كما لو كان لا يكتفي بما يراه الآخرون مبالغةً في الطموح، أراد أن يخلّد اسمه ولو كإمبراطور قدّيس.
‘وما الفائدة إذا مات؟’
رغم أن مظهره المريض قد يثير في الناس شفقة، إلا أن الإمبراطور كان من طينةٍ تجعل تلك المشاعر تختفي تماماً.
حتى الفضول عن سبب مرضه المفاجئ تلاشى، وهذا بحدّ ذاته صورة مدهشة من طباعه.
أجل، ولهذا السبب لم تتردّد الإمبراطورة في الأصل في تدبير المكائد لتقديم الأمير الثاني. فمن عاشرت رجلاً بهذا القدر من الحسابات والدهاء لعقود طويلة لا بد أنها فهمت أعماقه جيداً.
‘آه، أمرٌ محيّر حقاً.’
إنه ليس مجرد خطوبة بل زواجٌ امبراطوري.
لو كان الخيار محصوراً بينه وبين منصب القديسة لاختارت بلا تردد أن تصير قديسة، لكن وعدَه بإعفائها من بعض الأعباء أثار في نفسها شيئاً من التردد.
‘لكن الزواج ليس لعب أطفال… هذا كثير.’
أن يوازن بين القديسة والزواج في كفّتَي ميزان، إنه استغلال للوقت والموقف بمهارة.
فالزواج الامبراطوري سيقلب خطط رافاييل الذي أراد أن يهب نفسه للإله، وفي الوقت نفسه سيتيح للإمبراطور أن يقضي على صراع القوى حول ولاية العهد ويعين خليفته كما يشاء.
وبما أن الاختيار سيحسم قضايا كثيرة، فقد شعرت أن قبول منصب القديسة ربما يكون أسهل.
“لن أطلب منكِ جواباً اليوم.”
قالها الإمبراطور وكأنه قرأ خواطرها، فقاطعها.
عضّت لويسا شفتها السفلى وهي تدرك أن المماطلة لن تجلب سوى العناء، لكن ما أضافه الإمبراطور بعد ذلك جعلها تفتح فمها باندهاش.
“سيُقام قريباً مهرجان الصيد، وبعده سأستدعيك مجدداً. حتى ذلك الحين، فكّري جيداً.”
‘…ماذا؟ مهرجان الصيد؟’
***
بقي الدوق بليك في قاعة الاستقبال بوجهٍ يشي بأن لديه الكثير ليقوله.
وبما أنه لم يكن مسموحاً باصطحاب فرسانٍ شخصيين إلى القصر، اضطر أن يكرّر مرات عدة للفرسان الإمبراطوريين الواقفين عند الباب أن يرافقوا لويسا بأمان إلى قاعة استراحة قريبة، قبل أن يسمح لها بالخروج.
“من هذه الجهة.”
أومأت لويسا برأسها للراهن الذي يقودها، وسارت.
كان ممر القصر فائق البذخ إلى حدٍ يخطف الأبصار، لكن عينيها كانتا شارِدتين في الفراغ.
‘مهرجان الصيد في هذا التوقيت؟’
كلمة تبعث على القلق.
ربما لأنها تذكّرت أنه في القصة الأصلية كان أحد أكبر الأحداث الدامية التي تثيرها اليد الخفية يقع في هذا المهرجان بالذات.
حتى إن تغيّرت أشياء كثيرة عما في الأصل، لم يكن طبع الإمبراطورة ليتغير، وكان لا بد أن يقع ذلك يوماً ما.
وحين تفكّرت أكثر، بدا التوقيت مناسباً حقاً إن أرادت أن تثير الفوضى، فزاد قلقها.
‘صحيح أن المنافسة على ولاية العهد لا تجري علناً، لكنها تحت السطح قائمة منذ زمن…’
صحيح أن رافاييل لم يعلن سعيه للولاية، لكن علاقتهما لم يشبها خلل، ولم يتنازل عن حقه في العرش، وهو ما قد يثير قلق الإمبراطورة.
وفوق ذلك بدا وضع الإمبراطور الصحي متدهوراً، وكان من الأفضل أن يُحسم أمر الوريث قبل أن يفارق الحياة.
‘لكن ماذا لو أطلقت الوحوش في المهرجان كما في القصة الأصلية؟ لا أملك دليلاً، ولا أستطيع أن أخبر أحداً بهذا.’
