صحيح أنه كان بوسعها أن تقول ببساطة: “كفى، لا أريد سماع المزيد”، لكن ذلك بدا لها وكأنه سيجرح شخصًا يهتم لأمرها بصدق، فاستثقل قلبها فلم ترغب في ذلك.
‘لِمَ لا أتحمل يومًا واحدًا وأخرج معها فحسب؟’
انزاحت نظرة لويسا التي كانت معلقة في الفراغ عائدةً إلى ماري.
لم يكن الأمر مكروهًا حتى الموت، بل مجرد كسل، ولعلّه لا بأس أن ترافقها لمرة واحدة.
والواقع أنها في حياتها السابقة لم تعرف لذة أمرٍ مميز، بل كانت تنشد الراحة وحسب، ولم يكن خروجها هذا بدافع كراهية راسخة، لذا لم يعسر عليها أن تبدّل رأيها.
“حسنًا. لنذهب بعد غدٍ إلى المهرجان.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة المستسلم، وفي عيني ماري المتلألئتين مثل زهور البنفسج في ربيع صافٍ انعكس وجهها المشرق بالفرح.
***
طلع صباح يوم المهرجان. كان يُسمّى “مهرجان سيليستين”، ومعناه “السماء المضيئة”. كان يُقام كل عام، وأهم ما يميّزه الألعاب النارية، لذا لا يبدأ إلا بعد الظهيرة.
وهذا منح لويسا فرصة أن تستعد على مهل من دون ضجيج أو استعجال منذ الصباح.
لم يكن عليها أن تتأنق بملابس فاخرة.
فبما أنها ستسير وسط الناس كان عليها أن ترتدي شيئًا بسيطًا ومريحًا لا يلفت الأنظار.
فارتدت قميصًا كريمي اللون مزدانًا بكشكشة طويلة من الياقة حتى الأسفل، وتنورة زرقاء تصل إلى الكاحلين، وأكملت مظهرها بحزام حول الخصر.
“الملابس ليست هي الأساس على ما يبدو. فجمال مظهرك يجعل أي زي يبدو أنيقًا.”
تمتمت ماري بجدية وهي تعلق لها بروشًا صغيرًا على شكل زهرة قرب الياقة.
“اذهبي وجهزي نفسكِ بسرعة. أستطيع ارتداء ملابسي وحدي، فلا داعي أن تساعديني حتى في هذا.”
ضحكت لويسا ساخرًا وأشارت بذقنها إلى الباب.
“لكن هذا واجبي! التحضير… نعم، لا بد أن أستعد أنا أيضًا، هاها.”
“وهذه القبعة تصلح، أليس كذلك؟”
“بلى!”
“جيد، سأنتظرك إذن. اذهبي وجهزي نفسك.”
ولأن غرفة الخدم في الطابق الأول، نزلت لويسا معهـا إلى الأسفل.
وبينما كانت تستدير إلى الممر لتجلس في غرفة الاستقبال، صادفت كبير الخدم صاعدًا.
“آه! عذرًا يا آنستي. لقد وصل سمو ولي العهد منذ لحظات.”
“……ماذا؟ من؟”
“الأمير الأول. ويقول إنه ينتظرك بالخارج للانطلاق معك.”
“إن كان ينوي الانطلاق فورًا، فلماذا جاء إلى هنا إذن؟”
‘هل هناك أمر عاجل؟’
ابتسم كبير الخدم كأنه يعرف الجواب وأجاب:
“طبعًا، ليذهب بصحبتك يا آنستي.”
وأشار بلباقة إلى أسفل الدرج، بل وتنحّى جانبًا ليترك لها الطريق، كما لو أنه يحثها على النزول فورًا.
نظرت لويسا إلى ماري بجانبها بعينين تسألان: “ما الذي يحدث هنا؟”
لقد كانت قد أوصت رافاييل من قبل بأنه إذا أراد المجيء فعليه أن يخبرها قبل يوم واحد.
ومنذ حفلة تنصيب القديسة لم يلتقيا أو يتحدثا، فظنت أنه لن يأتي اليوم أيضًا، ولذلك بدا الأمر غير مفهوم.
‘……هل أصابها تشنج في العين؟’
لكن الأكثر غرابة هو أن ماري أخذت تغمز بعينها بشكل متعمد.
