فقد كان الأمر مجرّد حادث حدث، وما لبثت أن نسيتُه في اليوم التالي.
غير أنّ المشكلة كانت في ما قيل بعد ذلك، إذ ظلّ عالقًا في ذهني.
‘بالسياق، يبدو أنّ الكلام كان يقصد به العائلة الحالية…’
لكن شعورًا ما كان يمنعني من التسرّع في استنتاج الأمر، فتظلّ الأسئلة عالقة تدور في رأسي دون أن أجد لها جوابًا حتى اليوم.
‘إن كانت هذه العائلة حقيقية حقًا… فماذا يعني ذلك بالنسبة لي أنا التي استيقظت فجأة في هذا الجسد؟ ما حقيقتي إذن؟’
تشابكت الظروف وتداخلت الأفكار في ذهني، حتى صارت أكثر تعقيدًا.
‘همم… لا فائدة، ما زلت لا أفهم شيئًا.’
على ما يبدو، فلن أجد الجواب ما لم أقابل ذلك الحاكم الذي أظنّه السيّد إيآنّا مرة أخرى.
لكنّ الأمر ليس عاجلًا الآن، فالأهمّ أن أركّز على ما هو بين يديّ. أما هذا، فسأفكّر فيه لاحقًا.
على كلّ حال، يبدو الخروج للتنزّه بعد مدّة طويلة أمرًا جميلًا.
والطقس أيضًا ما أروعه.
صحيح أنني كنت على وشك الموت، لكنّ كل شيء في الكنيسة الشرقية قد حُلّ بسلام، والهدوء يخيّم من جديد.
الوقوع مغشيًّا علي كان متغيّرًا غير متوقّع، لكن لا بأس، لقد كان مجيئي هنا قرارًا صائبًا.
لم أظنّ قط أنّ الزهور المقدّسة التي جلبتها الحديقة الخلفية ستُثبت فائدتها إلى هذا الحد.
العالم حقًا مليء بالمفاجآت.
سابقًا لم أفعل أكثر من سقيها بالماء لا غير، لكنني غرسْت بعضًا منها في أرض الشمال الواسعة على أمل أن تنمو بكثرة.
واليوم، إذ أستعمل منها كثيرًا، بدا لي أنّ ما فعلته كان صائبًا.
‘عليّ أن أخصّص وقتًا لاحقًا لتنقيتها.’
أخذت لويسا تعبث بزهرة سوداء اللون من الزهور المقدسة، ثم أعادتها إلى الصندوق.
‘لكن، إلى متى ينوون الاستمرار على هذا الحال؟’
أدارت بصرها إلى فرسان الكنيسة الذين ظلّوا يحيطون بها بحذر وكأنها مجرمة عظمى، فألقت عليهم نظرة فاترة.
فمنذ اليوم الذي استيقظت فيه، أخذوا يعتذرون عن وقاحتهم السابقة، وتمادوا في خضوعهم حتى خرّوا سُجّدًا على الأرض. وما زالوا على هذا الحال حتى اليوم!
‘… لعلّ الأمر لا يعدو كونه مجرّد دهشة.’
أغلقت لويسا غطاء الصندوق بلا مبالاة، ثم أمرت ماري القريبة منها بأن تعتني بحفظه جيدًا.
‘لكن… أين ذهبت بيلا؟’
صحيح أنّها، طيلة وجودها في الكنيسة الشرقية لم تغادر غرفتها قط، لكنّها لم تكن لتختفي تمامًا بهذا الشكل حتى اليوم.
الكهنة وقد استبدّ بهم الفضول تجاه قدرتها على التطهير، كانوا على وشك أن يهاجموها بالأسئلة فور استيقاظها، لكنّ الدوق وديميان حالا بينهم وبينها بحجّة أنّ راحتها هي الأولى.
وهكذا هدأت الأوضاع قليلًا.
ولو أنّهم تزاحموا عليها أيضًا لكانت الأمور ازدادت سوءًا. ولحسن الحظ، لم يحدث ذلك.
‘يجب أن أعود إلى العاصمة سريعًا… لو طلبت اليوم الرحيل، فهل سيرفضان؟ لعلّه من الأفضل أن أطلب غدًا.’
فلم يكن من المخطَّط أصلًا أن تطيل المكوث في الشرق، لذا لا شك أنّ أعمال الدوق وديميان قد تراكمت خلال هذا الوقت.
ورغم أنّهما حاولا تدبير الأمور هنا بقدر المستطاع، إلّا أنّ هذا المكان لم يكن مجهّزًا بما يكفي، فلا بدّ أنهما يشعران بالضيق.
ومع ذلك، لم تسمع منهما سوى جملة “ارتاحي جيّدًا”، الأمر الذي ضايقها هي أكثر من أيّ أحد.
