“في الحقيقة لا أدري… لكني قبل قليل لمحتُه خلسة، فوجدتُه تارةً واقفًا ساكنًا، وتارةً أخرى يمشي جيئةً وذهابًا في مكانه، بدا عليه الاضطراب.”
‘هل لديه ما يريد قوله؟ أم سيطلب مني الذهاب إلى الكنيسة؟ لكن لا أظن أن الأمر يستحق أن ينتظر أمام باب غرفتي على هذا النحو…’
جفّفت لويسا ما تبقّى من قطرات الماء على يديها بعناية، ثم أرسلت نظرة عابرة إلى الخاتم الذي اعتادت ملمسه.
‘هل الأمر بسبب هذا؟’
ربما لا، لكنها أجلت هذا الموقف طويلًا، وحان وقت إظهاره بوضوح.
فرَافاييل ما إن يراه سيدرك فورًا أنّ هذه الأداة السحرية قد نُقش عليها الخَتم.
بينما تحدّق لويسا في الفراغ لحظة رمشت سريعًا وقالت:
“هل انتهيتِ؟”
“نعم يا آنستي. ألا تشعرين بأي إزعاج؟”
“لا. هيا بنا إلى قاعة الطعام.”
“حالًا!”
ابتسمت ماري برضا وهي تدير مقبض الباب، وبينما كان يُفتح ببطء، لمحت لويسا رافاييل واقفًا أمامه شارد الذهن كأنه غارق في التفكير.
‘لو كان الأمر بيدي لتظاهرتُ بعدم رؤيته ومضيتُ فحسب…’
لكنها قالت ببرود:
“سيدي القائد.”
ارتبك رافاييل وحوّل بصره إليها.
تبادلت معه نظرة قصيرة، ثم أمسكت بطرف ثوبها وانحنت بخفة وأمالت رأسها قليلًا في حركة تنطق ‘ماذا تفعل واقفًا هنا؟’
تنحنح رافاييل محرجًا وهو يصرف عينيه جانبًا.
“… في طريقك إلى الطعام؟”
“نعم.”
“صدفةً، أنا أيضًا متجه إلى هناك. لنذهب معًا.”
‘غريب… فالممر هنا لا يقود أصلًا إلى قاعة الطعام…’
رمشت لويسا مرتين، لكنها اكتفت بهزّ رأسها.
سألها وهو يراقبها:
“هل يناسبك أن تتحركي الآن؟”
“نعم.”
في الحقيقة كان جسدها بخير، لكن رغبتها في الحركة كانت منعدمة. ولو كان بوسعها لاختارت الأكل في غرفتها، لكن ذلك سيجعل ماري تحضر لها أطعمة صحية غريبة، فآثرت التوجّه إلى القاعة.
سارت ببطء في الممر، ورافاييل يرافقها بصمت. وما إن وصلا إلى مقاعد الطعام حتى قال:
“الدوق بليك وابنه غادرا باكرًا إلى الكنيسة.”
‘إلى الكنيسة؟ ليس إلى الحدود؟’
رفعت لويسا عينيها بدهشة فالتقت بنظرة خاطفة منه قبل أن يصرف بصره إلى المقاعد.
“كان عليهم أن يوصلوا أمرًا عاجلًا، لذا سبقونا.”
‘أمر عاجل؟ ما هو يا ترى؟ لعلهم يوضّحون حين أذهب إلى الكنيسة…’
جلست على الكرسي الذي سحبه لها، وسألته:
“وأنتَ يا سيدي القائد؟”
“… سألتحق بهم بعد قليل.”
كان تردده واضحًا، فبقيت تنظر إليه وهو يجلس في المقعد المقابل.
“هل تودّين الذهاب معي بعد الطعام؟”
“أمم…”
أمالت رأسها قليلاً.
صحيح أنها مضطرة للذهاب، لكنها كانت تتمنى لو تذهب وحدها.
ففي العربة الصغيرة سيكون الاضطرار إلى الجلوس متصلّبةً بجواره أمرًا خانقًا. لكنها لا تستطيع الرفض وقد وعدته بالأمس.
كان رافاييل يثبت نظره عليها منتظرًا جوابها، فتنهدت وأجابت بتكلف:
“بعد الطعام مباشرة؟”
“بعد الطعام مباشرة.”