في البداية ظنت لويسا أن غبارًا دخل عينها، لكنها سرعان ما أيقنت من ملامحها أن الأمر مقصود.
كانت أشبه برسالة صامتة تقول: “أحسنت، أليس كذلك؟”.
فأشارت إليها لويسا بيدها لتقترب. تقدمت ماري متفاخرة واقتربت حتى لامس وجهها وجه آنستها، وهمست في غاية السرية:
“لقد زارك سموه أمس وأنتِ نائمة في قيلولتك.”
“من دون أي خبر؟”
“قال إنه مرّ عابرًا، وأوصاني أن أبلغك أنه سيأتي اليوم، أي هذا اليوم.”
“ولِمَ لم تخبريني؟”
“هيهي، أردت أن أرى وجهك المفاجأ والمسرور.”
“آه…….”
“لقد صرتما مقربين هذه الأيام، أليس كذلك؟ يبدو أن مشاعركِ أخيرًا وصلت إليه. ولما ذكرتُ له على سبيل التلميح أنك قد تذهبين إلى المهرجان، أبدى اهتمامًا كبيرًا وسألني متى ستذهبين، حتى مع أن الأمر لم يكن مؤكدًا. وها هو بالفعل… تادا!”
وأشارت بكلتي يديها بفخر نحو الباب الأمامي.
كانت إشارتها خجولة، لكن عينيها اللامعتين جعلتا النظر إليها محرجًا.
‘بعد ديميان، الآن أنتِ أيضًا يا ماري؟’
تجمدت نظرات لويسا وبرُدت.
‘هل عليّ أن أخبر من حولي بصراحة أن مشاعري قد حُسمت بالفعل؟’
فهي وإن كانت مخطوبة، لم تُفصح بأنها لا تحبه حتى لا يُفسّر ذلك كطيش أو مزاج متقلب.
لكن كثرة دفع من حولها وتشجيعهم جعلتها تتردد في تغيير موقفها.
ففي الماضي، حين كانت لويسا تعيش منعزلة، كان سبب ذلك شخصيتها العنيفة، ولم تُرِد أن يخيّبوا أملهم فيها مجددًا فيقسو عليها.
‘……ومهما يكن، إن ساءت العلاقة فستزداد القيود على تصرفاتي، ثم إن… إن…….’
على كل حال، ستصبح الأمور مزعجة بشتى الأوجه، وذلك لم يرق لها.
‘آه، لا يهم.’
أزاحت تلك الأفكار عن رأسها وأدارت وجهها بعزم نحو الأمام، وبدأت تنزل الدرج.
لو كان الجو حارًا أو ماطرًا لوجدت عذرًا لتتخلف عن الخروج، لكن الطقس كان على غير العادة مشرقًا منعشًا، والنسيم العليل يتسلل من النوافذ المفتوحة.
وما إن عبرت ممر الطابق الأول وفتحت باب المدخل حتى استوقفها كتف عريض بدا أمامها، وحين التفت ببطء، كأنما في مشهدٍ مصوَّر، ظهر رافاييل.
“لويسا.”
ناداها باسمها بكل سلاسة مادًّا يده نحوها.
تناولت يده وهي تحدق فيه بشيء من الغرابة؛ فقد اعتادت أن تراه في ثياب المراسم أو بزته العسكرية، لكنه اليوم كان في هيئة لم تألفها.
كان يرتدي قميصًا أبيض مع صديري أسود، ثوبًا عاديًّا يلبسه الرجال عادة، غير أنّ ملامحه الوسيمة جعلته يبدو أكثر أناقة.
بل حتى مع انفتاح الزر الأول عند عنقه وهو الذي طالما اعتاد إحكامه حتى أقصاه ظل يفيض بهالة رصينة تكاد تكون زاهدة.
رمشت لويسا بعينيها بضع مرات.
وبدت هيئته في مواجهة ضوء الشمس من خلفه وكأنها ليست معتمة بالظل، بل محاطة بهالة مضيئة توهمت أنها نور.
قالت متأملة:
“هذه هيئة لم أرها من قبل.”
ابتسم رافاييل قليلًا:
“لعلها عبارتي أنا. ظننت أنكِ لا ترتدين سوى الثياب الرسمية.”