‘لكن…’
يكاد يخترق وجهي بنظراته.
عندها لم تتمالك لويسا نفسها وألقت تنهيدة وهي تلتفت إلى رافاييل الجالس بقربها منذ البداية:
“سيد رافاييل، أليس لديك ما يشغلك؟”
“لا بأس. المهم أن لا تشعري بأيّ ضيق.”
“لا يوجد شيء أشتكي منه صدّقني. أنا بخير تمامًا.”
لقد أدهشها بنفسها أن تشعر بأنها سليمة إلى هذا الحد.
لم تكن تتوقع أن تكون حالتها عادية بهذا الشكل.
“لكن مع ذلك، إيّاك أن ترهقي نفسك مستقبلًا.”
“في الحقيقة، ما دامت الأمور تسير كما ينبغي فلن أجد ما يرهقني. … على ذكر ذلك، لماذا لم أرَ القديسة؟”
تشققت ملامح رافاييل لأول مرة منذ بدء حديثه، وانكسرت جدّيته أمام هذا السؤال.
لم يخفِ امتعاضه بل بدا وكأنه يرفضها تمامًا، فحدّقت لويسا فيه بدهشة.
“القديسة… قد هربت.”
كان في الماضي، وإن أبدى تبرّمه، يظلّ يناديها باحترام “الآنسة القديسة”، أما الآن فقد نزع عنها حتى هذه الصفة.
“هربت؟!”
شهقت، واتّسعت عيناها تنتظر ما سيتابع به.
“عفوًا، هل لي أن أتولى الشرح من هنا؟”
ارتفع صوت غير متوقّع، فالتفتت إليه لترى أحد الفرسان الذين ظلّوا إلى جانب المرضى آنفًا، وكان مألوف الوجه لديها.
“تشرفت بلقائك بعد طول غياب. لقد رأيتك مرة في العربة، لكنّ الظروف آنذاك لم تسمح لي بأن أحيّيك كما يجب.”
‘آه، العربة… يومها بصقت دمًا بسبب ذلك الساحر الأسود…’
“أنا مساعد القائد الخاص، آندي وايت.”
انحنى بأدب وهو يعرّف نفسه، وعيناه السوداوان تلمعان بصدق.
“آندي وايت؟ وما الذي أتى بك إلى هنا؟ لقد أوصيتك بأن تبقى بجوار المرضى، أليس كذلك؟”
كانت نبرته باردة تقشعرّ لها الأبدان.
فقد بدا صوته مع آندي مختلفًا تمامًا عمّا كان حينما كلّمها قبل قليل، حتى إنها أضاعَت الفرصة للرد واكتفت بالرمش مرتين بدهشة.
“أردت فقط أن أحيّيها بنفسي، هذا كل ما في الأمر. هاها…”
ابتسم آندي متودّدًا وهو يرمق رافاييل بحذر، كأنما اعتاد على حدّة طباعه.
ثم ما لبث أن أدار ظهره سريعًا لرافاييل الذي كان يحدّق به بنظرات تكاد تطرده في الحال وانحنى بعمق أمام لويسا.
“أشكرك من أعماق قلبي! بفضلك لم أفقد رفاقي.”
“آه… لا داعي لقول هذا.”
“لقد تأثرت حقًا بما بذلتِ من جهد. في اليوم الأول لم يكن لي وقت لأراقب الأوضاع حولي، فارتكب رفاقي بعض الوقاحة دون أن أنتبه لأوقفهم… وما زلت أشعر بخجل شديد لذلك.”
“لم يكن الوضع مناسبًا أصلًا، فلا بأس.”
“أنا ممتن لكِ. وأحب أن أطمئنكِ أيضًا إن أولئك الفرسان الذين يرمقونك من بعيد وكأنهم كلاب متعطّشة، لم يقتربوا مخافة أن تزعجك رؤيتهم، لكنهم جميعًا نادمون بصدق. وبالطبع، إن لم تغفري لهم، فلن يلومك أحد!”
فهمت لويسا عندها سبب تلك النظرات المترقّبة من بعيد، وقد كانت تظنهم يراقبونها بدافع الفضول فحسب. فأجابت بشيء من الحرج:
“لقد قبلت اعتذارهم بالفعل. الأمر على ما يرام.”
“آنستي…!”
تأثر آندي حتى دمعت عيناه، فشبك يديه معًا وهمّ بأن يركع.
“لا حاجة لأن تجثو على ركبتيك.”
“نعم! حقًا… كيف جرؤ البعض على إطلاق مثل تلك الشائعات القبيحة بحق آنسة عظيمة القلب مثلك! أعدك أنني سأكون أول من يتصدّى لها ويقضي عليها من جذورها!”
‘لا ضرورة لكل هذا المبالغة.’
