كان كأنّه يعرف شيئًا، إذ لم يكفّ منذ قليل عن مطالبة الجميع بمغادرة الغرفة.
الطبيب المكلّف بالعلاج قام بما في وسعه من إسعاف عاجل، لكنه لم يستطع أن يخفي مرارة العجز المرتسمة على محيّاه.
“هل يمكن للكاهن أن يعالجه إذا حضر؟”
“لا أدري. ما يحتاجه الآن ليس معالجة جراحه، بل تطهير جسده من السحر الأسود. لقد طلبت إحضار الأزهار المقدسة، فعلّنا نعوّل على مفعولها، لكن حالته طارئة إلى حدّ أن كل لحظة ثمينة….”
في تلك اللحظة دوّى صوت ديميان صارخًا بوالده كي يستعيد وعيه، فارتعدت لويسا وهي تلتفت نحوه.
لم يعد وجهه متماسكًا كما حاول أن يكون، بل أبان بجلاء عن فزع مكتوم.
سارت عيناها مع نظراته القلقة نحو الدوق، فرأت حاله وقد ازداد سوءًا.
كان قد فقد وعيه وأطلق أنينًا ضعيفًا، فيما بدا نصف جسده وقد ابتلعه السواد كما لو أنّه تآكل بالظلال.
المنظر وخز عينيها بقسوة.
ترددت شفتاها المرتعشتان قبل أن تنطق كأنها تنتزع الكلمات من أعماقها:
“سأذهب… وأحضره بنفسي!”
“ماذا؟!”
“…لويسا؟!”
لم يكن في الأمر حاجة إلى شرح أو تفكير.
سبقها جسدها إلى الفعل.
اندفعت بجنون تركض نحو الحديقة الخلفية حيث الأزهار.
“هـاه… هـاه…”
وخزها أنفها من شدّة اللهاث.
شعرت بأن أنفاسها ضاقت على غير عادة، حتى إنها خرت على ركبتيها ما إن بلغت الحديقة.
بدا وكأن قوة خفيّة تحرّك جميع تصرّفاتها، لا وعيها التام.
ومع ذلك ظلّت تواصل بلا توقّف.
راحت تقتلع الأزهار المقدّسة بلا هوادة حتى امتلأ صدرها وذراعاها بها إلى أن لم يبق متّسع لحمل المزيد.
كان زفيرها المتسارع يخرج دخانًا أبيض في الهواء، وتتساقط على الطريق بعض الأزهار من شدّة ما حمّلته بين ذراعيها.
“ها هي! كل هذه زهور مقدسة!”
“آه! آنستي!”
دخلت الغرفة متعثّرة بالزهور، فارتفعت عيون الجميع إليها بدهشة مبهوتة.
لم يجرؤ أحد على التشكيك في حقيقة الأزهار، إذ إن هالة نقية جليّة كانت تنبعث منها بوضوح.
“كـ… كيف… كيف جلبت كل هذا؟ من أين؟”
“من الحديقة الخلفية. هل تكفي؟ أين أضعها؟”
“ينبغي أن تمتصّ السحر الاسود، فضعوها حول الدوق.”
جاء الصوت من خلفها هادئًا وثابتًا.
استدارت بسرعة، فإذا بالكاهن يوران قد وصل قبل المتوقع، مما أثار الدهشة والارتياح في وجوه الجميع.
قال براون الذي تبعه إلى الداخل وهو يقرّبه نحو الدوق:
“لقد صادفنا الكاهن في الطريق لحسن حظنا فاستطعنا إحضاره بسرعة. أما الزهور الموجودة في الكنيسة فسيتكفل بها كهنة آخرون. ايها الكاهن يوران، هل تكفي هذه الكمية؟”
تمعّن يوران في حال الدوق بعينين مثقلتين.
“…الوضع خطير.”
كان الخدم قد رصّوا الزهور حول الدوق بالفعل.
“هذا… لن يكفي بالزهور وحدها. لقد تغلغل السحر الاسود عميقًا جدًا. لا بدّ من تطهير مباشر.”
“تطهير؟! تعني أنه يجب استدعاء القديسة؟!”
“نعم.”
ارتفعت عينا يوران نحو لويسا.
كانت واقفة تحدّق في الدوق بوجه شاحب كالأوراق كأن ملامحها محيت تمامًا.
لم يخلُ نظره إليها من أسف مكتوم.