“بما أننا سنجوب الشوارع، ارتأيت أن أرتدي ما لا يلفت النظر.”
“آه، فهمت…”
قدّرت جهده، غير أن العائق كان وجهه بالذات.
فبذلك القوام الممشوق وتلك الملامح اللافتة، من عسير أن يمر بين الناس دون أن يجذب الأنظار.
“ألستِ راضية؟” سأل بصوت منخفض، واقفًا أمام العربة.
“كلا، بل أنا نفسي فكرت بالطريقة ذاتها. غير أن مظهرك لا يمكن إخفاؤه بثياب، وسيكون من الصعب ألا تلفت الأنظار.”
“كان الأجدر أن أقول أنا ذلك الكلام…”
“ماذا تقصد؟” سألت وهي تصعد العربة وقد التقطت صوته المتمتم من خلفها.
“لا شيء. هل سبق أن حضرتِ مهرجانًا من قبل؟”
هزّت رأسها نافية.
“وهل هناك مكان معين ترغبين في زيارته؟”
“لا. وماذا عنك يا رافاييل؟”
“أنا أيضًا هذه أول مرة.”
“همم… لعل من الأفضل أن أذهب برفقة خادمتي؟ فكلانا لا يعرف الطريق وقد نضيع…”
“لذلك جمعت بعض المعلومات عن الأماكن المناسبة مسبقًا.”
دهشت لويسا ففتحت عينيها على وسعهما.
خبر لم تسمعه إلا بالأمس، ومع ذلك تهيأ له بهذه السرعة؟ من يراه يظنه قد رتّب برنامج موعد غرامي!
صحيح أنه قال إنه مهتم بها، لكنها كانت تظن ذلك محض فضول، لا شعورًا يمكن أن ينقلب عاطفة.
بالنسبة إليها لم يكن الأمر إلا غريبًا لا أكثر.
“لكن المشي… هل يناسبك؟ إن شعرتِ بتعب، فالأفضل أن نستريح حتى يحين وقت الألعاب النارية.”
“لا بأس. وإن شعرت بحاجة إلى راحة سأقول لك.”
“حسنًا.”
كان ينظر إليها نظرات متواصلة أحرجتها، فما كان منها إلا أن صرفت عينيها إلى النافذة.
داعبت نسائم رقيقة وجنتيها، وتعالت أصوات الحشرات واحتكاك الأوراق ببعضها مع خرير عجلات العربة، فيما أخذ المشهد يتبدّل.
بدا لها الصيف فجأة غريبًا ومختلفًا.
أما شوارع المهرجان فقد كانت مفعمة بالحيوية، تزدان بالأكشاك والمشاهد المتنوعة، وضحكات الناس لا تنقطع.
‘كان خروجي صائبًا…’
فكّرت.
حتى في أيام الجامعة لم تخرج للهو، كانت تقضي وقتها تعمل وتدرس لنيل المنح، بلا أي فسحة من حياة.
والعجيب أن الحياة تقودها الآن إلى مثل هذا.
‘ما دمت خرجت… لمَ لا أتذوق بعض الأطعمة؟ فالأكل لا يضيع سدى.’
انساقت بخطواتها نحو رائحة الأطعمة.
“أتشعرين بالجوع؟ لِمَ لا نتناول الطعام أولًا؟” سأل رافائيل وقد وقفت أمام كشك يبيع أسياخ الدجاج المشوي.
بدا كمن يبحث بنظره عن مطعم لائق، لكن لويسا أمسكت بكم قميصه برفق.
مجرد لمسة بسيطة جعلته يلتفت إليها بسرعة.
“يكفي أن نأكل هنا.”
“أأنتِ واثقة؟” تساءل وهو ينظر مترددًا إلى أسياخ الدجاج.
“نعم. أم أنّك لا تحب هذا النوع من الطعام؟”
“ليس الأمر كذلك. فقد اضطررت أحيانًا في مهماتي إلى النوم في العراء، بل إلى الصيد لطعامي. لكنكِ لست معتادة على هذا.”
آه، إذن كان قلقه من أجلها.
لوهلة حسبت أنه يعاف الأماكن الشعبية لعلو مكانته، فشعرت بالارتياح.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 52"