لست مصابة بمرض عضال! [ 43 ]
كانت لويسا تتناول الطعام على مهل وتضع اللقم في فمها برشاقة وأناقة بينما عينيها تجولان إلى الطرف الآخر من القاعة.
فما إن نزلت الإمبراطورة قبل قليل إلى الطابق الأول حتى أسرعت ترعى بيلا، وكان من الطبيعي أن تتجمّع حولهما سيدات النبلاء.
حتى من بعيد بدت أجواؤهن مليئة بالمرح والانسجام، وذلك كان في صالح لويسا التي ارتاحت كثيراً لكون الأنظار بعيدة عنها.
فقد كانت تخشى أن تُستوقف مراراً بصفتها خطيبة ولي العهد، لكن لحسن حظها لم يحدث شيء من ذلك.
فعادت لتركيزها على صحنها، تمضغ ببطء وبمزاج رائق.
قال ديميان وهو بجانبها يعتني بها منذ قليل:
“لويسا، هل أجلب لك شيئاً لتشربيه؟”
فأجابته بلطف:
“لا بأس. سأهتم بنفسي. أنت اذهب، اشغل نفسك بأمر آخر.”
“وأي أمر أهم من البقاء معك؟”
“لكنهم يراقبونك هناك منذ قليل، وكأن في صدورهم كلاماً كثيراً.”
“……ربما كانوا يراقبون شخصاً آخر.”
“أخي.”
“ماذا؟”
“اذهب. لا تنس أنني آنسة بالغة، فقد اجتزت حفل الظهور الاول بالفعل.”
“أود أن أنسى ذلك، لكنكِ ستبقين في عيني دوماً أختي الصغيرة.”
‘حالته ميؤوس منها حقاً…’
فكرت لويسا، ثم وضعت الطبق جانباً ودَفَعت ذراعه بخفة.
“كفى، هيا اذهب. بوجودك هنا تزداد الأعين علينا.”
ففي الحقيقة، كانت ترغب بالجلوس في ركن هادئ تتناول طعامها بسلام، لكن وجود ديميان بجانبها جعل الهمسات تكثر والأنظار تتوجه إليها.
“لويسا……”
“إنها وليمة بعد طول غياب، تمهّل واستمتع أنت أيضاً.”
“وكيف أهنأ من دونك……”
“قلت اذهب.”
“……حسناً.”
لم يجد بداً من التراجع أمام نبرة لويسا الحاسمة، فانزاح بخطوات مترددة أشبه بجروٍ صغير يجر ذيله، متوجهاً إلى حيث تجمع النبلاء، وكأن وجهه يقول إنه مرغَم.
‘وكأنني ارتكبت ذنباً في حقه… لمَ يتصرف هكذا؟’
مدّت لويسا يدها إلى طبقها ثم عدلت عنه ممسكة بكأس النبيذ.
السائل الوردي الشفاف كان يتماوج بخفة داخل الكأس.
‘مجرد النظر إلى النبيذ يمنحني بعض السكينة…’
تظاهرت بأنها ترشفه وهي تراقب موائد القاعة.
رغم تنوع أنواع النبيذ التي يحملها الخدم، إلا أنّ الطلب الغالب كان على النبيذ الوردي (الروزيه).
ورغم زيادة الإنتاج، فإنّ الأمر لم يكن سهلاً بسبب كبار النبلاء الذين يشترون العشرات أو المئات من القوارير دفعة واحدة.
ومن المؤكد أن بين الحاضرين اليوم من لم يتمكن من شرائه، فإذا ما تذوقوه في هذه الوليمة سيزداد شغفهم به أكثر.
‘نعم… مذاقه رائع.’
لم يكن إعجابها به لأنها هي من يبيعه، بل لأن نبيذ ألبيرت روزيه كان حقاً ثمرة جهدٍ مبذول بإتقان.
حتى لو ظهرت منتجات مقلدة، فهي واثقة أنها لن ترقى لمستواه أبداً.
‘وطبعاً، لن أسمح بظهور مثل تلك التقليدات أصلاً.’
أدارت الكأس بين أصابعها ترتسم على شفتيها ابتسامة جانبية صغيرة.
“مضى وقت طويل.”
لكن صوتاً غير مرغوب فيه انساب من خلفها، فانعقدت ابتسامتها على الفور.
خطرت لها فكرة أن تتجاهل وتغادر، غير أن أنظار النبلاء بدأت تتجه إليها، فاضطرت للالتفات ببطء.
‘تبا…’
ابتلعت شتيمة في صدرها، ثم استدارت لتقول بانحناءة رسمية:
“أحيّي سمو الأمير.”
