راحت ماري وعلى وجهها ملامح القلق الشديد تصلح قبعة لويسا وهي تتمتم:
“الآنسة التي اعتادت التذمّر دومًا من الإزعاج، لماذا فجأةً…؟”
فأجابتها لويسا:
“ألستِ أنتِ من قال إن عليّ أن أتحرك قليلًا؟”
فاحتجّت ماري بسرعة:
“لكنني قصدتُ أنه في الأيام الصافية سيكون من الجيد أن تخرجي في نزهة قصيرة تحت الشمس، لا أكثر!”
ابتسمت لويسا ببرود وهي ترتدي قفازَيها وقالت:
“حسنًا، الجو اليوم مناسب، أليس كذلك؟ ثم إن أمي كانت تعتني بالمكان وحدها من قبل. أستطيع أنا أيضًا أن أفعل ذلك.”
“آه…”
لم تكن لويسا تقصد سوى أنّ شخصًا آخر قد تولّى الاعتناء بالحديقة سابقًا بمفرده، غير أنّ ماري أساءت الفهم وظنّت أنها تتحدث بشوق عن والدتها الراحلة.
رفعت لويسا نظرها باستغراب إلى ماري التي أوشكت على البكاء، متسائلة إن كان مجرد فكرة الاعتناء بالحديقة وحدها يضايقها إلى هذا الحد.
لكن لم يكن بوسعها ترك الزهور المقدسة مهملة، فرأت أن ما تخطط له هو الحلّ الأمثل حاليًّا.
‘الكنيسة بالكاد تحاول أن تجعل زهرة إضافية تتفتح، فكيف أزيّن بها الغرفة هكذا علنًا…؟’
ربّتت برفق على ذراع ماري في إشارة إلى أن تفهمها، ثم غادرت الغرفة.
شعرت بخطوات ماري خلفها، لكنها كانت واثقة بأنها لن تتبعها إلى الحديقة الخلفية.
وفي طريقها، انهمرت عليها النظرات من كل جانب.
كان الخدم يرمقونها خلسة وكأنهم يخشون إزعاجها، فإذا التقت أعينهم بعينيها انحنوا برؤوسهم حتى يكادون ينكسرون نصفين. وقد اعتادت هي هذا المشهد حتى لم تعد تكترث.
فلطالما قضت وقتًا طويلًا في قصر بليك قبل سفرها إلى العاصمة، ويبدو أنّ الجميع ذاقوا من حدّتها بما يكفي.
ومع مرور الأيام، وحين رأوها تلتزم الهدوء دون إثارة المشاكل، بدؤوا يتخففون من حذرهم شيئًا فشيئًا.
ففي اليوم الأول كانوا يرتجفون كأوراق الحور كلما مرّت بهم، أما الآن فقد تحولت نظراتهم من ريبة إلى شيء من الاستغراب، حتى صار الحال أفضل قليلًا.
‘لا بأس، فذلك أهون من الإزعاج.’
لم تكن تنوي السعي وراء تغييرٍ ما، بل فقط ألا تصدم أحدًا أكثر من اللازم. وهكذا مضت بخطوات ثابتة وعينها إلى الأمام.
كانت الحديقة الخلفية واسعة ومصانة جيدًا، غير أنّ عمقها احتوى بقعة غطتها الأعشاب البرية، وفي وسطها مقعد خشبي بدا أن أحدًا لا يقترب منه.
‘فلنزرعها إذن هنا، حيث لا يكاد يرانا أحد.’
ورغم أن أشعة الشمس لا تصل إلا قليلًا إلى تلك البقعة، إلا أنها لم تكن مظلمة بالكامل، فوجدت المكان مناسبًا.
اقتُلعت بعض الأعشاب الطويلة فقط في الموضع الذي ستزرع فيه، إذ خشيت أن يبدو المكان لافتًا لو نظفته أكثر من اللازم.
فتحت لويسا حقيبة النزهة، وأخرجت المِجرفة الصغيرة التي أعدّتها ماري، وحفرت بها حفرة ضحلة.
“هذا يكفي.”
ثم ألقت المِجرفة جانبًا وأخرجت من الحقيبة زهرة مقدسة بيضاء ناصعة، راحت بتلاتها ترتجف مع النسيم من دون أن تفوح منها أي رائحة.
أمسكت لويسا الساق بين إصبعيها وأدارته قليلًا، ثم غرسته في التراب مستقيمًا شامخًا.
