حتى لو كانت لويسا باردة الطبع، لم يسعها إلا أن تشعر بجفاف في حلقها.
‘هل أنا حقًّا لست بخير؟ أشعر كأن شيئًا يضغط على صدري…’
ابتلعت ريقها ورفعت فنجان الشاي الذي قدمته لها ماري إلى شفتيها.
كانت قد فترت حرارته بما يكفي، فانسياب رشفته عبر حلقها خفّف وطأة الجفاف.
سألت بصوت عابر:
“كيف هو الجو في الكنيسة هذه الأيام؟”
لم تكن قد اهتمت بالسؤال من قبل، لكن بعدما سمعت أخبار ماري عن الخارج، راودها الفضول.
لم تكن تقصد صرف الحديث، أبدًا.
أجابها رافاييل بلا تردّد:
“بما أنك أظهرتِ قدرة على التطهير، فالحديث عن القديسة لا ينقطع. بعضهم يقول إن القديسة الحالية وأنتِ تعملان معًا…”
“……؟”
“وبعضهم يقول إنكِ وحدكِ من تستحقين أن تُعيّني قديسة، لأنك أظهرتِ القدرة بوضوح.”
“ماذا؟! إذن ماذا سيحل بالقديسة الحالية؟”
“يُقال إنهم يناقشون إمكانية تعيينها كاهنةً بدلًا من ذلك.”
“لكن… هذا غير منصف. مهما كان، لقد بذلت جهدها في التطهير.”
أي قسوة هذه؟ إن لم تعد بيلا قديسة، أفلا يعني هذا أنهم يريدون أن تتحمّل هي وحدها كل تلك المسؤولية؟ حتى لو شاركتها بيلا الحمل لكان الأمر فوق طاقتها، فكيف لو بقيت وحيدة؟!
‘مستحيل!’
فأسرعت لويسا والقلق يكسو ملامحها لتدافع عن بيلا:
“ربما ضعف التطهير عندها لأنها لم تكن بصحة جيدة. مجرد خطأ عابر، لكن الناس كانوا قساة جدًّا معها.”
راح رافاييل يرمقها طويلًا بعينين هادئتين، ثم أطلق تنهيدة خفيفة:
“كما توقعت… قلبكِ طيب للغاية.”
“…حقًّا لا يُحتمل.”
بدأت تشك أن رافاييل قد تعرّض لغسيل دماغ في مكان ما.
“أنت وحدك من تظن ذلك.”
“لا، لستُ وحدي.”
“مستحيل!”
“الرأي العام تغيّر كثيرًا. الجميع بدأ يرى حقيقتك. لقد تأثروا بشدّة بتفانيكِ واستعدادك للتضحية.”
سألتها بدهشة متثاقلة:
“…تضحية؟”
“نعم. يبدو أن السبب ما شاع قبل أيام عن أنكِ تعانين من مرض عضال.”
“آه…”
حين ذُكر خبر مرضها العضال، لم تُكذبه لعلّها تجد فيه ذريعة لفسخ خطبتها، لكن أن ينقلب الأمر الآن بهذا الشكل؟
لم يكن دافعها إنقاذ أحد من منطق بطولة أو عدالة، لكن ردود الأفعال كانت تتضخم بطريقة مقلقة.
“هممم… ربما يجدر بنا أن نصحح تلك الشائعة.”
“اتركيها لي، فأنا المسؤول عن معالجتها. لكن…”
صحيح أن الشائعة مصدرها الإمبراطورة، فمن الصعب القول إن مسؤوليته حقًا، لكنه عرض أن يتكفّل، ولم ترَ داعيًا لرفض مساعدته.
وليس لأنها تكره المتاعب!
فاكتفت بأن أومأت برأسها في صمت، تنتظر كلماته التالية.
“هل أنتِ متأكدة أنكِ تعافيتِ تمامًا؟”
“أنت تعلم أن الأطباء أكدوا ذلك، بل حتى الكهنة أيضًا.”
فمنذ عودتها من الشرق فحصها أكثر من طبيب، وأجمعوا على سلامتها، لكن عائلتها ورافاييل ظلوا ينظرون إليها بعين الشك.
ربما كان السبب أنها لطالما بصقت دمًا ثم أصرّت على القول إنها بخير.