وكان أمامها شاب رقيق الملامح، شديد الجمال، يرد بابتسامة فاتنة.
إنه الأمير الثاني ساينف الذي ما كانت تتوقع أن تلتقيه مباشرة.
أخفت بصعوبة انزعاجها.
من كان يظن أنه سيتكلف عناء التقدّم إليها هكذا؟
ووضع يده على صدره بانحناءة قصيرة، فأثارت إيماءته الراقية إعجاب من حولهما.
“كم هو آسر الجمال…”
“يبدو كأنه لوحة حيّة.”
“……هل كانت الآنسة بليك والأمير الثاني يعرفان بعضهما؟”
“ربما بسبب خطوبتها من الأمير الأول.”
“لا تقل… هل تجرأت أن تفعل معه كما فعلت مع الأمير الأول؟”
“يا للوقاحة، لو صح ذلك فهي لم تتغيّر: جريئة ومهينة كما كانت.”
مع أنّ الجميع رأوا أن ساينف هو من بادر إليها، إلا أنهم قلبوا الحقائق كما يشاؤون.
وهذا ما كانت تكرهه لويسا: ألسنة الناس الجاهزة للافتراء، وأصواتهم هذه المرة تتسرب إلى أذنها بوضوح قاسٍ.
فأخذت تفرك أذنها ببرود وهي تسمع الهمسات.
قال ساينف بنبرة رقيقة، لكن كلامه ينضح حدّة:
“لا حاجة لأن تصغي إلى جهلاء كهؤلاء.”
ثم ابتسم ابتسامة لم تتوافق مع كلماته وأضاف:
“آه، أم أنني تأخرت؟ لعلّك كنتِ تتجاهلينهم منذ البداية؟”
قالت لويسا بفتور:
“……لا أفهم ما الذي تقصده.”
“هاها، فلنقل ذلك إذن. على كل حال، تبدين بخير.”
تأملتها عينان زرقاوان أعمق قليلًا من عيني رافاييل، مسحها بنظراته من أعلى لأسفل.
“لأنك لم تجيبي على رسائلي، خشيت أنكِ ربما كنتِ بين الحياة والموت.”
آه…… في النهاية جاء ذكر الهدايا.
رفعت لويسا يدها بخجل لتلمس وجنتها.
“……أعتذر، فقد أصابني زكام شديد ألزمني الفراش، وفاتتني فرصة أن أقدم لك الشكر. لكن…… كيف عرفت أن صحتي لم تكن بخير؟”
“آه، زكام إذن؟”
“نعم، فشتاء الشمال قاسٍ بطبعه.”
“همم…….”
أطلق ساينف ضحكة قصيرة بأنفه وهو يميل رأسه قليلًا.
ظهرت في عينيه المبتسمتين ملامح فضول سافر.
“توقعاتي كانت صائبة إذن. بما أن شمال البلاد بارد على مدار الفصول، خمّنتُ أنكِ أصبتِ بالزكام، وها قد صدقتُ.”
“نعم، على ما يبدو…….”
‘لماذا يبدو مسرورًا إلى هذا الحد؟’
لم تخفِ لويسا نفورًا بدأ يتسلل إلى ملامحها.
“بما أنك قد تعافيت الآن، فهل تتكرمين وترقصين معي رقصة؟”
‘أجننت؟ مجرد محادثته تؤلم رأسي، فكيف أرقص معه وسط القاعة؟! هذا آخر ما يمكن أن أفعله!’
خشيت أن تظهر امتعاضها جليًّا، فخفضت حاجبيها قليلًا وغطّت أسفل وجهها بيدها.
“……أعتذر، صحتي لا تزال غير مستقرة. حتى إنني لم أرقص مع خطيبي منذ قليل، وهذا مؤسف حقًا.”
‘إن كنت لم أرقص حتى مع خطيبي، فكيف أرقص مع غيره؟’
قالت ذلك عن عمد لتُذكِّر ساينف بوجود رافاييل الذي بدا وكأنه لا يُلقي له بالًا.
غطى ساينف فمه بيده وانفجر ضاحكًا.
بدا كالمجنون.
منذ لحظات وهو يضحك مع نفسه، وها هو الآن يضحك بصوت مرتفع يكاد يدوّي.
كان ضحكه مزعجًا إلى درجة أن وجود رافاييل بجوارها كان ليُشعرها براحة أكبر منه.
“آه، صحيح! لم يخطر لي هذا. كدتُ أرتكب خطأ جسيمًا في حق أخي. أليس كذلك؟”
“بالتأكيد القائد سيتفهم الأمر.”
أجابت لويسا ببرود متعمد، لا تريد أن تُطيل أكثر مع هذا الرجل الذي لا يجلب سوى الصداع.
