لست مصابة بمرض عضال! [ 62 ]
“تنبعث من الأزهار المقدسة قوة مقدسة خافتة تحمل أثرًا من طاقة الآنسة.”
“طاقتي المقدسة أنا؟ وهل يمكن التمييز بين الطاقات المقدسة أصلًا؟”
“في الحالات النادرة، نعم. كما هو الحال مع القائد للفرسان المقدّسين.”
“لكن ذلك لا يشملني، أليس كذلك؟ لم يسبق أن قلتَ شيئًا كهذا.”
“صحيح. فقد كانت طاقتك فيما مضى لا تختلف عن سائر الطاقات المقدسة.”
“إذن…….”
“لكن في الفترة القصيرة التي لم نلتقِ فيها، نمت طاقتك بشكل لافت. كانت في السابق مجرد قدرٍ يسير وصافٍ لا أكثر. أمّا الآن، فقد غدت عشرات الأضعاف.”
‘ماذا؟!’
انفغر فم لويسا بدهشة.
“وتيرة نموّها صادمة. إن استمر الأمر على هذا النحو، فقد تتجاوزين القائد نفسه.”
“إلى هذا الحد؟”
“نعم. هل جرى لكِ أمرٌ ما؟ لا يمكن لمجرد وجودك إلى جوار القائد أن يفضي إلى هذه النتيجة. الأمر أشبه بصدمة أيقظت شيئًا في داخلك…….”
توقّف الكاهن يوران عن الكلام فجأة، وعمق بصره كأنه غاص في تفكير عميق.
‘ليس مجرد تطهير جسدي فحسب، بل أكثر من ذلك.’
لقد بات كل شيء بعيدًا تمامًا عمّا ورد في الأصل.
لو كانت لويسا السابقة تملك هذه القوة، لكانت قد أعلنتها على الملأ منذ البداية.
ولما اضطرت إلى التظاهر بانها قديسة أو إلى إزعاج بيلا أصلًا.
صحيح أن مجرى الأحداث اختلف كثيرًا عن الأصل، لكن هل يمكن أن تتبدّل القوة المولودة مع المرء؟
أم أنّ ما قاله الكاهن يوران أصوب: أنّ قوةً كامنة كانت محجوبة، أو أنّ صدمة ما حرّضت على نموّها السريع، أو أنّ ختمًا خفيًا قد انحلّ……
‘تبا، أهذا كلام عن تنّين مظلم أو ما شابهه؟’
قهقهت لويسا باستخفاف لتطرد هواجسها، وإذا بعيني الكاهن تلتقيان بعينيها وقد بدا أنه رتّب أفكاره.
“أظن أن قدرتك على التطهير ليست سوى جزء من إمكاناتك.”
“حقًّا. لكن لماذا هذا التغيّر المفاجئ…….”
“بل لعلّها لم تتغيّر، بل كانت محجوبة ثم أُطلق سراحها.”
“ماذا؟”
“بصراحة، مع علمي الضعيف، يصعب عليّ أن أقدّم لكِ العون.”
“آه…… فهل أسأل القائد إذن؟ لكن هل يفقه في أمر الطاقة المقدسة حقًا؟”
وساورتها فكرة هل يجوز أصلًا أن تُفصح عن هذا كله؟
لكنها كتمتها بمرارة، منتظرة جوابه.
ارتسمت ابتسامة على شفتي الكاهن يوران.
“ليس القائد وحده متميّزًا. بل ثمة آخرون. معظم كبار الكهنة العظام يمتلكون طاقة مقدسة تحمل طابعًا فريدًا يمكن تمييزه.”
“الكهنة العظام؟ لكنّي سمعت أنّك بدورك استثنائي. فإن كنتَ تجهل، فهل سيعلمون هم؟”
كان في نفسها شعور قوي بأن إفشاء ذلك لغير الموثوقين مغامرة خطيرة.
فما الحاجة إلى مزيد من الفوضى، وقد ظهرت بالفعل القديسة المزعومة؟
وفوق ذلك، كانت الإمبراطورة ترصد خطواتها؛ وأيّ اهتمام زائد سيكون عبئًا ثقيلًا عليها.
“قد يكون ما تقولينه صحيحًا. ومع ذلك، فالأنسب أن تلتقي بمن يستطيع النفاذ إلى حقيقة هذه القوة.”
‘لا، لا يمكن أن يكون يقصد……’
اتسعت عينا لويسا شيئًا فشيئًا.
“آنسة، أنصحك بمقابلة سيادة المطران.”
