه يخنق عنقها.
“……أندخل؟”
ابتسمت بيلا في وجهها.
ابتسامة صافية على غير ما كانت عليه قبل قليل، جعلت ملامح لويسا تتجهم قليلًا.
‘قناع لا يُستهان به حقًا.’
***
“علينا أن نرسل الدعم إلى الشرق على الفور.”
“ذاك مفهوم. لكن كيف تفكرون بإرسال الآنسة بليك؟”
“الإمبراطورية في خطر كبير، وإن حصلت على القوة المقدسة ثم تخلّت عنها، فذلك يُعد خيانة للجميع. وقد منحنا القصر الإمبراطوري وعدًا يمنحنا الحق في فرض الأمر عليها بالقوة إن رفضت.”
“من القصر الإمبراطوري نفسه؟ أوه، إن كان كذلك…….”
يبدو أنّ النقاش احتدم فعلًا. لكن ما لفت انتباهها أكثر من تهديد القوة القسرية كان ذِكر القصر الإمبراطوري.
“يبدو أنّ الاجتماع بدأ بالفعل. فلندخل.”
أرادت لويسا أن تصغي أكثر مما يدور خلف الباب، لكن بيلا فتحته فجأة، فانقطعت الأصوات الصاخبة على الفور.
بداخل القاعة، لم يكن يضيء المكان سوى وهج الشموع البرتقالي المتماوج. وما إن دخلت حتى تركزت أعين المجتمعين حول الطاولة الطويلة عليها.
“الآنسة القدّيسة، آه! الآنسة بليك!”
“ما الذي أتى بالآنسة بليك إلى هنا…….”
“لقد أحضرتها! فقد بدا لي أنّ عليها أن تسمع الأمر بنفسها.”
صرّحت بيلا ببراءة ومرح، غير أنّ ملامح الحرج ارتسمت على وجوه بعض الكهنة.
وبينما كانت لويسا تتجه نحو مقعد شاغر، وقع بصرها على وجه مألوف.
‘ذاك الكاهن الأكبر المتعجرف؟’
الكاهن الذي وقف إلى جانب القدّيسة في الشرق وتمادى في وقاحته معها، ها هو جالس على صدر المجلس. بخلاف البقية، لم يبدُ عليه أي اضطراب، بل لمع بريق في عينيه وهو يحدّق فيها بلا انقطاع.
‘إذن كان متفقًا مع بيلا من قبل؟’
خفضت لويسا جفنيها نصف إغماضة، تخفي نظراتها الحادة خلف كسَل مصطنع.
“سمعت أنكم تتحدّثون عنّي، فرأيت أن من المناسب حضور صاحبة الشأن. لعل وجودي لا يسبب لكم إزعاجًا؟”
“إزعاج؟ لا، إطلاقًا.”
“همم…….”
“إذن يا سيادة الكاهن بيدْآل، ما قولك؟”
اتجهت الأنظار نحو الكاهن الأكبر في صدر المجلس. وقد حفرت لويسا في ذهنها اسمه منتظرة حديثه.
“هذا جيد. لنجعل القرار واضحًا في هذا المجلس.”
ابتسم بيدْآل الكاهن الأكبر وكأنه يمنحها فرصة. فانحنى رأس لويسا قليلًا باستهزاء.
“تفضلوا بالكلام.”
اشتدت العروق في جبين بيدْآل وهو يضغط شفتيه للحظة، ثم أطلق كلماته ببطء كمن يمضغها:
“سأدخل في صلب الموضوع. هل صحيح أنّك ترفضين منصب القدّيسة؟”
مجرد انتقاء كلماته حمل نبرة سلبية نافرة.
“ليس رفضًا بل اعتذارًا عن تولّيه. فهنا بالفعل قدّيسة، وأنا أرى أنّني لست أهلًا بعد لحمل ذلك العبء العظيم، لذا آثرت أن أتراجع خطوة.”
“هاه…… آنسة بليك تعتبر نفسها غير كفؤة؟ أليس في ذلك مبالغة في التواضع؟”
“ليس تواضعًا. إنما هو قول ما أراه طبيعيًّا.”
“حقًّا؟ عجبًا! إنسانة بهذا القدر من السخاء والاعتراف، لا شك أن الحوار معها سيكون مثمرًا.”
ثم سرعان ما تراخت ملامحه بعدما كانت متصلبة، وارتفع فمه بابتسامة زاحفة كالثعابين.
“فلا شك أنّ في قلبك أيضًا رغبة عظيمة في مساعدة الآخرين أيًّا كان موقعك. وقد سألتك ذلك لأجل أمرٍ آخر، إذ الظروف لا تسمح بإقامة حفل التنصيب الآن. لكنك أثبتِ أنّك شخصية إيثارية، فأعجبتني روحك كثيرًا.”
“لكنّك تميل إلى المبالغة في تأويل كلماتي.”
“كلا. إنّما فهمت روحك الحقيقية. إذن، فلا ريب أنّك تدركين عظمة القوة المقدسة التي منحها الرب.”
‘حقًا رجل أفعى. حتى هيئته لا تُخفي خبث طبعه.’
اكتفت لويسا بترقّب ما سيتفوه به بعد.
“إنّ كثيرًا من المناطق اليوم تستغيث بالهيكل. ولا يقدر على تطهيرها إلا الآنسة القدّيسة وحدها، حتى غدت أعباؤها فوق الاحتمال.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 87"