نظرت لويسا إليه ببرود، متأملة عينيه المشتعلتين بجنون أقرب إلى التقديس الأعمى، فأدركت أن محاولتها ثنيه لن تجدي نفعًا.
‘ليكن إذن…’
أومأت برأسها بتعب وكأنها استسلمت.
“حسنًا… فلنكتفِ بهذا القدر من التحايا، وابدأ الآن بما وعدت أن تشرحه لنا.”
لكن رافاييل تدخّل:
“لويسا، دعيني أتولى الأمر. أما أنت، فلتعد إلى حراسة المرضى. كيف تترك منصبك هكذا فارغًا إلى جانب نائب القائد؟”
‘إذن ذلك المريض كان نائب القائد… لا عجب أنّ الوضع كان خطيرًا.’
ومع ذلك، ازداد فضولها أكثر عندما سمعت أن بيلا قد هربت في مثل تلك الظروف.
“لقد قيل إن حالته مستقرة، وإن من الأفضل أن يُترك ليستريح وحده. ثم إني أستطيع أن أصف ما حدث بأدقّ تفصيل من القائد نفسه، أليس كذلك؟”
“آندي وايت!”
“في الحقيقة… نعم، كلامه صحيح.”
“……لويسا؟”
قطّب رافاييل حاجبيه ونظر إليها بصدمة، وقد غطّى ملامحه ظلّ من خيبة الأمل أثقل قلبها حتى اضطرت أن تحيد ببصرها عنه.
“هاها… إذن اسمحي لي أن أوجز وأغادر. فلست أريد أن أتطفّل طويلًا بينكما.”
“لقد أطلت التدخل بيننا كفاية.”
‘ماذا يعني “بيننا” أصلًا؟’
تساءلت لويسا بفتور، ثم قالت:
“يمكنك البقاء كما تشاء، لكن ألا يجدر بك أن تدخل في صلب الموضوع؟”
“أوه، عذرًا! أطلت الحديث. حسنًا، سأبدأ بسرد ما جرى قبل فرارها.”
‘أخيرًا… كم من الوقت استهلك في المقدمات؟’
مالت لويسا برأسها إلى الجانب، متجنبة نظرات رافاييل الذي بدا وكأنه يراقبها بقلق.
“لقد عُثر على نفق فجأة، فأردنا في البداية استطلاع مدخله فقط. فانقسمنا إلى فرق من ثلاثة فرسان، ودخلت مجموعة لاستكشافه. لكن فجأة تدفّق منه دخان أسود، وبدأت الوحوش في الظهور الواحد تلو الآخر. كان ثلاثة من الفرسان الأقرب يسقطون في النفق أثناء التصدي لها، وحين أنقذناهم متأخرين بعد القضاء على الوحوش، وجدنا أن الثلاثة قد تلوثوا بالسحر الاسود.”
تمامًا كما حدث في الشمال: يتصاعد الدخان الأسود، ثم تعقبُه الوحوش فجأة.
“كانت حالتهم خطيرة للغاية. خشينا أن تزهق أرواحهم إن تأخرنا، فسارعنا بالقضاء على بقية الوحوش والبحث عن القديسة.”
“…….”
“وللمرة الأولى سعدت برؤيتها. بصراحة، كنت أشك فيها طوال مقامها في الشرق، إذ لم تكن تفعل شيئًا سوى الدوران حول القائد وإهمال واجباتها عند الحدود. لكنني آمنت أنّها على الأقل في تلك اللحظة لن تتنصّل من دورها. وقد تأكدت بنفسي من أن العدوى غير موجودة، ورجوتها راكعًا أن تطهّرهم.”
‘إنه يروي كل شيء بصراحة مذهلة.’
بدا واضحًا من ملامح آندي أنّ بيلا التصقت برفاييل التصاقًا مزعجًا طوال وجودها في الشرق، فلم يبقَ في قلبه أي احترام لها، بل مجرّد ضيق واشمئزاز.
حتى رافاييل نفسه الذي لمّحت إلى وجهه، كان يُبدي شعورًا أشدّ من ذلك الذي أظهره لها في الماضي.
“في البداية وضعت القديسة يدها على أحد المصابين، وكأنها ستطهّره… لكنها ما لبثت أن سحبتها بعد ثوانٍ معدودة.”
“أتعني أنّها لم تحاول حتى؟”
“أجل. بدا عليها رعب شديد. فظننا أن السبب رائحة جثث الوحوش، فبادرنا إلى تنظيف المكان، ثم قلنا لعلّ الجروح غائرة فغطّيناها، وتوسّلنا إليها أن تحاول ولو قليلًا… لكن لا جدوى.”
“همم… لعلّ شدّة السحر الاسود قد أفزعَتها؟”
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 69"