بدا المشهد غريبًا: زهرة بيضاء وحيدة تنتصب وسط الأعشاب البرية.
فتحت الوعاء الصغير المملوء بالماء وسكبت القليل برفق فوقها. ثم حدّقت للحظة في البتلات الندية وهي تلمع تحت أشعة الشمس حين لمستها بأطراف أصابعها فتطايرت قطرات الماء متلألئة.
“لا تذبلي.”
انطلقت همستها مع الريح لتتبدّد في الهواء.
***
في الآونة الأخيرة، كان الدوق بليك منشغلًا إلى حد أنه نادرًا ما يمكث في القصر. أما رافاييل فقد غادر منذ الفجر إلى الكنيسة، فلم يبقَ على مائدة الإفطار سوى ديميان ولويسا.
سألته لويسا:
“حملة صيد للوحوش؟”
“نعم. الجميع يبذل جهدًا، فلا بد أن أشارك أنا أيضًا.”
تأملته لويسا قليلًا وهو يتناول طعامه بهدوء، ثم خفضت نظرها إلى صحنها.
“لكن هل يجوز أن يغيب الجميع؟ إن لم يكن الأب موجودًا، أليس عليك أنت على الأقل البقاء؟”
ابتسم ديميان وقال:
“المهمة ليست خطيرة. الفرسان المقدسون يرافقوننا لذا ستكون آمنة، وقد أذن لنا والدي بذلك.”
“أها… إذن هذه المرة فقط؟”
“لا، أظن أن الأمر سيتكرر كثيرًا. تكاثر الوحوش يزداد بسرعة فلا بد من القضاء عليها سريعًا. ربما سأتأخر كثيرًا في الأيام القادمة.”
أومأت لويسا بخفة.
‘إذن لن أرى رافاييل لفترة أيضًا…؟ يبدو أن لا وقت حتى لمشاركته في الذهاب إلى الكنيسة، فضلًا عن تناول الطعام معه. وما إن يمضي الوقت على هذا النحو، حتى يحين يوم صعودي إلى العاصمة.’
‘لا بأس، فذلك أهون. الجميع منشغل، أما أنا فأكاد أبدو عاطلة بلا فائدة، لكن ما دمت لا أستطيع المساعدة، فلا معنى للشعور بالحرج.’
قطع ديميان أفكارها بصوت خافت:
“آسف.”
“ماذا؟”
رفعت رأسها وهي لا تزال تمضغ الطعام.
كانت كلماته المفاجئة كافية لتوسيع عينيها.
رأته ينظر إليها بعينين حزینتین، وملامحه يكسوها الأسف.
“لأني سأترككِ وحدك.”
“ولمَ تعتذر على ذلك؟”
رمشت لويسا بدهشة.
“لا بد أنك تشعرين بالملل وأنتِ حبيسة القصر، فإذا غادرنا جميعًا فلن يبقى لكِ أنيس. لو لم تكن هذه الحملات لرافقْتُك في نزهة على الأقل.”
“…… يمكننا فعل ذلك لاحقًا. لدينا متّسع من الوقت.”
‘ألهذا الحد يحمّل نفسه الذنب؟’
في كل مرة كانت لويسا تتعامل مع ديميان، يداهمها انقباض في حلقها كأنها ابتلعت شيئًا غريبًا ومنفّرًا لا يُبتلع، فتتملكها رغبة ملحّة في لفظه على الفور.
وكان هذا الإحساس يجعلها دائمًا في ضيق وحرج.
ارتسمت على شفتي ديميان ابتسامة مشرقة.
“شكرًا لك. سأنهي الأمر بسرعة فاحرصي أنتِ على تناول دواءك بانتظام حتى تتمكّني من الذهاب إلى أي مكان ترغبين به.”
عندها لم تجد لويسا سبيلًا سوى رفع كأس الماء وتجنّب النظر إليه.
انساب الماء بسهولة في حلقها، غير أن الضيق الذي يعصر صدرها بقي كما هو.
***
ما إن صعدت لويسا إلى غرفتها حتى سارعت إلى إخراج أوراق من الدرج.
عادت إليها فجأة الفكرة الملحّة بوجوب كسب المال مجددًا، فجلست لتراجع تصميم الملصقات المخصّصة لقوارير النبيذ، وهو عمل كانت قد أهملته فترةً بتكاسل.
في الحقيقة، كان التصميم قد أوشك على الاكتمال.