“المطران؟ لمجرد أن طاقتي ازدادت بعض الشيء؟ ألا ترى أن الأمر سيتضخّم بلا داعٍ؟”
مطران؟! إنّها قفزة هائلة أكبر مما تتحمّل.
“كيف تصفينها بالقليل؟ إنها بعيدة كل البعد عن ذلك.”
“لكن مهما كان المطران…… أليس هذا مبالغًا فيه؟”
“آنسة.”
جاء صوته ناعمًا، لكنه نافذٌ في قوته.
“لقد تخطّيتِ مرحلة الإخفاء. آن الأوان لتتبيّني الحقيقة بنفسك.”
ارتجفت حدقتاها البنفسجيتان ارتجافًا خفيفًا.
***
خفضت لويسا بصرها نحو زهرة مقدسة كانت في يدها.
‘إن قابلت المطران، فهل سأضطر لإخبار عائلتي أيضًا؟’
لم يكن بمقدورها أن تضلّلهم عن حالتها إلى الأبد.
وما كان عيشها على أنها مريضة تحتضر يُشعرها بالراحة؛ إذ كثيرًا ما كانت تشعر بالاختناق وهي ترى ما يبذلونه من جهد صادق في رعايتها، وما يغمرونها به من حنان وقلق في كل صغيرة وكبيرة.
كان كذبها يضغط على صدرها حتى يكاد يسلبها أنفاسها.
“لكن، هل يجوز لي أصلًا أن أبوح بهذه القدرة؟”
فقد بادرت إلى مشروع النبيذ بلا تردّد، واثقة أنّ الدوق بليك الذي يقدّر القوة القتالية فوق كل شيء، لن يعير تجارة كهذه اهتمامًا ويعدّها مجرد عبث تجاري.
وإن كانت قد ترددت أمام ديميان لحظة البوح له، إلا أنها في النهاية لم تجد في الأمر ما يثقل كاهلها.
أما هذه الطاقة المقدسة، فقصتها مختلفة.
إن كان باستطاعتها إنبات الأزهار المقدسة بهذه الكثرة، فلن يلبث المنافقون أن يتزلفوا إليها ويرفعونها إلى مقام القديسة ويحاولون استغلالها.
وما أبعد الفارق بين جمع بعض المال وبين الظفر بمجدٍ مقدّس يطغى على وجود الوريث الشرعي لبيت بليك.
‘هذا العالم أيضًا لا يرى إلا الابن البكر. أما البنات، فغاية آمالهنّ أن يزوّجن زواجًا حسنًا. فإن جذبتُ مزيدًا من الأنظار……’
حينها، ستتحوّل تلك النظرات الدافئة الموجهة نحوها إلى برودٍ قاسٍ.
عضّت لويسا على شفتها السفلى بعصبية.
ربما كان ما نالته من عناية في الماضي لم يكن سوى شفقة على مريضة يُظن أنها على وشك الموت.
ومع صعود الخوف شيئًا فشيئًا، اكتسحت الأفكار السوداء عقلها وفرضت سطوتها.
‘لا، لا أريد ذلك.’
زفرت بعمق، مطأطئة رأسها.
كان في داخلها صخب خانق، فيما ساد الغرفة صمت ثقيل لم يكسره إلا أنفاسها المتقطعة.
ثم دوّى من خلف النافذة ضجيج غريب.
“……ما الأمر هناك؟”
لم يكن بوسعها أن تتجاهل ذلك الصخب العارم.
اقتربت لويسا من النافذة بوجه يعلوه الاستغراب، وفجأة خفق قلبها بعنف بعدما تجمّد لوهلة كأنما أصابته قشعريرة باردة.
بَغتةً—
اندفعت لويسا راكضة خارج الغرفة، متجهة نحو الدوق المحمول على محفة.
كانت هذه أوّل مرة يحدث أمر كهذا.
لم يسبق قط أن عاد الدوق بليك إلى القصر في مثل هذه الحال مطروحًا بهذا الشكل.
لم يكن ثمة وقت لإخفاء حالته.
فالخدم جميعًا وقفوا في الزوايا مكمومي الأنفاس، بينما هرع الطبيب الخاص مسرعًا إلى جناح ربّ القصر.
“أخي، ما الذي يحدث؟!”
تشبثت لويسا بذراع ديميان الواقف أمام الباب وسألته.
كان قد عاد برفقة والده من الخارج، لكن وجهه بدا شاحبًا إلى حدّ الموت.
تطلّعت عيناه البنفسجيتان اللتان كانت تحدقان في الطبيب مذهولتين نحوها بتردد.