سألت بصوت واهن بالكاد تحرّك شفتيها:
“…إن تأخر العلاج، ما الذي قد يحدث؟”
“قد لا يصحو مجددًا.”
“أما إذا تمّ التطهير، فسيستعيد وعيه؟”
“…نعم.”
تردّد يوران للحظة قبل أن يجيب، مدركًا ما قد تقدم عليه لويسا بسماع هذا الجواب.
فقد عرفها، وعرف كيف كانت تنأى بنفسها عن إظهار قدراتها رغم عظمتها، حتى إنها تجنّبت لقاء رئيس الأساقفة ( المطران ) نفسه.
لكن كما توقّع، برق بصرها فجأة بعدما كان شاردًا، وخطت إلى الأمام بحزم.
“ليخرج الجميع ما عدا هؤلاء.”
أشارت إلى ديميان وبراون، ثم أخيرًا إلى الكاهن يوران وهي تدلّ بيدها نحو الباب.
نظر الجميع إلى ديميان بدهشة متسعة العيون، غير مصدقين لما سمعوه.
حتى دبميان نفسه أمسك بذراعها بحذر وقد تملكته الحيرة.
لكن يوران تقدّم وانحنى قليلًا، وكأنه يثبّت كلماتها ويعضدها:
“أنا مجرد خادم للإله، لكنني أرجوكم أن تثقوا بي. دعوا الآنسة لويسا، وغادروا لبرهة.”
لكن لم يجد أحد الفرصة ليفتح فمه. فخلال تلك اللحظة، انحنى الكاهن يوران وهو يعضد كلام لويسا بغير مواربة.
تبادلت الوجوه نظرات قلقة لا تعرف ما تفعل.
“يا كاهن، ما معنى هذا الفعل المفاجئ؟!”
“هناك سبيل للتطهير.”
“……تطهير، تقول؟! وكيف يمكن ذلك في غياب القديسة؟”
“الوقت ضيق، فأسرعوا بالامتثال لرغبة الآنسة.”
ارتسم صراع على ملامح ديميان.
نظر مرةً إلى الكاهن يوران، ومرةً أخرى إلى لويسا.
عيناهما كانتا ثابتتين تحملان يقينًا لا يتزعزع، فلم يحِدا بنظرهما عنه.
“……اخرجوا جميعًا.”
لم يطل تردده.
أفلت ذراع لويسا وأصدر أمره إلى من في الغرفة.
وما إن سمع الناس كلمات الكاهن حتى كانوا قد عزموا أمرهم، فخرجوا على عجل إلى خارج الغرفة.
ابتعد الكاهن يوران إلى ناحية، بينما بقي براون يرمق لويسا بعينين مترددتين، كأنه يتساءل”هل هذا هو الصواب حقًّا؟”
ركعت لويسا بجوار السرير وأمسكت بيد الدوق.
ولعلها أول مرة تمسّه.
كانت راحتاه صلبة من أثر الجروح والكدّ، أما يده التي توقعت أن تكون دافئة فقد كانت باردةً برودةً تنفذ إلى العظم.
‘لا بد أن أفعل. بهذه الوتيرة لن نصل إلى شيء.’
الزهور المقدسة لم تُبدِ فاعليتها إلا بالكاد.
فمن بين ذلك العدد الهائل لم يتجاوز تأثيرها تلويثَ بتلةٍ واحدة بالسواد على نحوٍ طفيف، وكأنها لا جدوى لها أصلًا.
أحاطت لويسا يده بكلتي يديها.
كان السواد الآكل لليد الملوثة بالسحر الاسود في تناقض حاد مع بياض يديها الناصع، غير أنّه حين انطوى بين يديها بدا وكأنه يذوب ويبهت.
“أرجوك…….”
وكأنها تصلّي، وضعت يده على جبينها وأغمضت عينيها بإحكام.
ثم فجّرت بلا تحفظ كل ما كانت تكتمه في قلبها من قوة مقدسة.
فجأةً هبّت نسمة، وانبثق من أناملها نور أبيض صافٍ متفتّحًا كأنه زهرةٌ تبزغ للحياة.
ذلك المشهد المهيب جعل فمَي ديميان وبراون ينفرجان دهشةً بلا وعي.
النور كان طاهرًا إلى حد أنّ عقولهم غامت كليًا.
ثم أخذت المعجزة في الحدوث تباعًا.