ثم وضعت يدها على جبينها وكأنها تشكو وعكة.
“أرجو المعذرة، هل يمكنني الانصراف قليلًا؟ أظنني بحاجة إلى الراحة.”
ولم يكن هذا كذبًا تمامًا؛ فمنذ قليل بدأ صدرها يثقل قليلًا، ربما لأنها شربت الكثير من النبيذ، وكانت فعلًا بحاجة إلى الابتعاد والهدوء.
“لا أظن أنك ستغادرين الحفل باكرًا، هل ستذهبين إذن إلى غرفة الزينة؟” ( غرفه استراحه لتعديل الثياب والتزيين لضيوف الحفل )
“نعم.”
“إذن، لا يليق أن تذهب آنسة وحدها. اسمحي لي أن أرافقك.”
“المرافقة من نصيبي.”
لم تُتح لها فرصة الاعتراض. فقد حالَف صوته العميق ظهورَ ثوب أبيض سدَّ مجال بصرها.
رفعت رأسها فرأت ظهرًا تعرفه جيدًا.
“إلى غرفة الزينة تذهبين؟”
نظر إليها رافاييل وهو يميل قليلًا نحوها.
“……نعم.”
“انتهى الحديث سريعًا. كنت أظن أنه سيطول بعض الشيء.”
وضعت لويسا يدها فوق كفِّه الممدودة، ثم حولت بصرها إلى ساينف.
ففعل رافاييل الأمر نفسه، ونظر إليه أيضًا.
“نحن في مجلس حفل، لذا اختصرت الحديث.”
“أها. وهل التقيتِ بالقديسة المرتقبة للكنيسة؟”
“لا.”
“ولماذا؟ ستلتقون كثيرًا داخل الكنيسة مستقبلًا، كان من الأفضل أن تبادري بالتحية منذ الآن، أليس كذلك يا لويسا؟”
‘ما هذا الآن؟!’
رمشت لويسا بدهشة من جرأة ساينف حين ناداها باسمها بهذه الألفة.
كان أسلوبه حميميًا أكثر من اللازم، لدرجة أن أي ناظر من بعيد سيظن أن بينهما علاقة وثيقة، رغم أنهما لم يتبادلا سوى بضع كلمات.
ألقت لويسا نظرة خاطفة إلى رافاييل، فبدت ملامحه متصلبة بعض الشيء.
“……كما قلت، سنلتقي بها في الكنيسة مستقبلًا، وحينها سيكون وقت التحية مناسبًا. هيا بنا.”
شدَّ رافاييل يدها قليلًا وسار، فيما اكتفت هي بانحناءة خفيفة تجاه ساينف الذي ابتسم بأسى مصطنع، ثم أعرضت عنه.
سمعت همسات الحضور من حولها، لكنها لم تعد تزعجها كما في السابق.
‘آه، ينبغي أن أخبر أخي.’
وأخذت تبحث بعينيها عن ديميان، فوقع بصرها على بيلا.
كانت بيلا وسط مجموعة من النبلاء، تبتسم بخجل، وعيناها تتوقفان للحظة على رافاييل وساينف أكثر من توقفها عند لويسا نفسها.
‘الآن أدركت أن أبطال الرواية قد اجتمعوا في مكان واحد.’
لكن الغريب أن “أبطال الرواية” لا يبدون مهتمين ببعضهم كما توقعت.
لعلها سمة اللقاءات الأولى، ثم تأخذ العلاقات في التوطد شيئًا فشيئًا.
‘لم يحدث أي حدث بارز كما تخيلت……’
فكرت وهي تشير إلى أحد الخدم ليبلِّغ ديميان بأنها ذاهبة إلى غرفة الزينة.
‘ترى، هل سيهتم ديميان ببيلا يومًا ما؟ ربما حين نستعين بقدرتها على التطهير في الشمال، سيقضيان وقتًا أطول معًا، وهناك قد تتوطد علاقتهما.’
‘لكن…… متى ستأتي إلى الشمال يا ترى؟’
صحيح أنها نجحت مؤخرًا في كبح جماح وحوش الشمال إلى حدٍّ ما، لكن ذلك مجرد حل مؤقت.
قريبًا سيكون عليها أن تتوجه بنفسها لتفقُّد الأوضاع هناك.
****
فتحنا انا وصديقاتي المترجمات قناة خاصة بتسريب الروايات واعلانات الفصول وفعاليات وأيضا طلبات وحروقات … واذا اختفيت بتلاقوني هنيك
هاد رابط القناه اعملو سكرين شوت وادخلو لعدسه قوقل منه:
https://t.me/+OedqgPvPKXoyZDFk
التعليقات