رمشت لويسا في شرود ثم عضّت شفتها برفق.
ذاك كان الحدث الذي خلّف كثيراً من القتلى، وزرع الخوف من ظهور الوحوش داخل الإمبراطورية ذاتها.
فعلت الإمبراطورة حينها شيئاً جموحاً حدّ الجنون، إذ أطلقت وحوشاً في القصر محاولةً قتل رافاييل.
ونتيجة لذلك أُصيب بتسمم السحر الاسود واضطر لتلقي علاج طويل على يد بيلا.
كان التسمم شديداً إلى درجة أن بيلا عالجته تدريجياً بجرعات من التطهير، بينما عاش الناس في خوفٍ من أن تكون العدوى قابلة للانتقال.
لكن رافاييل، رغم كل ذلك، ازداد عمقاً في مشاعره تجاه بيلا لما رآه من عطفها وإخلاصها في رعايته…
‘يكفي التفكير إلى هنا.’
فقد لا يكون ثمة احتمال لأن يرتبطا، وربما هي نفسها تقدر على شفاءه دفعةً واحدة.
هكذا أخذت تبرّر لنفسها بصمت وهي تتبع الفارس إلى الباب المقصود.
“لويسا؟”
جاءها صوتٌ يناديها فجأة، فتوقفت والتفتت ببطء.
“صاحب السمو….”
“أيّ صدفة هذه؟ لقد مر وقت طويل.”
تألقت خصلات شعره الفضية المتموجة تحت ثريا القاعة.
حدّقت لويسا في بريقها للحظة ثم التقت عينيه الزرقاوين المفعمتين بابتسامة.
“كيف حالك؟”
ما إن ظهر ساينف فجأة حتى انسحب الفارس الإمبراطوري بخطوات محسوبة، مفسحاً المجال له.
“تشرفت بلقاء سمو الأمير.”
“آه، أليس حان الوقت لترك هذه الرسمية؟ نحن ننادي بعضنا بالاسم أصلاً.”
ابتسم ساينف بمودة وكأنه صديق قديم، لكن لويسا اكتفت برفع زاوية شفتيها ببرود، محافظةً على مسافة.
“ما زلتِ باردة كما كنتِ. مع أن مظهري لا بأس به، يبدو أنه لا يجذبك مطلقاً. أهو وجه أخي الأكبر الذي يوافق ذوقك؟”
“كيف لي أن أجرؤ على الحكم على أصحاب السمو.”
“بينما تفعلين ذلك في سرّك.”
“لا أظن أني فعلت ذلك يوماً.”
“هاه، لنقل إنك لم تفعلي، حسناً.”
‘لم أفعل حقاً، فما الذي يقوله؟’
تذمرت لويسا في سرّها وهي تتراجع نصف خطوة لتتفادى إلحاحه المزعج.
“لكن، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أكنتِ لمقابلة جلالته؟”
“نعم.”
“مع الدوق على ما يبدو. وجهتك إذن قاعة الاستراحة، أليس كذلك؟”
بالفعل، إنه شديد الملاحظة.
لعلّه لن يظل يلازمها حتى وصول الدوق؟
أزاحت لويسا بصرها في قلق. لم يكن سهلاً صدّ وجهٍ وسيمٍ يبتسم بتلك العذوبة، خاصةً مع المثل القائل: لا يُرمى الماء في وجه مبتسم.
لقد كان يعرف كيف يوظف ملامحه. فرغم أن تصرفاته المتعالية قد تثير استياء الآخرين، إلا أن ابتسامته الساحرة تكاد تمحو كل انقباض.
ليس أنه يفتقر للفطنة، لكنه لا يوضح موقفه بجلاء، وهذا يزيد إرباك من حوله.
وبينما يظل بعيداً عن التدخل المباشر في شؤون القصر، ظلّت علاقته بوالدته الإمبراطورة متوترة، كأنهما يعيشان تحت سقف واحد بعقلين متباينين.
‘هل يُعقل أن تدهور صحة الإمبراطور أيضاً من فعل الإمبراطورة؟’
في القصة الأصلية لم يُذكر ذلك، لكن… أي نوع من الرواية مليء بثغرات كهذه؟ أم أن ذاكرتها هي التي تخونها؟
التعليقات لهذا الفصل " 77"