لست مصابة بمرض عضال! [ 83 ]
“هل تخدعني عيناي الآن؟”
قالها أحدهم وهو يفرك عينيه غير مصدّق، بينما غمر آخرين شعور من الخشوع والرهبة أمام ذاك المشهد المقدّس الذي لا توصف كلماته.
‘آه… ربما عليّ ألا أفرط في الأمر أكثر.’
كبحت لويسا اندفاعها، وسرعان ما استرجعت الطاقة بخلاف ما بدأت به حين نشرتها ببطء.
وما إن هبّت نسمة دافئة حتى انطفأ النور الباهر وامتصه جسدها، فاختفى تمامًا.
“هاه…”
ارتسمت البهجة على وجه المرأة التي كانت تراقبها بقلق، فقد بات نفس الماركيز الشاب فياتشي أكثر هدوءًا بعد أن كان متقطعًا ومرهقًا.
“…جيس؟”
في الهمسة التي حملت بصيص أمل ارتعشت أجفان الشاب، فسارعت المرأة تمسح وجهه بلهفة غير مبالية بالدماء التي لطّخت ثوبها.
شيئًا فشيئًا زالت البقع السوداء الكالحة، وبان وجهه الشاحب.
وكانت يد لويسا قد فارقته بالفعل، غير أن عينيها التقطتا بهدوء ومضات اللون الفيروزي البادي في عينيه العائدتين إلى وعيهما.
“كاي…تلين؟”
تمتم الماركيز الشاب وهو يفتح عينيه باهتًا يبحث عمن ناداه.
“جيس!”
أسرعت كايتلين، بوجه مفعم بالفرحة لتحتضنه.
وما لبث أن وصل الماركيز فياتشي وزوجته اللذان كانا يلهجان بالدعاء، فانخرطا في لمس وجهه والبكاء من الفرح.
“شكرًا لك، شكرًا لك…!”
لم تستطع الماركيزة أن تخفي انفعالها، فانحنت مرارًا للويسا امتنانًا.
فاكتفت لويسا بإيماءة صامتة، ثم حاولت أن تنهض كي تتيح لهم أن يعيشوا فرحتهم بسلام. لكن يدًا امتدت تسندها برفق.
“هل أنتِ بخير؟”
كان رافاييل.
التقت نظراتها بنظراته القلقة، فما كان منها إلا أن رفعت طرف شفتيها بابتسامة خفيفة.
“نعم.”
لم تعلم لِمَ، لكن ابتسامة خرجت منها بعفوية.
فالمكان الذي كان يغمره النحيب صار فجأة مسرحًا للبهجة.
“انظروا! اختفت البقعة السوداء من وجهه! أيها الكاهن، تعال انظر!”
“هنا أيضًا!”
“تيري! هل تسمعني؟!”
“يا رباه…”
نهضت لويسا متكئة على يد رافاييل، لكن ما إن حاولت الوقوف حتى شعرت بوخز شديد في ساقيها اللتين خدرهما طول الجلوس.
“آخ─.”
“لويسا!”
أسرع رافاييل يمسك بظهرها ليسندها قبل أن تتعثر.
‘يا للعجب… أستخدم قوى التطهير ولا تساعد حتى على تنشيط الدورة الدموية! ياللبؤس.’
ابتسمت بارتباك وهي تشد شفتيها إلى الأمام.
“لقد أثقلتِ على نفسك، أليس كذلك؟”
“ماذا؟ لا، لم أقصد… إنها فقط قدماي…”
“لا داعي لتخبئة الأمر. قلبكِ رقيق أكثر مما ينبغي.”
“قلبي؟ أنا؟”
‘أهو يقصد حقًا أنني رقيقة القلب؟ أليس هذا طبيعيًا؟’
حدّقت به مذهولة، وما هي إلا لحظة حتى رفعها بين ذراعيه دون تردد.
“هاه! انتظر! ليس عليك أن تفعل هذا!”
“لن أتركك.”
أجاب بصرامة.
“في الآونة الأخيرة صرتِ طيبة إلى حد مفرط. لا تهتمين بجسدك، وكل همّك إنقاذ الآخرين…”
‘هل يتحدث عني أنا حقًا؟!’
انعقد لسان لويسا من شدة الدهشة، ولم تجد مخرجًا سوى أن تلتفت إلى الدوق بليك وديميان وكأنها تستنجد بهما.
“فلنعد فورًا.”
“هل كان علينا إيقافك من البداية؟ لويسا، أنتِ بخير حقًّا؟”
…ربما ترك فيهم ما جرى لها في الشرق أثرًا أعمق مما توقعت.
برغم كل ما كررته حينها بأنها بخير، يبدو أنهم لم يقتنعوا في أعماقهم.
‘آه… لا جدوى.’
غطت لويسا وجهها بيديها مستسلمة، وقد أحسّت بثقل نظرات الحضور يتزايد من كل اتجاه.
“فلنعد إلى المنزل أولًا.”
كان الحل الأنسب أن يرحلوا سريعًا إلى القصر.
***
“يا قديسة.”
بوجه شاحب كانت بيلا تلمح الخارج خلسة، ثم تراجعت مترنحة.
أما الكاهن الذي كان داخل الخيمة يحاول تهدئة القديسة، فقد أُخذ بالدهشة من قدرة لويسا غير المتوقعة، ثم انتفض منادياً بيلا.
ومثل من يوشك على الانهيار، مضت بيلا مترنحة إلى وسط الخيمة، ثم تمتمت بصوت واهن:
“أريد أن أبقى وحدي.”
“ولكن…….”
تردد الكاهن، إذ رأى أن بقاء أحدٍ معها أمر ضروري، فناداها بحذر.
غير أن النظرة الحادة التي ارتدت إليه في الحال لم تترك له مجالاً.
“قلتُ اخرُج!”
تلك النبرة الحادة التي لم يعهدها من قبل جعلت الكاهن يرتجف متراجعاً خطوة إلى الوراء.
ومع تردده في التراجع أكثر فأكثر، انتهى به المطاف إلى الفرار خارج الخيمة.
كان يمكن أن يفسر ذلك بانفعال هيستيري، غير أن شدة وقع بيلا كانت قاتلة إلى حدٍّ لا يمكن الاستخفاف به.
وبلا سبب واضح، شعر الكاهن بضيق خانق يدفعه للهرب من الخيمة، ولم يلتفت خلفه.
“هاه…… هااه…….”
كانت بيلا تلهث كما لو أن الغضب الذي بداخلها لم يجد ما يطفئه.
وعيناها الخضراوان اللتان كانتا أشبه بخضرة مطلع الصيف، فقدتا بريقهما الجميل وغدت نظراتها كئيبة قاتمة.
شدّت قبضتها على الكرسي الخشبي حتى ابيضّت أناملها من شدّة الضغط.
‘هي… هي مجدداً تلك المرأة.’
كانت يداها المرتجفتان مع فكّها المشدود، ترتجفان حتى صار الدم لا يجري فيهما، وملأ عينيها دموع تنبئ بظلمٍ لا يُحتمل.
الناس الذين قبل قليل بدوا وكأنهم على وشك افتراسها، أصبحوا الآن ضاحكين فرحين.
لم تكن قد تقاعست، لقد حاولت هي أيضاً أن تُطهِّر شخصاً، لكنها شعرت بالإعياء فأرادت أن تستريح قليلاً لا أكثر!
لكن ألسنة الناس الجاحدة واجهتها بالتوبيخ كأنها مذنبة، والعيون التي كانت تمطرها بالثناء انصرفت عنها.
‘لماذا لا أنجح مثلها؟ أنا القديسة…… أما تلك المرأة فليست بشيء!’
رمقت بيلا يديها المرتجفتين، ورأت راحتيها اللتين اسودّتا كأنهما تعيّرانها بأنها قديسة معيبة.
شعر قلبها وكأنه يحترق.
فركت راحتيها بثيابها في هلع.
كانت قد حاولت ذلك مراراً منذ قليل حتى احمرّ جلدها واشتدّت حرارته، لكن اللون لم يتغير.
كدت تصرخ.
كدت أُفرغ ما يعتمل بداخلي من ضيق، غير أن عقلي لم يكن قد فقد رشده لدرجة أن ينسى الضوضاء بالخارج.
‘لويسا بليك. شعر باهت بُني، وعينان بنفسجيتان باهتتان. لا يميزها عني شيء سوى أنها من ذلك البيت العظيم.’
امرأة جشعة لا يحبها أحد، لئيمة تمسّكت برقبة رافاييل ظلماً.
هكذا قالوا جميعاً.
لكن لمَ لا يظهر عليه أثر ذلك؟
‘إنه رجل ذو مكانة رفيعة. بالطبع يراعي الناس. لذا يتحمّلها.’
“مولاتي القديسة، لا تطلبيني على نحو شخصي.”
حتى تكررت أمامها صورته الباردة.
رافاييل بعينيه الزرقاوين، كان يجاهر بالضجر والضيق منها.
في حين أن عيناه الدافئتان التي يغدقها على لويسا لم تُرها هي قط، بل لمحت منها دوماً جليداً يجمّدها.
يا له من ظلم.
‘لو كنتُ خطيبته، لما اتجهت تلك النظرات نحو لويسا أبداً.’
وها هي الآن تستحوذ حتى على نظرات الإعجاب التي كانت من نصيبها.
لويسا التي لا تكف عن التدخل في شؤونها ببرود، بدت لها غاية في الكراهية.
‘لماذا تسلبينني كل شيء؟!’
توقّف الارتجاف المفاجئ، ليتصاعد بدلاً منه ضباب أسود من كفيها، ثم أخذ يصعد ببطء على طول ذراعيها.
‘أنا القديسة، ومن حقي تلك النظرات! لماذا تعترضينني دائماً؟!’
كان ذلك صرخة مرتجفة، أو ربما رفضاً للحقيقة.
فهي باتت تعلم الآن أن ما كانت تفعله لم يكن “تطهيرا”.
في البداية ظنّت أنها هي من كانت تطهّر.
لكن أحداث الشرق قلبت قناعتها.
فالطاقة السوداوية التي سالت من جوف الأنفاق هناك كانت مختلفة جوهرياً عمّا واجهته من قبل.
كانت أكثف وأثقل، تنفذ إلى الجسد وتلتصق به بعناد.
وكان المفترض أن تتلاشى ما إن تطهَّر، لكنها بدل ذلك تسربت إلى جسدها وظلت عالقة فيه.
طوال ذلك اليوم ارتعدت خوفاً أن يبقى أثرها للأبد.
لكنها اطمأنت حين أخذ السواد يبهت ببطء.
لم يمضِ وقت طويل حتى تكرر المشهد اليوم مجدداً.
رأت لويسا تفعل ما كانت هي تعتقد أنها قادرة عليه.
ظنّت أن ما حدث في الشرق لم يكن سوى صدفة بفضل وفرة الزهور المقدسة هناك. لهذا اندفعت اليوم لتكرر الأمر.
لكن الحقيقة التي حاولت إنكارها تكشّفت لها: ما كانت تفعله ( بيلا ) لم يكن تطهيراً، بل امتصاصاً.
كل تلك المرات لم تكن تزيل السحر الاسود بل كانت تخزنه في جسدها شيئاً فشيئاً.
واليوم، بعدما رأت لويسا وهي تدير قوتها بمهارة، أيقنت بيلا يقيناً أعمى أنها لا تمتلك القوة ذاتها، بل تشعر بنفور منها.
هل كان هذا ما جعلها تختنق دوماً داخل الكنيسة؟
هل كان هذا ما جعلها دوماً تتوق للهرب؟
‘…… لا. هذا ليس صحيحاً. لا يمكن أن يكون صحيحاً. لقد كان التقديس هو من يقودني! من المستحيل أن يبقى السواد داخلي!’
ومع ذلك، كان كل شيء واضحاً.
كانت بيلا لا تملك من الذاكرة سوى الوحدة.
منذ مولدها وحتى الآن، لم تعرف إلا ذاتها، ولم تبدأ حياتها الحقيقية إلا منذ عام واحد فقط، فلا ذكرى حقيقية تملكها سوى ذلك.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 83"