في تلك اللحظة بدا كأن الأصوات من حولها انحجبت وكأنها غارقة في الماء.
لم تفهم السبب.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يلتقي فيها نظرها بنظره، لكن الغريب أن ذهنها خلا فجأة.
“……سا―.”
لم يدم ذلك طويلًا. إنما لحظة قصيرة التقت فيها عيناهما في الفضاء الفاصل، وظلتا متشابكتين دون أن تنفصلا.
“…….”
“لويسا؟”
عند اللمسة الحذرة التي طاولت ذراعها، رمشت عيناها مضطربة. وفي لمح البصر عاد الصخب يملأ المكان من حولها بعدما كان ساكنًا.
“ما بالك واقفة هكذا شاردة؟”
“آه…….”
حتى اللحظة التي أدارت فيها رأسها، ظل رافاييل مثبتًا بصره عليها.
ولتمحو من ذهنها ذلك الإصرار في عينيه رمشت سريعًا عدة مرات.
“لا شيء.”
“أهو من شدة المفاجأة؟”
صوت ديميان الذي همس قرب أذنها حتى كاد أن يلامسها، جعلها تتسع عيناها دهشة.
“ماذا؟”
“إن جلالته قد حضر.”
‘آه، يقصد الإمبراطور إذن.’
أومأت لويسا على عجل، ثم ثبتت بصرها على الإمبراطور الذي نهض عن مقعده كأن حديثه قد انتهى خلال لحظة شرودها تلك.
“صحيح…….”
“مع ذلك، يبدو وجهه متعبًا جدًا. مع أنك أخبرتني مسبقًا بحاله، لكن رؤيته عن قرب مدهشة حقًا.”
تابعت لويسا الإمبراطور بعينيها وهو يحاول التظاهر بالقوة وهو يمضي بخطاه، ثم مسحت بنظرها أرجاء المكان.
وبالفعل، بدا أن وجوه الحاضرين متوترة بعد أن رأوا وجه الإمبراطور الشاحب. همسات مكتومة راحت تنتشر بينهم.
“……لماذا جاء بنفسه؟ كان يمكنه أن ينيب أحدًا.”
“يقال إنه رفض مقابلة النبلاء مؤخرًا، بل وأجّل الاجتماعات، فانتشرت شائعات عن سوء حالته الصحية. ولو لم يحضر إلى مهرجان الصيد اليوم، لربما تحوّلت المطالب من استعجال تعيين ولي العهد إلى الحديث عن انتقال العرش نفسه. أعتقد أن ظهوره جاء ليكبح هذه الشائعات، وإن كانت قد انتشرت بسرعة مبالغ فيها.”
في الواقع، كان الإمبراطور يعتزم أن يسلّم العرش لرافاييل، بينما تسعى الإمبراطورة جاهدة لدعم ساينف كي يعتلي العرش.
فإن صدّق النبلاء تلك الشائعات، ستستغلها الإمبراطورة لصالحها بلا شك.
‘هل يعقل أن الإمبراطورة هي من سرّبت أخبارًا عن مرضه؟ لم يمضِ على انعزاله سوى أشهر قليلة، ومع ذلك ضجّت الشائعات سريعًا إلى هذا الحد… لا بد أن وراء الأمر قصدًا.’
أدارت لويسا نظرها إلى الإمبراطورة وساينف وقد جلسا في المقاعد المعدّة تحت الخيمة الكبيرة.
بينما كان النبلاء الآخرون منشغلين بالتحضير للصيد، اقترب بعضهم ليحيّوا الإمبراطورة، ولم ينسوا أن يوجهوا كلامًا أيضًا إلى ساينف.
لحسن الحظ أنّ ساينف أقل بروزًا من رافاييل.
فهو لم يكن كالإمبراطورة المتعطشة للعرش، بل بدا أقرب إلى حياة اللهو، لم ينل رتبة فارس، ولم يُظهر اهتمامًا بالسياسة أو بالسعي في كسب النبلاء. لذا بدا الفارق جليًا بينه وبين رافاييل الذي اكتسب مكانة رفيعة باعتراف الكنيسة واحترام النبلاء.
لكن، ما الذي ينوي رافاييل فعله؟
‘إن استمر في المماطلة فلن يكون بمقدوره التنازل عن موقعه كولي للعهد بسهولة، ومع ذلك فالتفكير بالانسحاب أو فسخ الخطبة صار متأخرًا للغاية……’
لا تدري، حقًا.
تنهدت لويسا في سرها، ثم أعادت نظرها إلى رافاييل. لكن سرعان ما ضاقت عيناها عند رؤية وجه مألوف.
‘……لقد جاءت في النهاية.’
لا تدري متى حضرت، لكن بيلا كانت واقفة بجانب رافاييل، بل تحديدًا بينه وبين ساينف.
جلس رافاييل متطلّعًا إلى الأفق البعيد، فيما ساينف وبيلا يتبادلان حديثًا ضاحكًا.
ظننت أنها لن تحضر.’
أمالت لويسا رأسها قليلاً. فالمهرجان لم يكن للهيكل دور فيه، ولهذا ظنت أن حضور القديسة وحدها سيكون محرجًا، لكن يبدو أنها التحقت متأخرة.
غير أن……
‘أين ذهبت الإمبراطورة؟ هل لحقت بالإمبراطور؟’
حاولت لويسا أن تبعد نظرها عن رافاييل، لكنها علقت للحظة على المقعد الخالي.
‘……هل يمكن أن تكون بيلا واقعة في حب رافاييل؟’
مع ذلك، لم تستطع أن تتجاهل وجه بيلا المشرق بابتسامة، ونظراتها المليئة بالحنين وهي تتابع رافاييل.
‘هل انجذبت إلى ملامحه؟ فعلى ما تتذكره، لم يحدث شيء بارز يدعو إلى هذا الانجذاب.’
لكن، نعم… منذ لقائهما الأول بدت بيلا وكأنها تكنّ له نوعًا من الود الغامض.
‘تحبه أو لا… إن انتهى الأمر بزواجهما فسأكون أنا منسحبة كما في القصة الأصلية، وإن لم يكن……’
أخفضت لويسا جفنيها ببطء، وظلال طويلة من رموشها المرتجفة بفعل النسيم غطّت عينيها.
‘أيمكن أن يصل الأمر حقًا إلى زواج سياسي؟’
لم تكن سوى خاطرة عابرة، لكنها شعرت بجفاف في حلقها.
رطّبت شفتيها ثم هزت رأسها قليلًا.
‘يا للجنون… أيّ زواج سياسي في مثل عمري هذا.’
كثرت الخواطر المزعجة. ربما لكثرة ما جرى في الآونة الأخيرة.
ثم، وقد أطلقت تنهيدة طويلة، تقدمت بخطوات هادئة نحو الدوق وديميان اللذين كانا يستعدان للخروج للصيد.
“هل لا بد أن أشارك في كل شيء؟ بعض النبلاء يكتفون بالجلوس ومراقبة.”
لم تسترح إلى المهرجان، إذ كانت تعلم أنّ في القصة الأصلية حدث خلاله أمر جلل.
كان شعورًا غامضًا يثقل صدرها.
“لا يمكننا أن نتصرف مثلهم. فنحن من بيت بليك.”
“صحيح، ولكن…….”
“أتحبين الحيوانات اللطيفة؟”
“أجل، ولكن إن كنت تفكر في أن تصطاد لي شيئًا، فلا داعي.”
“ولمَ ذلك؟”
“لأنني أفضّل أن تعود بسرعة. حتى لو عدت خالي الوفاض.”
انحنت نظرات الدوق قليلًا وهو يطالع لويسا من علٍ.
في عينيه البنفسجيتين كان دفء يتسرّب برفق، فوجدت نفسها تنفر من هذا التلاقي الطويل، لتتدارك الأمر بضربة خفيفة على ذراع ديميان.
“فهمت؟”
“فهمت. ومن ذا الذي يجرؤ على عصيان أوامرك.”
“ليست أوامر، بل رجاء.”
تدلّعت لويسا متذمرة، فما كان من ديميان إلا أن انفجر ضاحكًا.
عيناه المرسومتان برقة وهو يطالعها كانتا مفعمتين بالمودّة.
“ومع ذلك، كنت أريد أن أجعل أختنا الصغيرة ملكة هذا المهرجان…….”
هزّت رأسها نافية، وفجأة خطرت ببالها فكرة: ما أسعد لو كانت لويسا الأصلية في مكاني الآن.
كان شعورًا عجيبًا، أن تبقى إلى جانب هذه الأسرة دون أن تفكر بالرحيل أبدًا.
لقد كفّت عن الشك في صدق هذا الحب الموجّه نحوها، لكنها تعلم يقينًا أنّ هذه المشاعر لا تخصها هي، فكان في قلبها شيء من المرارة.
