لست مصابة بمرض عضال! [ 5 ]
الغريب أنّه تذكّر فجأة طفلةً كان قد التقاها في صغره لوقت قصير.
لم تكن تفعل شيئًا سوى كتم أنفاسها بصمت، ومع ذلك منذ يوم الخطوبة، اختفى ذلك الشعور المزعج الذي لازمه طويلًا، بل بدأ يشعر وكأن تلك لويسا الدافئة التي كانت تواسيه قبل خمسة عشر عامًا قد عادت للظهور.
قالت له حينها:
‘هل عليك أن تثق بأحد بالضرورة؟ في النهاية، أنا من ستقضي حياتك معها.’
$أتقصدين ألّا أثق بأحد؟’
‘همم… ليس كذلك تمامًا، بل أريدك فقط أن تثق بي.’
ولكم كان لذلك القول الذي قد يبدو عابرًا وقعٌ مريحٌ في نفسه.
‘… تُرى، هل كانت تلك اللحظة مجرّد نزوة طفولية؟’
إن كانت أمّه قد غرست فيه الكثير من الشكوك، فإن لويسا التي كبرت وكأنها شخص آخر تمامًا، قد وضعت من حيث لا تدري حدًّا نهائيًا لعدم ثقته بالناس.
حين بلغ رافاييل السابعة عشرة، التقى بها صدفة في العاصمة، فكان وقع اللقاء عليه صادمًا لدرجة أنه كابوسًا راوده تلك الليلة.
في البداية حدّقت فيه كما لو كانت تراه لأول مرة في حياتها، لكن ما إن اقترب منها حتى تلونت نظراتها النقية بشيء ثقيل، وألقت عليه بصرًا غامضًا ملبّدًا، فخيّم جو بارد مخيف لا يُنسى.
ذلك التحوّل المروّع ظل حاضرًا أمام عينيه، حتى إنه قبض على أسنانه بلا وعي.
‘كم كنت أتوق لرؤيتها مجددًا، فلماذا كان لا بد أن تصبح شبيهةً بتلك المرأة…’
اشتدّ بروده وجفّ ملامحه أكثر، وفي عمق عينيه الزرقاوين ظهر رأس منحنٍ وكتفان ناحلان أمامه.
‘غريب… إنّها هادئة.’
كان هذا أبعد ما توقعه.
على ما يبدو، فإن اختيارها البقاء صامتة حتى الآن يعني أنّها فضّلت ركوب العربة معه على الدخول في جدال.
‘…لعلّها لا تبكي ثانية، أليس كذلك؟’
لكن رغم أنّ جزءًا منه كان يتمنى أن ينهار الاتفاق بينهما، وجد نفسه يخشى أن تمسح دموعها كما فعلت يوم الخطوبة.
‘لحظة… لماذا يهمّني هذا أصلًا؟ ألم أقل هذا الكلام عمداً لأجرحها؟’
تقلص حاجباه قليلًا.
كان يرفض أن تتلاشى صورة الطفلة التي عرفها، لذا كلما تكررت اللقاءات، حاول الفصل بين لويسا الماضية والحاضرة، سعيًا لنسيان الأولى.
جاهد ليعيد تثبيت عزيمته:
‘تلقي صفعة منها سيجعلني أرتاح بعض الشيء، لكن الخيار الأمثل أن تزداد جراحها حتى تطلب فسخ الخطوبة بنفسها. فأنا مهما طالبت بالفسخ، سيظل جلالته يتجاهل الأمر، لذا لا بد من إقناع أسرة الدوق بأي طريقة. نعم… يجب أن أُبقي الأمور هكذا. لكن…’
كان الأمر غريبًا؛ ففي الماضي كان يتجنب حتى النظر إليها لثانية واحدة، أما الآن، فمنذ الخطوبة وهو يجد نفسه يراقبها.
هل السبب أنّ تصرفاتها تغيّرت قليلًا، أم لأن وجودها لم يعد يخنقه كما كان من قبل؟
وربما كانت المشكلة الأكبر أنّ ذكرياتٍ حاول نسيانها بدأت تتسرب إلى ذهنه من جديد.
‘شعور مزعج…’
حتى إن مظهرها وهي تحاول ركوب العربة وحدها بخطوات حذرة وبائسة بدا له مشهدًا يثير الشفقة.
قال أخيرًا وهو يقطع عليها الطريق:
“… تفضلي، أمسكِي بيدي.”
وأقنع نفسه داخليًا بأن هذا ليس إلا من باب اللياقة تجاه الآنسة.
‘هاه، أترى كيف فرحت؟’
وكما توقّع، مدت لويسا يدها بخجل كما لو كانت تنتظر هذه اللحظة، فاختلطت مشاعره.
وزاد الأمر وطأة حين رآها تضع يدها الأخرى على فمها، وكأنها تحاول إخفاء ابتسامة سرور، فشعر بوخز في قلبه.
***
غطّت لويسا فمها بكفها لتكتم العطسة التي كادت أن تفلت منها.
‘آه، هذا الغبار اللعين من حبوب اللقاح.’
وكأنّ جسدها لا يريد أن يكتسب أي مناعة ضد الحساسية، فحكّة أنفها وحلقها جعلتها تميل برأسها إلى الأسفل بلا وعي.
‘مع أنه قال إنه لا يريد، إلا أنه على الأقل يحافظ على أبسط قواعد اللباقة.’
لم تكن قد أولت اهتمامًا لكلمات رافاييل حين ألقيا التحية في البداية، فقد اعتبرت الأمر مجرد مجاملة شكلية.
لكن حين مدّ هو يده أولاً، نظرت إليه بدهشة، وكأنها اكتشفت جانبًا آخر منه.
وبما أنه عرض المساعدة، فلم تجد داعيًا لرفضها، فأمسكت بيده فورًا.
‘لو كنت مكان رافاييل، لكنت ألغيت الموعد دون تردّد مهما كانت أهميته. يا له من متمسّك بالمبادئ… أو ربما ليس كذلك تمامًا، بما أنه طلب فسخ الخطوبة حين قابل البطلة لاحقًا. يبدو أنه يملك جانبًا لينًا في النهاية.’
ألقت لويسا نظرة عابرة على رافاييل الجالس في المقعد المقابل، ثم حوّلت وجهها نحو النافذة.
‘حقًّا، حتى في الحب يصبح لينًا. لقد انقلب على هدفه القديم في الانعزال ليصبح وليّ العهد، ودخل في صراع مع شقيقه من أجلها.’
علّقت بذلك في نفسها بلا اهتمام، ثم أخذت تحدّق بشرود في المشهد المتغيّر خارج النافذة مع حركة العربة، دون أن تفكّر في أي شيء، حتى بدا الأمر وكأنها نائمة وعيونها مفتوحة.
وصلت العربة إلى وجهتها بسرعة، وسط صمت تام.
كانت الوجهة مطعمًا فاخرًا مشهورًا في حي البوتيكات الراقي.
“أوه، إنهما سمو الأمير الأول والآنسة بليك.”
“عجيب… اعتدنا أن نراها تطارده من طرف واحد، أما الآن فهما معًا، ويبدو عليهما التكلّف.”
ما إن دخلا المطعم حتى بدأت همسات النبلاء تتعالى.
“صحيح… كانا في عزلة منذ الخطوبة، وربما يعود ذلك إلى أن الدوق بليك منعها من الخروج بعد الحادثة التي مزّقت فيها شعر إحدى الآنسات.”
“وهل كانت تلك الحادثة الوحيدة؟ لقد تسببت في عدد لا يُحصى من المشاكل.”
“ولكن… كيف تمت خطوبتها لسمو الأمير؟”
“إنها ابنة الدوق بليك طبعًا. بالمناسبة، الآنسة جوليا لم تحضر حفل الخطوبة، أليس كذلك؟ لو رأيتِ تعبير وجه الأمير في ذلك اليوم بنفسك!”
“وكيف كان؟”
“وكأنه يتمنى أن يغادر المكان فورًا! لم أرَ في حياتي خطوبة في جوّ متوتر كهذا، حتى وضع الخاتم كان كمن يسير على جليد رقيق.”
كان من العادات أن لا يتحدث الشخص الأقل مرتبة أولاً مع من هو أعلى منه، خاصةً إذا كان من العائلة الإمبراطورية، وكان من الضروري أن ينحني ويظل منحنياً حتى يختفي من نظره.
لكن خارج القصر، كان هناك قدر من المرونة حفاظًا على خصوصية أفراد العائلة، لذا اكتفى الحاضرون بإلقاء نظرات خفية عليهما.
“إنه قائد الفرسان المقدسين ومثال النزاهة، لكن… لماذا الآنسة بليك تحديدًا؟ صحيح أن عائلتها قوية، لكن شخصيتها قاسية.”
“قاسية؟ أنت تقلّلين من الأمر كثيرًا.”
تجمعت الهمسات على نبرة واحدة، كلها تشفق على رافاييل وتلوم أنانية لويسا.
وبدأت النظرات التي كانت تراقبهما خلسة تتحوّل علنًا نحو لويسا.
في تلك اللحظة، توقفت فجأة وهي تسير خلف مدير المطعم، ثم التفتت نحو الطاولة التي صدر منها الهمس الأعلى.
“……!”
وكأن الأمر كان مرتبًا، خفض الجميع أعينهم في الحال، وساد الصمت.
صحيح أن لويسا كانت معروفة بتصرفاتها المستهترة، لكنها تبقى ابنة عائلة كبرى قدّمت الكثير للإمبراطورية.
وكان هؤلاء يظنون أنها لن تتحرك خوفًا من نظرة رافاييل، فاستهانوا بها.
لكن حين التقت أعينهم بنظرتها الباردة، أدركوا متأخرين خطأهم.
كان الجو ثقيلاً. كانوا يفضلون لو أنها ردّت بكلمة بدل هذا الصمت الذي زاد جفاف حلوقهم.
‘تبدو تلك الأطباق لذيذة… هل أسأل عنها؟’
لم يكن يخطر ببال لويسا أن تقول شيئًا أصلًا.
‘لا داعي، يبدو أن هذا الطبق هو الأكثر طلبًا، فهو موجود على كل طاولة.’
لقد اعتادت على تجاهل الأقاويل العدائية منذ زمن، وبما أن صاحبة هذا الجسد كانت شخصية شريرة في القصة، فقد توقعت سلفًا أن السمعة لن تكون جيدة، فتجاهلت الأمر تمامًا.
‘سأطلب من المدير أن يوصي لي بأشهر طبق لديهم.’
فبعد أن اختبرت العداء من أقرب الناس إليها، لم تعد تكترث لمشاعر الغرباء.
واصلت لويسا تفحّص الطاولات بلا مبالاة، مغلقة أذنيها عن العالم.
لكن كان هناك شخص آخر يراقبها… رافاييل الذي لم يشاطِرها طريقة التفكير نفسها.
“أي جرأة هذه…”
تمتم ببرود، وهو يجهل أن شعار لويسا في الحياة هو “لا أفكر ولا أنشغل.”
مع أن أقوال النبلاء كانت جارحة، إلا أنها لم تخلُ من بعض الحقائق، لكنّه رغم ذلك لم يرغب في الانضمام إلى سخريتهم منها.
فهي في النهاية شريكته وخطيبته.
لم يكن يريد التدخل حتى لا يمنحهم ذريعة، لكنه بدأ يشعر بالانزعاج من الوضع.
ظل يتفحص المكان بعينيه الباردتين، ثم أغلق فمه بإحكام.
كان يظن أن لويسا لن تسكت عن هذا، لذا قرر الانتظار ومراقبة رد فعلها.
كانوا مجرد أشخاص يلهثون وراء القيل والقال ليشبعوا غرورهم، وهم يعرفون جيدًا شخصية لويسا، ويتوقعون أنها ستردّ.
وكان يتهيأ لاحتمال أن يتدخل لتهدئتها إذا خرج الأمر عن السيطرة.
لكن ما حدث كان عكس ما توقعه تمامًا.
‘لن تردّ؟’
نظر إليها بدهشة، فرأى أنها لم تقلب الطاولة، ولم تشدّ شعر أحد، بل اكتفت بإسكات الجميع بنظراتها وحدها.
‘…أهذه لويسا التي أعرفها؟’
لقد تغيّرت كثيرًا عمّا عرفه سابقًا، حتى كاد لا يصدق أنها نفس المرأة المندفعة المتعجرفة التي يعرفها قبل شهر واحد فقط.
—-
ترجمة : سنو
الحسابات صارت تنحذف من الواتباد ، وإذا مالقيتو حسابي لا تلوموني فهذول الكوريين يحذفونها ، فمنشان هيك تعو تيليجرام عامله جروب انشر فيه الروايات ملفات وإذا انحذف حسابي مراح ارجع له.
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 5"