فمنذ أيام أرسل إليها ألبيرت روزيه نبيذ الروزيه النهائي، ومعه اتخذت الخطوة الحاسمة لإطلاقه في الأسواق، فأسرعت بإنهاء عملها.
كان المخطّط يقضي بأن يُرسم إكليل غار تحيط به أغصان الورد بشكل غير مبالغ فيه، وفي الوسط يوضع اسم نبيذ الروزيه وسنة الحصاد. لكن ثمة أمر كان يثير قلقها.
وبينما كانت تكمل الخطوط الأخيرة، عقدت لويسا حاجبيها:
“لكن… كيف أُلصق هذه الملصقات؟ الطريقة المعتادة تجعل الشكل فوضويًّا للغاية…”
اكتشفت أنّ الطرق المستعملة حاليًّا كانت إمّا تثبيت الملصق الجلدي بخيط وهو أسلوب قديم كاد يندثر أو لصق الملصق الورقي بعجينة الدقيق، وهي الطريقة الشائعة الآن، لكنها ضعيفة التماسك وسرعان ما تتلف وتبدو قبيحة.
‘ألا يوجد لاصق أقوى من هذه العجينة؟ طبيعي أن تتطلّب بعض الصناعات لواصق أفضل…’
وأخذت تحدّق في الغرفة بشرود حتى توقّف بصرها عند غرفة الملابس.
كانت ترتدي غالبًا فساتين خفيفة متطايرة، لكنها امتلكت أيضًا فساتين من أقمشة صلبة تكاد تشبه الدرع. وعندها ومضةٌ لمعت في ذهنها.
“لم لا أجرّب اللاصق المستخدم في الأقمشة هنا؟”
كلما فكّرت في الأمر بدا منطقيًّا أكثر.
أسرعت فأنهت تصميمها وبدأت بكتابة رسالة.
إلى السيّدة دالّيو زوجة الكونت التي تعدّ من أعظم الأثرياء.
فكّرت أن تطلب منها المساعدة في شراء اللاصق المناسب على أن تبعث إليها هديةً مع نبيذ الروزيه الجديد كعربون شكر.
ولمن اعتادت إقامة الحفلات وجمع علاقات لا حصر لها، سيكون هذا الإهداء هدية مثالية، بينما يغدو لها هي فرصة دعائية لا تقدر بثمن.
“آه… حقًا إنني أعمل بجهدٍ بالغ…”
ابتسمت بسخرية مُرة، شاعرةً بالأسى على نصيبها الذي لا يتيح لها الراحة حتى لو وُلدت من جديد.
لكنها في الوقت نفسه لم تستطع إنكار الرضا الذي منحها إياه هذا الإحساس بالإنجاز.
تقدّمت الأمور بسرعة. فأرسلت عبر ماري رسالةً إلى الكونتيسة دالّيو، وأخرى إلى ألبيرت روزيه لتخبره بمستجدّات العمل.
“وأخيرًا… تحرّرت.”
تنفّست لويسا الصعداء وارتمت على سريرها.
“لن أفعل شيئًا بعد الآن.”
تمتمت وهي تدفن نصف وجهها في الوسادة، ثم انقلبت على ظهرها تنظر إلى السقف، واستسلمت بعدها لثقل جفونها، فأغمضت عينيها طلبًا للنوم.
***
كان الضجيج يملأ المكان. أصوات الخيل تصهل وصياح الرجال جعلت عيني لويسا تنفتحان فجأة.
‘كم الساعة الآن؟’
فركت عينيها المثقلتين بالنعاس، ثم جلست ببطء.
ألقت نظرة حولها فرأت الغرفة وقد أظلمت، ولم يبقَ إلا وهج مواقد النار يتراقص على الجدران.
‘يبدو أنني نمت طوال النهار…’
تذكّرت أن ماري كانت قد أيقظتها في الظهيرة، وأطعمتها شيئًا وهي بين النوم واليقظة، ثم لم تشعر بشيء بعدها حتى الآن.
‘تُرى… هل عادوا من حملة الصيد؟’
تثاءبت ومدّت أطرافها، ثم نهضت بتثاقل، وأسدلَت على كتفيها معطفًا سميكًا، وتوجّهت بخطوات بطيئة نحو النافذة.
***
فتحنا انا وصديقاتي المترجمات قناة خاصة بتسريب الروايات واعلانات الفصول وفعاليات وأيضا طلبات وحروقات … واذا اختفيت بتلاقوني هنيك
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات