‘أوه… هل كان من الخطأ أن أستسلم لعناقه؟ بدلاً من أن أشعر بالراحة، أشعر بعدم ارتياح غريب…’
في لحظة واحدة خيّم السكون، فتلاشى صوت الحشرات الصادرة من بين الأشجار.
تفجّر حنجرة رافاييل القوية وهو يبتلع ريقه، وتحت أهدابه الكثيفة المنخفضة نصف إغماضة، تلألأت عيناه الزرقاوان العميقتان مثل بحر الليل وقد غشيهما شرود بارد.
في تلك اللحظة، شدّت يدها التي كانت تمسك بستره قليلاً، وما إن أخذ جسر أنفه الحاد المضاء بنور القمر يقترب شيئًا فشيئًا…
بوم!
انفجر وهج ملوّن فوق رؤوسهم، فعاد البريق إلى عيني رافاييل بعد أن كان غائماً.
تلاشى ضوء القمر الباهت، لتغمر السماء ألوان لا تُحصى من الأضواء المشرقة.
ارتعشت يدها، فانفلت قبضتها من ثوبه.
“…لقد بدأ.”
“ما كان ليضر لو بدأ متأخرًا بعض الشيء.”
تمتم رافاييل بنبرة أسف، وكأنه يلاحق همس لويسا.
‘هذا جنون…’
أدارت لويسا ببطء بصرها بعيدًا، وراحت تخفي وجهها بيدها الحرة وهي تعبث بلا جدوى بجبهتها.
‘آه، ما الذي يحدث لي؟’
أطبقت عينيها بإحكام وزفرت تنهيدة ثقيلة.
للحظة بقيت ساكنة بلا حراك وكأنها مسحورة.
لم يخطر لها يومًا أن يُخلق مثل هذا الجو بينها وبينه، لكنها ها هي تعيشه حقيقة.
‘يبدو أنّ من الأفضل أن أتجنّب مثل هذه الأماكن النائية، فحين تغيب عن البصر، يسهل أن أغرق أكثر…’
تذمّرت في داخلها حتى شعرت متأخرة بنسيم يحرك خصلات شعرها.
وحين خفضت يدها، رأت المشهد يتبدل تبعًا لحركاته وهو يواصل صعود الجبل في هدوء.
‘لكن… يا للعجب من هذه الركوبة، ما هذا الثبات المذهل!’
سرعة مدهشة أنستها تذمرها السابق تمامًا.
بوم، بوم بوم!
دوّت أصوات المفرقعات مجددًا، وبين توقفاتها كان صفير الرياح وصرير الغابة يملأ الأذن، قبل أن يعود صخب الألوان ليمتزج في السماء مرة أخرى.
وما هي إلا لحظات حتى بلغ القمّة.
خفّف رافاييل من سرعته تدريجيًا حتى توقف في مكان، فارتفع بصر لويسا للأمام.
هناك وقد انزاحت عن أعينها حجب الأشجار، انفتحت أمامها أنوار ساحرة كأن النجوم نُثرت في كل الأرجاء.
“واو…”
كان نسيم الجبل باردًا، لكن دفء الجسدين المتلاصقين أذاب البرد.
أو ربما كان سحر الأضواء التي أسرَت بصرها قد أنساها حتى الإحساس بالبرد.
مشهد لم ترَ مثله قط في حياتها.
دافئ، متلألئ، لا وحدة فيه.
كلمات لم تكن يومًا تخصها، لكنها امتلأت بها تلك الليلة.
ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيها.
بوم─!
ارتفع انفجار آخر في السماء.
شعرت أنها محظوظة لأنها ما زالت على قيد الحياة لترى ذلك.
***
كان عرض الألعاب النارية ممتعًا على غير توقع.
ربما لأن ختامه كان مُرضيًا، فقد غدا في ذاكرتها أجمل مما كان حقًا.
صحيح أنّ النزول من الجبل كان محرجًا بعض الشيء؛ لو لم يتحدثا لخيّم الصمت الخانق، فحاولت أن تفتح أحاديث عرضية بصعوبة.
‘في السابق لم أكن أكترث إن كان الجو صامتًا أم لا…’
تقلبت لويسا فوق سريرها ثم ارتمت على بطنها متكئة بذقنها على كفها.
منذ عودتها بقيت حبيسة الغرفة أيامًا طويلة، حتى أن تعبها تلاشى كليًا، وبشرتها صارت نضرة متألقة تحت أصابعها.