“… حسنًا. هل يناسب أن نغادر بعد ساعتين؟”
“نعم. سأكون بانتظارك في الوقت المحدد.”
جاء الطعام في تلك اللحظة، فانتقل اهتمام لويسا كله إلى المائدة.
‘لعل السبب أنني أمس أُجبرت على أكل أطعمة لينة فقط بعد نزيف الدم، فالطعام يبدو أشهى اليوم، ورائحته تلهب معدتي…’
***
طوال فترة الطعام، لم يُبعد رافاييل عينيه عنها.
كان يراقبها بشغف حتى نسي أن في ذلك مساسًا بالذوق، فيما هي لم تُلقِ عليه نظرة واحدة منشغلةً بأكلها.
‘… هل حقًا هي بخير؟’
قبل أن يراها وهي تتقيأ دمًا، كان يفكر أحيانًا أن يجاري مزاجها المتقلّب ببعض العناد الطفولي. لكن كل تلك الأفكار تبددت منذ الأمس.
ظلّ مشهدها وهي تحاول أن تبدو قوية رغم ألمها يتراءى أمام عينيه.
كانت تتصرّف وكأن قلق الجميع يرهقها أكثر من النزيف نفسه. ولو لم يرَ بعينه الدم، لكان صدّق ادّعاءها أنها بخير.
لكن كيف يكون بخير من يتقيأ دمًا وهو يتلوّى ألمًا؟
بل الأدهى أنها لم تُظهر ضيقًا أو انفعالًا تجاه من حولها، بل حاولت حتى أن تُطمئن ديميان.
‘مستحيل أن تكون بخير…’
هكذا أجاب رافاييل نفسه.
كان واثقًا أن ما تعانيه خطير، لكنها رغم ذلك لم تفكّر إلا في تخفيف قلق الآخرين.
‘أخي، مكانك بجانبي.’
في تلك الكلمات التي انتزعتها بصعوبة في النهاية، شعر رافاييل بوقع الوحدة.
وربما لم يكن هو وحده، بل كل من كان حاضرًا في تلك الغرفة أحسّ بها أيضًا.
‘في مثل هذا الوقت بالذات… الوضع لا يساعد.’
فقد تدهورت الأوضاع بعد أن اكتُشفت الزهور المقدسة الملوثه بالسحر الاسود في الشمال كما حدث من قبل في الشرق. وكان ذلك نذير خطر عظيم، إذ إن هذه الأراضي أصلًا تعجّ بالوحوش، وإذا ضعفت الحدود المقدّسة التي تحمي البشر، فلن يبقى لهم أمان.
ولولا هذه الظروف الطارئة، لكان ديميان على الأقل قادرًا على البقاء إلى جوار لويسا دائمًا. لكن الحاجة دفعت بالجميع للمشاركة في مواجهة الأزمة، فلم يتسنَّ ذلك.
استعاد رافاييل صورة الدوق بلييك في ذهنه؛ حين وقف أمام غرفة لويسا ليلًا بينما الجميع نيام. لم يكن ذاك الرجل المتماسك الذي لا ينكسر حتى أمام الإمبراطور، بل بدا منهكًا، منكسر الكتفين.
‘… في النهاية هذه قضية تخصّ أهل بليك. أما أنا، فمجرد غريب سيغدو يومًا خارج حياتهم. عليَّ أن أضع المهمة فوق كل شيء.’
كرر عزيمته التي طالما ردّدها، فيما ظلّ يراقب لويسا وهي تُنهي طعامها بهدوء، غير مدرك أنه يختلق لنفسه العذر بأن سبب تأخّره عن التوجّه إلى الكنيسة ليس إلا انشغاله بالوثائق.
***
كان الشتاء في مقاطعة بليك لا ينتهي. حتى إن تعاقبت الفصول، لم يمنع ذلك برودة الطقس الدائمة، وإن كان الثلج لا يهطل باستمرار.
وقبل أن تستقل لويسا العربة، تفقّد رافاييل ملبسها الثقيل مرة أخيرة، ثم انطلق بها نحو الكنيسة.
قالت بعد مضي قليل من سير العربة:
“سيدي القائد.”
أثار ذلك استغرابه قليلًا، إذ تذكّر أن غالبًا ما يكون هو من يبدأ الحديث مؤخرًا، لكنه مع ذلك أنصت مترقبًا.
رفعت يدها وأخرجت الخاتم من إصبعها، قائلة:
“هذا.”
تجمّد وجه رافاييل للحظة وهو يظن أنها تعطيه خاتم الخطوبة الذي كانا يتشاركانه، فانقبض ما بين حاجبيه.
“… ما هذا؟”
“إنه الأثر السحري. وعدتك أن أريك إياه.”
“آه…”
لم يتوقع هذا الجواب، فانفرجت ملامحه التي غشاها التجهّم، ولمعت عيناه الزرقاوان للحظة.
“ألستَ بحاجة إلى رؤيته؟”
“بلى… بالطبع.”
مدّ يده بلا تفكير، فوضعت الخاتم في كفه.
حدّق فيها لبرهة، ثم أنزل نظره ببطء نحو الخاتم.
“انتظري… أتقولين إن هذا الأثر السحري؟”
أفاق متأخرًا، وحدّق إليها بنظرة ضيّقة.
كانت هي تحكّ خدها بإصبعها في حرج.
“ن-نعم…”
“لا تقولي إنكِ قمتِ بنقشه!”
“لقد حدث ذلك… من غير قصد.”
“هذا في غاية الخطورة!”
زمجر بها بصوت منخفض قبل أن يطبق شفتيه نادمًا على حدّته، ثم أطلق تنهيدة وهو يستجمع نفسه.
“أعتذر… لكن لهذا السبب قلتُ إن عليَّ التحقق منه أولًا. ألم تشعري بأي أعراض؟”
“أبدًا!”
“… وكيف إذن تمّ النقش؟”
“كنتُ فقط أعبث به بدافع الفضول، فإذا به يتغير فجأة.”
أغلق رافاييل عينيه بإحكام وهو يستمع إليها تروي الأمر ببرود وكأن لا شيء حدث.
لم يعرف من أين يبدأ توبيخها، فاكتفى بتمرير يده في شعره متمتمًا:
“ألا تدركين أنك متهورة؟ إنه شيء خطير!”
“أمم… حسبته مجرد قطعة أثرية قديمة.”
“يا للعجب… أهو تهوّر أم شجاعة عمياء؟ لحسن حظك لم يُصِبك مكروه، فقد كان الأمر على المحك. من الآن فصاعدًا لا تشتري شيئًا مجهولًا ولا تلمسي ما لا تعرفين.”
“أه… أترى أنه يستحق كل هذا الحرص؟”
“هو أهون بكثير من أن تتورطي بجهل وتعرّضي نفسك للهلاك.”
ارتعشت رموشها قليلًا ثم أومأت في استسلام، غير أن في ملامحها أثرًا من الفتور لم يفُت رافاييل.
تردّد لحظة بين أن يعيد تنبيهها مرة أخرى أو يلوذ بالصمت.
‘حقًا… أمرها عصيّ على الفهم.’
كانت أفكارها معقدة ومشاعره هو بدورها لم تكن أقل اضطرابًا.
مسح جبينه بتعب ثم أسقط نظره على جانب وجهها وهي تحدّق في الخارج.
كان يراها فيما مضى باردة الملامح كشتاء مقاطعة بليك الدائم.
أما اليوم فقد بدت له هادئة ونقية أقرب إلى الربيع.
ربما كان السبب أن خصلات شعرها الكستنائي التقطت أشعة الشمس، فتألقت كأنها ذهب. أو لعل ملامحها الرفيعة الشديدة الدقة وبشرتها الشفافة الصافية هي ما اجتذب ناظريه أكثر من أي وقت مضى.
أطبق عينيه لحظة يخفي اضطرابه، ثم أعاد فتحهما وأسقط نظره على الخاتم الراقد في راحته.
لم يعد كتلة شبه شفافة كما كان، بل غدا مرصعًا داخل حلقة ذهبية.
أن يتحوّل الأثر من تلقاء نفسه أمر نادر للغاية، والأرجح أن لويسا نطقت دون وعي بالكلمة المحرّكة الخاصة به.
****
فتحنا انا وصديقاتي المترجمات قناة خاصة بتسريب الروايات واعلانات الفصول وفعاليات وأيضا طلبات وحروقات … واذا اختفيت بتلاقوني هنيك
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 33"