‘لعل الجهل كان أهون من المعرفة…….’
فكلما زاد الدوق وديميان لطفًا معها، تحوّل ذلك الانقباض الذي كان يثقل صدرها من قبل إلى شعور بالذنب يخنقها.
“حسنًا، سأعود سالمًا. لديّ حجر الحماية الذي أعطيتني إياه.”
“آه، ذاك…….”
“أحمله دائمًا معي. شكرًا لك.”
“……ا، ااحم.”
نقلت لويسا بصرها من الحجر الذي أخرجه ديميان من جيبه بغير وعي، إلى الدوق الذي أخرج بدوره حجرًا آخر من سترته كما لو كان يفتعل الأمر عرضًا، ثم أشاح ببصره نحو السماء البعيدة متظاهراً بعدم الاكتراث.
خفضت لويسا رأسها قليلًا وهي تحكّ طرف أنفها، وقد غمرها إحساس لاذع بالحرارة في وجنتيها.
بدأ الصيد.
وظلّت لويسا واقفة تراقب حتى غاب عن عينيها ظهر الدوق وديميان وهما يتوغلان في الغابة، ثم استدارت ببطء.
‘همم، لو جلست مع تلك المجموعة فسيكون الأمر مزعجًا لا محالة…….’
أرسلت نظرة فاترة إلى الطاولة التي تجمّعت حولها بنات النبلاء.
لم يمض وقت طويل على كثرة ما كانوا يثرثرون عنها، وإن هي اقتربت الآن لوجدتهن ينهشنها كما لو كنّ في انتظار تلك اللحظة.
“سأتمشى قليلًا في الجوار.”
لم يكن الأمر مجرد رغبة في التهوية؛ عقلها كان مثقلًا بالأفكار لدرجة تمنعها من البقاء ساكنة، وفوق ذلك راودها حافز غريب لتفقد المكان.
حرّكت بيدها اليسرى الخاتم الذي في إصبعها، كأنها تطمئن لوجوده.
“آنستي، ستخرجين وحدك؟”
سألت ماري بوجه مرتبك، فالفتاة التي طالما كرهت كل ما هو مزعج، إذا بها الآن تطلب الخروج بمحض إرادتها!
“نعم. إن حدث شيء فأخبِريني فورًا.”
“لكن آنستي……. أليس في الأمر خطورة أن تتجولي وحدك؟”
“نحن داخل القصر الإمبراطوري، ما الخطر الذي يمكن أن يكون؟ لا تقلقي. بل ارتاحي أنتِ هنا قليلًا.”
ثم سارعت لويسا بالابتعاد قبل أن تمسك بها ماري.
لم تستطع الخادمة أن تتبعها بمحض إرادتها، فاكتفت بمناداتها مرارًا “آنستي! آنستي!” لكن خطوات لويسا لم تتباطأ.
ليت الأمور تمضي بهدوء، بلا أحداث.
حاولت لويسا طرد ذكرى القصة الأصلية من رأسها.
أقنعت نفسها مرارًا أنّ لا حاجة للتفكير بها، وأن ما قاله ساينف لم يكن سوى هذيان، وأن كل ما يجول بخاطرها مجرد أوهام.
كانت تكرر هذه الكلمات في عقلها كأنها تعويذة.
رغم أننا في الصيف، إلا أنّ الجو لم يكن حارًا، بل كان النسيم يتهادى ببرودته بين الحين والآخر. فمشت لويسا متأملة وهي تدور دورة واسعة حول المكان.
‘……ها؟ شخص هناك.’
ضيّقت عينيها بحدّة. فهناك على الجانب الآخر، رجل يمشي ملتفتًا في كل اتجاه.
‘ما الذي يفعله هنا؟’
صحيح أنها نفسها تتجول بلا إذن، لكنها لم تتوقع أن تصادف آخر يفعل الشيء ذاته. فازداد فضولها نحوه.
كان يبدو حذرًا للغاية. خطواته وعيونه تفصح عن حذر مفرط، حتى خُيّل إليها أنه لا ينبغي أن يراه أحد.
عندها، جلست على عجل وانخفضت خلف شجيرة.
ثم تسللت ببطء حتى استقرت وراء جذع شجرة، وأخرجت رأسها قليلًا لترقبه.
رأته يقترب من مبنى ضخم بُني على هيئة خيمة محكمة الإغلاق كأنها معسكر، تقع خلف خيام النبلاء المخصصة للجلوس، فلا يُرى ما بداخلها.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 79"