‘تُرى… هل انطلقت بيلا إلى الشرق؟’
تذكرت أن أحاديثها أثناء النزول بدت عابرة، لكنها في الواقع حملت بعض الفائدة.
ما خطر في بالها حينها كان السحر الاسود، فسألت عن أحوال الشرق بعدما عرفت حال الشمال.
“لقد وصلتنا بالفعل طلبات دعم جديدة من الشرق.”
“مرة أخرى؟ أليسوا قد أنهوا الأمور كما في الشمال؟”
“يمكن القول إن الشرق أفضل حالًا من الشمال لأن خطر انكشاف الوحوش أقل. غير أن الشرق بعكس الشمال ضعيف عسكريًا، ولذا ستظل في حالة طوارئ دائمة.”
“آه… إذن هل ستتوجهون قريبًا إلى الشرق؟”
“المشكلة ليست الوحوش بحد ذاتها، بل تلوث الأماكن المقدسة بالسحر الاسود. لذا حالما يتم الاستعداد ستذهب القديسة مع فرسان الحراسة فقط.”
اتضح إذن أن الشرق هو ما قصده حين قال إنها ستبتعد لمسافة بعيدة.
وإن كان الأمر يخص القديسة، فقد بدا غريبًا أن يبوح رافاييل بهذه السهولة؛ خشيت أن يكون الأمر سرًا بالغ الأهمية، فتوقفت عن السؤال.
لكنه مع ذلك كان خبرًا مثيرًا.
تساءلت إن كان ذهاب بيلا سيجعل الشرق أكثر استقرارًا.
كان من المفاجئ أن رافاييل نفسه لا يرافقها، لكن بما أن المهمة تتعلق بالتطهير فقط، فربما هناك من يكفي للقيام بها.
إنما الشيء الوحيد الذي يثير الاستفهام هو أنّه في الرواية الأصلية، حتى بعدما ذهبت بيلا، وقع أسوأ حدث حين تسرّب السحر الاسود إلى قلب الإمبراطورية نفسها.
وكون مركز الإمبراطورية قد اخترق، فذلك يعني أنّ المناطق المحيطة قد انهارت أيضًا، وما قامت به من تطهير خلال تجوالها لم يكن كاملًا.
فهل قوّة التطهير لدى بيلا أضعف مما اعتقدوا؟
‘حسنًا، ربما هي بطلة تنمو تدريجيًا. ومن تصرفاتها الآن يبدو أنها حقًا بحاجة إلى بعض النمو…’
استدارت لويسا بجسدها مستلقية على ظهرها وحدّقت في السقف.
مهما يكن، فهذا شأن أبطال هذا العالم، أما هي فالأهم أن تتصرّف بذكاء قليل وتظهر بمظهر المتعافية كي تخفف من قلق بيت بليك.
“لكن متى سنعود إلى الشمال؟ أليس قد حان الوقت تقريبًا؟”
فقد نزل الدوق بليك منذ مدة لحماية حدود الشمال، ومن الطبيعي أن يرغب ديميان بالعودة سريعًا.
وأثناء تفكيرها أن تسأله على المائدة لاحقًا، تذكّرت أن رافاييل ترك رسالة يخبر فيها أنه سيزورها اليوم.
كانت تخشى أن يأتي في اليوم التالي مباشرة بعد المهرجان، لكنه على غير المتوقع لم يتواصل إلا بعد بضعة أيام ليخبرها بقدومه هذا اليوم.
‘صحيح، فالناس منشغلون بالحديث عن الذهاب شرقًا أو عدمه، ومن الطبيعي ألا يتفرغ للمجيء هنا ذهابًا وإيابًا.’
رمشت لويسا ببصرها شرودًا ثم نهضت ببطء.
كانت قد اغتسلت، لكن ما زالت بملابس مريحة، فآن الأوان لتغييرها.
وما إن خطرت الفكرة حتى جاء الطَرق على باب الغرفة.
“المعذرة.”
“نعم؟ ما الذي تحملينه بيدك؟ رسالة؟”
اتجه بصر لويسا نحو يد ماري، فرأت مظروفين مختومين.
“نعم! رسالة من الكونتيسة داليو وأخرى من ولي العهد الأول. كلاهما جاء عاجلًا.”
“عاجلًا؟”
قبضت لويسا على الرسالتين، واحدة في كل يد ومعقّدة حاجبيها.
“تفضلي، هذا سكين الورق.”
“شكرًا لك.”