كما يُغسل بالماء، انحسر السواد مع النور الأبيض، من اليد إلى الكتف، ومن الصدر إلى الساقين، ومن الساقين إلى الوجه.
“هاه…….”
مع زفرة مرتاحة، عاد اللون إلى وجه الدوق في لحظة، واندثر كل أثر للألم.
لم تفلت لويسا يده وقد أخذ دفء يده يعود إليها شيئًا فشيئًا.
كان ديميان يحدّق مبهوتًا في وجه الدوق الذي استعاد طمأنينته، ثم تحرك ببطء.
“لويسا…….”
خرج صوته متشققًا مرتعشًا، فارتجفت أكتافها الصغيرة.
وبينما جبينها لا يزال ملتصقًا بيد الدوق، امتدت أصابعه الخشنة تتحرك ببطء كما لو تمسح عليها برفق.
لم تكن اللمسة قوية، لكنها كانت مشبعة بالعطف.
“شكرًا لك.”
وفي تلك اليد التي لم تعد غريبة، رفعت لويسا رأسها ببطء، ليقع بصرها على عيني الدوق نصف المفتوحتين.
عندها خطر ببالها:
‘لماذا أشعر بأن أنفي يلسعني ثانيةً؟’
***
“الحمد لله. إن واصل الراحة على هذا النحو فسوف تتحسن حالته أكثر.”
أكّد الكاهن يوران حالة الدوق بليك أوّلًا، ثم تبعه الطبيب الخاص الذي استدعاه ديميان للتأكد ثانية.
كان الطبيب واجمًا، لا يعرف ما الذي جرى في غيابه، لكن حين رأى أنّ الدوق قد تعافى تمامًا، لم يسعه إلا أن يبتسم ويضحك بخفة قبل أن يغادر الغرفة.
حتى الكاهن يوران بدا أنه يهمّ بالرحيل، لكن الدوق وهو مستند إلى مسند السرير، فتح فمه قائلًا:
“أشكرك. سأحرص على أن أشكرك كما يليق في المرة القادمة.”
“لا داعي لذلك. لم أفعل شيئًا في الحقيقة، بل أشعر بالخجل. إذن، لنلتقي مرةً أخرى.”
فقد آل الأمر أن يزور بيت الدوق مرتين في يوم واحد، ولا شك أنّ يومه كان مرهقًا.
وحين التقت عيناه بعيني لويسا، ردّت عليه بنظرة شاكرة، فبادلها بابتسامةٍ مرتاحة قبل أن يغادر.
“سأذهب الآن لأرافق الكاهن.”
قالها براون بحذر وأغلق الباب وراءه تاركًا سكونًا قصيرًا يخيّم على الغرفة.
‘……هاه، ما هذا الجنون.’
تنفست لويسا بإرهاق وأغمضت عينيها.
لقد انكشف كل ما حاولت إخفاءه سدىً.
تلك الزهور التي زرعتها خفية، والقوة المقدسة التي كتمتها بعناية.
بأي كلام يمكنها تفسير ذلك الآن؟
كانت تحدق في الفراغ بوجوم حين وصلها صوت غير متوقع
“هل جسدكِ بخير؟ لم تجهدي نفسك؟”
كان ديميان.
حدّقت به لويسا بدهشة.
كانت تظن أنّ أول ما سيُسأل عنه “ما هذا الذي فعلتِه؟ من أين لكِ هذه القوة؟” غير أن السؤال جاء على غير ما توقعت.
“……نعم. جسدي فقط يشعر بشيء من الخمول، لا أكثر. لستُ مريضة.”
“الخمول يعني التعب، أليس كذلك؟ إذن لقد أرهقتِ نفسكِ فعلًا. ألا يجب أن تذهبي لترتاحي فورًا؟”
“آه…… همم…… لكن، ألا تسألني؟”
ظلّ وجه ديميان على حاله، قلقًا إلى حد المبالغة.
كان الأمر عجيبًا.
كان همه الأول صحتها لا ما رأى من معجزة أمام عينيه، حتى دفعها لأن تتكلم هي بنفسها.
“لويسا. إن لم ترغبي بالحديث، فلا داعي لأن تقولي شيئًا.”
وهنا جاء الجواب من مكان آخر.
الدوق الذي ظل يحدّق في لويسا بعينين ثاقبتين، تكلم.
ارتجفت نظراتها في لحظة.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 63"