حاول أن يشكّل على شفتيه ابتسامة مطمئنة، غير أنّ ملامحه لم تسعفه فخرجت مشوّهة نافرة التكلّف.
“لا تفعل ذلك. قل لي الحقيقة بصراحة.”
نطقت لويسا بحزم وقد التقطت بوادر تردده، وضغطت على ذراعيه بكلتي يديها محدّقة فيه بعينين متسعتين.
ارتجفت شفتا ديميان المتيبستين قبل أن يتلعثم في الجواب:
“……لقد هاجمتنا جموع هائلة من الوحوش. لم يحدث من قبل أن اجتمعت بهذا الكمّ.”
“أأُصيب بسببها؟”
“لا. صحيح أنّها كانت كثيرة، لكن بالنسبة لأبي فذلك لا يعدّ أمرًا عسيرًا. أجل، أصيب بجراح، لكنها ليست خطيرة، بل يمكن معالجتها بماء مقدّس بسهولة….”
“ما الذي تقصده إذن؟! فلماذا سقط إذًا؟”
“هذا ما لا أفهمه. لقد سقط فجأة… لحظة خروجه من السرداب.”
“السرداب؟”
حدّقت لويسا في ديميان الذي بدا حائرًا، لكن سرعان ما التفتت برأسها إلى والدهما عند سماع أنينه الواهن.
فركض ديميان نحوه بسرعة.
“أبي! هل أنت بخير؟ الكاهن سيصل حالًا!”
“……اخرجوا.”
“ماذا؟”
“هُوه… اكفوني… واذهبوا.”
“ما الذي تقوله فجأة؟!”
“إن… بقيتم هنا… ستصبحون في خطر….”
ارتجفت رموش لويسا بعنف.
ورأت بعينيها كأنّ المشهد يتحرّك ببطء شديد، أبيض وأسود، كأنّ كل شيء انفصل عن الواقع.
كان ثمة خطب ما.
في القصة الأصلية لم يكن مصير الدوق بليك مهدّدًا يومًا.
لقد كان دومًا قويًا، صلبًا، عصيًّا على السقوط.
حتى في أشدّ الأوقات حين تعرّضت الإمبراطورية لخطر الوحوش، ظلّ الشمال حصنًا منيعًا بفضل وقوفه كحارس على بوابته.
لكن ها هو يعود مثخنًا، عاجزًا.
“أهذا لأن الأحداث تغيّرت…؟”
يبس حلْقها.
لطالما استهانت بتغيّر الحبكة، مكتفية بتجنّب الخطر والابتعاد عن الأنظار.
لكنّها لم تتوقّع أن يمتدّ التغيير إلى الدوق نفسه.
كانت تظنّ هو وديميان في مأمن دائمًا، غير أنّ ظنّها تهاوى اليوم.
لم يعد هناك ما يبعث على الاطمئنان.
شهقت لويسا نفسًا مرتجفًا وسط هذا الواقع غير المعقول، لكن سرعان ما عقدت حاجبيها فجأة.
“……آه؟”
تنبهت حواسها إلى رائحة غريبة تسللت إلى أنفها، كرائحة شيء يحترق.
وفي اللحظة التي استوعبت فيها ما يجري، كان المشهد كلّه يتلوّن ابتداءً من جسد الدوق، وينتشر كالبقع الملونة في كل اتجاه.
رمقتهم مذهولة للحظة، ثم أغمضت عينيها بقوة قبل أن تفتحهما مجددًا وهي تكشّر عن جبينها.
“أهذه…… رائحة حطب يحترق؟”
“ماذا؟ ن-نعم؟”
قبضت على أحد الخدم الواقفين بجوارها وسألته:
“أما تشمّ شيئًا؟ كأن شيئًا ما يحترق؟”
“لا أدري يا آنستي. لا أظن أنّ ثمة رائحة حريق. بل على العكس… أشمّ رائحة دم….”
نظرت إليه لويسا بدهشة.
كيف لا يشمّون هذه الرائحة؟
بالنسبة إليها لم يكن ثمة أثر لرائحة الدم، بل طغى على أنفها ذلك الدخان الثقيل.
عادت لتستنشق بعمق، لتجد أنّه ليس مجرد حطب يحترق، بل رائحة لاذعة خانقة أشبه بما قد تنبعث به نار الكبريت.
كانت خفيفة في ظاهرها، لكنها نفاذة، حادة، تثبت وجودها بلا هوادة.
“……إنه السحر الاسود. أجل، هذه ليست مجرد آثار وحوش… بل شيء أكثر كثافة، أشدّ رسوخًا.”
******
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 62"