“صحيح، لكن ربما هناك عارض آخر خفي. ألا يجدر بكِ أن يفحصكِ كاهن شفاء مرة أخرى؟”
قالت لويسا بهدوء:
“رافاييل، تعلم أن الكهنة أنفسهم يُرهقون إن يسرفوا في استخدام طاقتهم المقدسة.”
ارتسمت في عينيه نظرة حزينة وكأنه يعرف ذلك لكنه يأبى الاعتراف. فتابعت كلامها بنبرة مطمئنة:
“حين كنا في الشرق، ما حدث لي لم يكن سوى إنهاك من استخدام قوة لم أعتدها. لكن منذ ذلك الحين اعتدت على الأمر. قبل أيام استخدمت قوتي مجددًا ولم أشعر بأدنى تعب.”
قال بحدة خافتة:
“لكنّكِ كدتِ تسقطين.”
“كان مجرد خَدَر في ساقي. لم أفقد وعيي كما المرة السابقة، أليس كذلك؟”
تحركت شفتاه كمن يريد قول شيء ثم يتراجع. وانعكس وجهها الهادئ على عينيه الصافيتين كالماء.
“……هل أستطيع أن أصدقكِ حقًّا؟”
خرج صوته متباطئًا مشوبًا بأنفاسه.
كانت عيناه تحملان خليطًا من مشاعر متناقضة، لكنها قرأت فيهما شيئًا واحدًا بوضوح:
أنه كان قلقًا عليها بصدق.
“نعم.”
كانت إجابة حاسمة.
جواب واثق لا يترك مجالًا لأي شك، ومع ذلك ازدادت نظراته عمقًا وكأنّه يريد التأكد من صدقها أو استشفاف ولو ذرة كذب.
ساد صمت قصير.
ورغم أنّ لويسا لم ترغب في أن تكون هي من يشيح ببصره أولًا، إلّا أنّ عينيها اضطربتا قليلًا وهي تواصل النظر إليه.
كلما أمعنت النظر أكثر، تراءت في عينيه الزرقاوين مشاعر شتى.
قلقٌ وحيرة، تتخللهما ملامح مودة صافية.
كان الأمر أشبه باكتشاف ما لم يكن ينبغي أن يُكتشف.
صحيح أنّه سبق واعترف لها، غير أنّ الإحساس به مباشرًا يختلف كثيرًا عن سماعه بالكلمات فقط.
ولما واجهت شظايا الحقيقة التي حاولت طيلة الوقت إنكارها، عادت ملامحه وسلوكه السابقة لتطرق قلبها بقوة جديدة.
‘……يا للمصيبة. لكن لماذا أشعر فجأة بهذا الغثيان؟’
ازدادت الورطة سوءًا.
لم تدرِ أهو الانزعاج من الموقف الذي ضيّق صدرها، أم أنّ معدتها مثقلة حقًا.
ومع اشتداد الثقل في أعلى بطنها، انتهى الأمر بلويسا بأن صرفت نظرها عنه أولًا.
“على ذكر ذلك، برأيك ماذا سيؤول إليه موضوع القديسة مستقبلًا؟”
غيّرت مسار الحديث عمدًا وحدقت في فنجان الشاي أمامها.
“تُتداول بعض الأحاديث في الداخل، لكن بما أنّ جلالة الإمبراطور ليس في صحة جيدة، فلن يكون من السهل المضي قدمًا بجدية.”
“آه، هكذا إذن…….”
ارتاحت قليلًا، لكنّها لم تستطع إظهار ذلك، إذ لا يليق أن تفرح بمرض الإمبراطور، فاكتفت بإنهاء كلامها بلا تعبير.
“كما أنّ سيادة الكاردينال قد دخل اليوم في صلاة الرسل.”
“صلاة الرسل؟”
“ويُطلق عليها في الداخل أيضًا صلاة الإخلاص. قد تدوم أسبوعًا واحدًا أو تمتد لأشهر، حيث يبقى في قاعة الصلاة لا يغادرها متفرغًا للدعاء. وبالنظر إلى سوء الأوضاع حاليًا وإلى وضعه الصحي، يُرجّح أن يعود في غضون أسبوعين تقريبًا.”
“آه. إذن حتى لو استمر الحديث في الكنيسة حول القديسة، فلا يوجد الآن من يملك سلطة الحسم، أليس كذلك؟”
“بلى. في العادة يوكَل بعض الصلاحيات إلى أحد كبار الكهنة، غير أنّه هذه المرة لم يُعيّن أحدًا قبل أن يدخل.”