وما إن غادرت ماري حتى ألقت لويسا نظرها إلى الرسالتين.
من أيّهما تبدأ؟
سابقًا، كانت لتفتح فورًا رسالة الكونتيسة داليو، لكنها ترددت على غير العادة.
مجرد ثوانٍ قليلة من التأخير، لا أكثر.
‘…وما أهمية ذلك؟’
حدقت طويلًا في رسالة رافاييل، ثم وضعت الرسالة الأخرى على الطاولة.
بررت لنفسها الأمر بأنها فقط اختارت رسالة من سيزورها اليوم، طالما أنه بعث برسالة عاجلة، لعل شيئًا طرأ.
فتحت المظروف سريعًا، فوجدت بداخله تحية قصيرة واعتذارًا.
كتب أنه طرأ أمر يمنعه من المجيء اليوم.
أمعنت لويسا النظر في تلك الجملة طويلًا، ثم ألقت الرسالة على الطاولة.
‘حسنًا، هذا أفضل. لن أتكلف عناء تبديل الملابس.’
أغمضت عينيها ببطء ثم فتحتهما، وبعد مدة التقطت رسالة الكونتيسة داليو.
رغم أنها قُدمت كرسالة عاجلة، إلا أن مضمونها كان قصيرًا للغاية.
لم تشبه رسائلها المعتادة الممتلئة بالتحيات والعبارات الأنيقة.
‘…ماذا؟’
ما إن قرأت حتى زال الاستفهام:
2لقد شاع في المجتمع أن الآنسة لويسا مصابة بمرض عضال. وبعد التحري، يبدو أن مصدر الشائعة هو قصر فلوريا.]
قصر فلوريا…
“إنه قصر الإمبراطورة.”
تمتمت لويسا بتنهد مثقل.
أن يخرج مثل هذا الكلام من مكان توجد فيه الإمبراطورة وهي شريرة هذا العالم، ليس أمرًا عرضيًا.
أيمكن أن يكون محض صدفة؟
ابتسمت بمرارة.
لا، لا يمكن أن يكون كذلك.
من منظور الإمبراطورة، علاقة لويسا مع رافاييل أمر لا يجوز حدوثه.
وربما لأنها تظن أن رافاييل لا يكنّ لها مشاعر، سمحت بالخطوبة على اعتبار أنها لن تدوم.
لكن بعدما صارت تراهما معًا كثيرًا مؤخرًا، فلا بد أنها تشعر بقلق بالغ.
وما يقلقها أكثر هو احتمال أن يُتوج الأمر بالزواج، فيحصل رافاييل على دعم الشمال والكنيسة معًا، ما يجعله ولي عهد راسخًا أكثر من ذي قبل.
‘نعم… حان وقت التحرك فعلًا.’
انسابت عينا لويسا إلى رسالة رافاييل الموضوعة على الطاولة.
نظرت إلى عبارته التي يخبرها فيها بعدم قدومه.
“…إذن لهذا لم يأتِ.”
بهذا العذر يمكن للقصر أن يثير مسألة فسخ الخطوبة بسهولة، وهذا بالتأكيد ما يسرّ الإمبراطورة.
عندها، خيّم ظل غامض على بريق عيني لويسا البنفسجيتين.
***
“هل سمعتِ؟ تلك الشائعة.”
“أي شائعة؟”
خرجت امرأتان من قاعة الصلاة بخطوات خفيفة.
ومع مراقبتهما للمارّة في الممر، اقتربتا من بعضهما وخفضتا صوتهما كأن الكلام لعبة خفيفة.
“يقولون إن الآنسة بليك مريضة.”
“حقًا؟ وما الذي بها؟ لقد بدت بخير في حفل تنصيب القديسة.”
“على الأرجح لم تكن على ما يرام حينها أيضًا.”
“ولماذا تقولين ذلك؟”
فجأة مالت المتحدثة إلى أذن الأخرى، بعد أن ألقت نظرات سريعة حولها.
“…تقول الشائعة إنها مصابة بمرض عضال.”
وفي تلك اللحظة بالذات، أمسكت يدٌ بكتفها بشدة.
“آه! ما هذا…؟ ا… القديسة؟!”
“هل هذا صحيح؟”
تحدّق بيلا بعينين متسعتين، ممسكة بذراع المرأة بقوة.
منذ سمعت اسم الآنسة بلايك تابعت حديثهما بخفية، لكنهما لم تشعرا بوجودها، فأمسكت قلبها الذي خفق بعنف من المفاجأة.
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات