لست مصابة بمرض عضال! [ 44 ]
‘هل تراها ستذهب معي حين أعود إلى الشمال؟ قالوا إن تعيينها كقديسة سيتم بعد أيام قليلة فقط……’
كانت مدة إقامة لويسا في العاصمة محددة بخمسة عشر يومًا.
أما الدوق بليك فلم يكن بوسعه أن يترك الشمال خاليًا لفترة طويلة، فقرر العودة فورًا.
غير أن ديميان تلقّى تعليمات بأن يعود مع لويسا بهدوء وعلى مهل، إذ قد ترهقها الرحلة إن تحركوا مباشرة.
“……منذ متى أصبحتما على هذه الدرجة من القرب؟”
إذ كانت شاردة الذهن، فات لويسا مطلع الحديث، فطرفَت بعينيها في حيرة.
“أتقصد أنه قريب؟ مني أنا؟”
“نعم.”
‘قريب؟ من مَن؟’
‘آه، لعلّه يقصد ديميان.’
فأمالت رأسها قليلًا.
“على كل حال، ما دمنا عائلة فمن الطبيعي أن نكون قريبين، أليس كذلك؟”
ظنّت أنه يلمّح إلى أنها تبدو في الآونة الأخيرة على وفاق أكبر مع ديميان، بعد أن بدت علاقتهما في السابق فاترة.
لكن الغريب أن رافاييل هو من يسأل، رغم أنه رآهما معًا أكثر من مرة.
“لم أكن أظن أنك ستسمحين له حتى بمناداة اسمك.”
“وهل يحتاج الأمر إلى إذن خاص لمجرد مناداة الاسم؟”
انعقدت حاجبا لويسا باستغراب، غير أن عبوسها لا يكاد يُقارن بالانقباض الشديد الذي ظهر في جبين رافاييل.
راحت عروقه البارزة على عنقه تنتفخ، وارتجّ تفاحته بوضوح.
“……لماذا تقولين ‘مجرد’؟”
“لأنه أخي. نحن عائلة.”
“عائلة؟! أتقصدين أنكِ تركتِه يناديكِ باسمك فقط لأننا مخطوبان؟”
‘ماذا يقول؟!’
اتسعت عينا لويسا بدهشة.
“وما علاقة خطبتنا بأخي؟”
“ماذا؟”
“ماذا؟”
تبادل الاثنان نظرات مشدوهة، حتى قطع رافاييل الصمت المربك وهو يمرر يده على وجهه كما لو كان يغسلها جفافًا.
بدا كمن يحاول تهدئة نفسه، يتنفس بعمق ثم يزفر مرارًا.
“……لم أقصد ديميان. كنت أتحدث عن ساينف.”
“آه، تعني سموّ الأمير الثاني؟”
“نعم. ألم تستقبلي هدية منه مؤخرًا؟ لعلاقة لا تتجاوز تبادل التحية، يبدو عليكما قدرٌ من القرب المبالغ فيه.”
كان صوته مختلفًا عن عادته؛ إذ اكتسى حدّة ظاهرة على غير أسلوبه المعتاد.
حتى إنه ذكّرها بحديثه السابق يوم وصلت هدية ساينف، حين سألها إن كان بينهما معرفة.
نظرت إليه لويسا باستغراب ‘ما الذي أصابه؟’
“ليست بيننا أي علاقة قريبة. ثم إني لم أسمح له أصلًا بأن يناديني باسمي.”
“……حقًّا؟”
“لكن حتى لو كان الأمر صحيحًا، فما المشكلة؟ لا يعدو كونه مجرد اسم.”
في مجتمع النبلاء صحيح أن مناداة الاسم الأول تعني عادة بعض الألفة، لكن لويسا لم ترَ الأمر مهمًّا.
وفي النهاية، من الذي يجرؤ أصلًا أن يرفض مباشرةً أميرًا إن أراد مناداتها باسمها؟ رأيها في المسألة بلا قيمة.
‘صحيح أنه يضايقني أن يتظاهر بالقرب مني، لكن هذا خارج عن إرادتي.’
“مجرد اسم؟! أما أنا، فلم توافقي يومًا أن أناديك به.”
“وهل طلبتَ مني ذلك أصلًا……؟”
حاولت لويسا أن تستعيد بذاكرتها، لكنها لم تجد شيئًا. فأمالت رأسها متسائلة.
“ذلك لأن…….”
“لأن ماذا؟”
“لأننا مخطوبان، فلا حاجة لطلب الإذن!”
‘أي حوار هذا؟’
فكّرت لويسا وهي تخدش وجنتها بسبابتها بملل.
‘ما الذي يجعله شديد الحدة هكذا؟ هل مجرد اسم مهم إلى هذه الدرجة؟’
‘حتى لو ناداني الأمير الثاني باسمي، هل يستحق الأمر كل هذا الغضب؟ همم…… أيمكن أن العلاقة بينهما متوترة أصلًا؟’
تضيق عيناها وهي تتأمل رافاييل الذي كان يتحسس أذنه بلا وعي.
صحيح أنه يبدو كمن لا يطمع بالعرش، بل يفضل الانضمام إلى الكنيسة، لكنها تذكرت أن الرواية الأصلية تحدثت عن صدام مباشر بينه وبين ساينف بشأن بيلا.
فلا بد إذن أن علاقتهما لم تكن على ما يرام.
‘على أي حال، نادر أن يكون بين الإخوة وئام تام، أليس كذلك؟ حتى أنا نفسي مع ديميان أشعر أحيانًا بغربة ووحشة.’
“……صدقت. لا حاجة لأن تطلب الإذن. يمكنك مناداتي كما تشاء.”
‘مع أنني لست متأكدة إن كانت هذه الخطوبة ستدوم أصلًا.’
“همم، إذن يحق لي أيضًا مناداتك باسمك؟”
“نعم.”
‘مجرد اسم، فما المشكلة؟’
أجابت لويسا بهدوء وهي تفكر أن التنقل بين مناداته مرة بالقائد وأخرى بالأمير أمر مرهق أصلًا.
وبعد أن بدا الأمر وكأنه حُسم، عاودت السير.
لم تكن تفكر إلا بالوصول بسرعة لتستريح، فقد طال عليها الضيق.
‘هل السبب فعلًا النبيذ؟ لماذا أشعر أن صدري يزداد ضيقًا شيئًا فشيئًا؟ إن الإحساس مألوف على نحو غريب…….’
وضعت يدها على صدرها وعقدت حاجبيها.
“أتشعرين بألم؟”
“آه… ربما لأنني شربت الخمر، أشعر ببعض الانقباض في معدتي.”
“……أتريدين أن تختبئي وراء ذريعة الخمر مجددًا؟”
“ها؟ أنا متى فعلت ذلك… آه.”
“ألم تفعلي ذلك في حفل الحديقة؟ والآن وقد عرفتُ كل شيء، فلماذا تواصلين الإخفاء؟”
“لا، لكنني حقًا أظن أن السبب هو الإفراط في الشرب، هيك—!”
فجأة خفق قلبها خفقة هائلة فاهتز جسدها كله بصوت ضرباته كأن سدًّا كان يمنع في داخلها انقضَّ وانهار فاندفع فيضان جارف من الداخل.
وضعت لويسا يدها على فمها مسرعة إلى الغرفة القريبة على يسارها.
كانت تدرك أن رافاييل يتبعها بخطوات قريبة، لكنها لم تجد وقتًا للاكتراث، وانطلقت مباشرة نحو النافذة.
وإذا بدمٍ قاتم مائلٍ إلى السواد يتفجّر خارج النافذة ليلطّخ عتمة الليل.
“هَاه… هَاه…”
كانت تتنفس بصعوبة ممسكة بحافة النافذة، فإذا بكفّ كبيرة حذرة تلمس ظهرها برفق، ثم بدأت تربّت ببطء كأنها تواسيها.
التفتت لويسا بوجهٍ مرتبك لترى من جانب عينيها منديلًا ممدودًا أمامها.
كان رافاييل يمدّه إليها وملامحه متصلّبة، فكاه مشدود كأنه يضغط على أسنانه بشدّة.
“…شـ، شكرًا لك.”
مدّت يدًا مرتجفة لتأخذ المنديل وتضعه على فمها.
تلك الدفقة الوحيدة من الدماء كانت قوية إلى درجة أرهقتها كليًا وأثارت ارتجاف جسدها بأسره.
لم تفهم السبب، ولا أين بدأ الخلل.
تاهت عيناها البنفسجيتان القلقتان في الفراغ.
وفجأة برز أمام بصرها قارورة صغيرة شفافة.
“خذي هذا، اشربيه.”
كان ماءً مقدّسًا. فتوسّعت عيناها وهي تنظر إلى رافاييل.
“إن شربتِه ستهدئين بعض الشيء. لقد جربتِه من قبل.”
“آه…”
لم تكن تتوقع منه هذه العناية.
تناولت القارورة بوجه متحيّر.
لكنها ما لبثت أن ترددت للحظة حين رأت نظراته الحادّة التي لا تترك لها خيارًا، ثم ارتشفت الماء المقدّس.
كان ينساب في حلقها ويهدّئ حنجرتها وأحشاءها المشتعلة.
“لو استدعيتُ الطبيب، هل سترفضين؟”
“…لقد شربتُ ماءً مقدسًا، فلا بأس. ومجدّدًا… شكرًا لك.”
تنهد رافاييل وكأنه كان يتوقع هذا الجواب.
ظل يحدّق طويلًا في وجهها، بنظرات شفافة تخترق باطنها، حتى إنها لم تجرؤ أن تردّ النظر.
فأخذت تعبث بالقارورة في يدها وتقول بنبرة عادية:
“يبدو أن الرحلة إلى العاصمة أرهقتني. إن ارتحت قليلًا، سأتحسن.”
عندها خفض رافاييل بصره، فأُسدل جفناه الطويلان المرتعشان قليلًا، ثم أعاد فتحهما بعد تنهيدة عميقة ورفع عينيه إليها من جديد.
“لماذا أشعر وكأنكِ دائمًا تتجاهلين حالتكِ؟ هل تعرفين أصل هذا المرض وسبيل علاجه فعلًا؟”
كانت ملامحه متناقضة، مزيجًا من الغضب والقلق والاضطراب، حتى إنها لم تستطع أن تفهم قصده.
أما لويسا، فقد بدأ الغضب يعتريها.
كانت منزعجة أصلًا، فما حاجته لأن يثقل عليها بهذا الإلحاح؟
“وما شأنك أنت؟ أليس من المفترض أن لا يهمّك إن متُّ أو عشت؟”
تفجّر كلامها كالصفعة.
ارتجفت ذقن رافاييل للحظة، وارتسم على وجهه ذهول وارتباك عميق.
بدا وكأن الهواء قد انقطع عنه حتى تحرّكت شفاهه دون صوت، فخيم بينهما صمت ثقيل لم يملأه سوى أنفاسهما المضطربة.
‘يا إلهي، ماذا قلت أنا للتو؟’
تأفّفت لويسا وهي تعقد حاجبيها.
كان عليها أن تُصلح الموقف لا أن تفسده أكثر، لكن عقلها خانها في لحظة.
امتلأت الأجواء بالصمت.
وأثناء تفكيرها بما ستقول، شاهدت رافاييل يمرر يده على وجهه بعصبية، فابتلعت كلماتها من جديد.
“…أنا أيضًا.”
“…..؟”
“أنا أيضًا لا أعرف. لكن… أجد نفسي منشغلًا بكِ باستمرار.”
“ها؟”
حدّقت به مذهولة وهي ترمش بعينيها، ثم أمالت رأسها قليلاً.
منشغل بها؟ بأي معنى؟ أيمكن أنه يقصد…
‘هل يريد أن يقول إن سوء حالتي يزعجه؟’
فهو قد منحها ماءً مقدسًا وألحّ أن تخضع لفحص القصر، بينما هي ترفض وتبقي الخطبة معلّقة.
ومع ظهور بيلا في هذا الوقت، فمن الطبيعي أن يراه أمرًا مقلقًا.
‘لكن… هل هو حقًا صار مقرّبًا من بيلا؟ لو كان كذلك، ألم يكن من المفترض أن يحضر معها هذه الحفلة؟’
****
فتحنا انا وصديقاتي المترجمات قناة خاصة بتسريب الروايات واعلانات الفصول وفعاليات وأيضا طلبات وحروقات … واذا اختفيت بتلاقوني هنيك
هاد رابط القناه اعملو سكرين شوت وادخلو لعدسه قوقل منه:
https://t.me/+OedqgPvPKXoyZDFk
التعليقات