‘هذا في صالحي تمامًا…… أيمكن أن يكون قد تعمّد ترك منصبه لهذا السبب؟ لقد وعد بألّا تُطرح مسألة منصب القديسة ما دام هو موجودًا…….’
‘لا، مستحيل. صحيح أنّه وصفني بالمنقذة، لكن هل كان ليفعل كل هذا لأجلي؟’
ارتسمت على وجه لويسا ملامح حيرة، كمن واجه لغزًا لم يُحل بعد، حتى همهمت بلا وعي.
عندها راقبها رافاييل بتمعن، وقد ازدادت نظرته عمقًا.
“لويسا.”
“نعم؟”
“يبدو أنّك متحفظة تجاه منصب القديسة. هل أنا محق؟”
“نعم. إنه منصب يبعث على عبء ثقيل.”
ربما لصراحتها القاطعة، لم يجد ما يقوله مباشرة.
‘همم، لكن لا ضرورة لإخفاء الأمر. ربما حان الوقت لأصرّح به بوضوح.’
هزّت لويسا كتفيها قليلًا ثم تابعت:
“بما أنّ هناك بالفعل قديسة، فلا أرى داعيًا لأن أتقلد أنا المنصب أيضًا. وبصراحة، لا أرغب في مزيد من الأضواء، كما أنّني لست من النوع الذي يتظاهر بالتسامح ويحتوي الجميع.”
“هذا غير صحيح. لو لم تكن لديك طبيعة الرعاية، لما خطرت ببالك أصلاً فكرة مساعدة أحد.”
“ذاك لأن الموقف كان عاجلًا. أيّ شخص في مكاني كان سيفعل ذلك.”
“لكن هناك من لا يفعل.”
كان صوته حاسمًا.
بدا أنّ أي حجة إضافية لن تُجدي معه.
أطبقت لويسا شفتيها بتعبير متردد.
وبينما سرح قليلًا في الفراغ وكأنّه غارق في التفكير، عاد رافاييل يوجه بصره إليها.
“هل أبحتِ للكاردينال أيضًا برأيك المتحفظ تجاه منصب القديسة؟”
لو كان جالسًا أقرب لقرّب وجهه إليها في الحال، ثم قال:
“لعل الكاردينال أراد فقط أن يمنحك بعض الوقت.”
“……عذرًا؟”
“الكاردينال رجل قادر على إقناع من حوله وإدارة الأمور بحكمة. لكن هذه المرة، ما إن سمع بقدرتك التي ظهرت في مهرجان الصيد، وبدأ الآخرون يتحدثون عن رفعك إلى مقام القديسة، حتى قال: الأوضاع مضطربة، والأجدر أن نتضرع للرب ليلطف بنا أولًا. ثم فجأة دخل إلى قاعة الصلاة.”
‘أوه…… إن استمعتُ للأمر هكذا، قد يكون بالفعل فعلها بسببي؟’
حدّقت لويسا في الفراغ لحظة، ثم رمشت متفاجئة.
“لكن لماذا لا يحثّني الكاردينال على تولي المنصب؟ أعني، لا لأنني أرغب به، بل لأن الغالبية تدفعني إليه، فأمره يثير فضولي.”
“لأنه أدرك أنكِ حتى من دون أن تشغلي منصب القديسة، لن تتجاهلي الأخطار.”
“أدرك ذلك……؟”
“لقد ساعدتِ الآخرين بكل إخلاص في الشرق، وكذلك في مهرجان الصيد.”
“آه.”
“وفوق ذلك، فالكاردينال ليس من النوع الذي يفرض المنصب قسرًا على من لا يريده.”
إدراكه ذاك جعل شعورًا غريبًا يتملكها.
صحيح أنّه يمكن أن يُفسَّر سلبًا بأنّها متهورة تتقدم بنفسها دائمًا، لكنها لم ترد تقبّل الأمر بهذا المعنى.
ثم إنها حين التقت الكاردينال وجهًا لوجه، لم تجد في تصرفاته ما يوحي باستغلال أو إلزام. بل على العكس، والآن وقد تذكرت ابتسامته، بدا لها أنّ فيها ومضة تقدير وافتخار خفية.
‘في النهاية، هذا يصب في مصلحتي.’
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 85"