حدّقت لويسا في رافاييل بعين باردة خالية من التعبير.
هيئته وهو يدير رأسه جانبًا ويضع قبضته قرب فمه، بدت أشبه بشخص محرج.
ذلك الرجل الذي لم يكن يتغير وجهه قيد أنملة كأنه يرتدي قناعًا.
‘غريب…’
لم تعد تشعر بالدهشة قدر ما أخذت تتساءل: لماذا يتصرف هكذا؟ في الماضي كان سيتظاهر بعدم معرفتها، بل ويتفاداها كلما اقتربت، أما الآن فتصرفاته مريبة للغاية.
“إذن، بما أن واجباتك الرسمية لها الأولوية، فلنؤجل الأمر إلى أن تهدأ الأحوال قليلًا ونحدّد موعدًا عندها؟”
“صحيح أنني مشغول، لكن عملي لا يمتد طوال اليوم. أستطيع تدبير الوقت بسهولة.”
“آه…….”
أومأت لويسا باقتضاب متمتمة بتعليق عابر.
بدا وكأنه متحمس لتحديد موعد، وهو ما يناقض قوله إن الأثر السحري ليس غايته.
‘على أي حال، لا داعي للتدقيق أكثر.’
كان ترك الأمور دون متابعة أنسب لها بكثير، لذا صرفت بصرها بهدوء.
آنذاك لفت انتباهها من خلال النافذة غصن نحيل تتدلى منه ورقة صغيرة.
‘أخيرًا بدأ البرد ينكسر…’
كانت قد ندمت قليلًا على قدومها على عجل إلى الشمال لشدة برودته، لكن تلك العلامة الصغيرة على انقضاء الشتاء أدخلت في قلبها بعض الارتياح.
“إذن، متى ما شئت أخبرني. فأنا عادةً لا أغادر القصر إلا عند زيارتي الكنيسة.”
ارتخى لسانها بانبساط بسيط، ورسم ثغرها ابتسامة لطيفة. تطلع رافاييل إليها مليًّا، ثم بادر بالسؤال:
“كم تبقّى لديك من الماء المقدس؟”
تجمّدت ابتسامتها في الحال.
‘صحيح… لقد أعطاني رافاييل كمية كبيرة من الماء المقدس.’
طرحه السؤال فجأة جعلها تشعر بشيء من الحرج؛ وكأنها غادرت مباشرة إلى الشمال بعد أن أخذت ما أراد إعطائها.
وكانت الكمية وفيرة بحيث لم يظهر نقصان رغم استخدامها بعضًا منها، وهو بالتأكيد يدرك ذلك.
“……بفضلك، ما زال لدي الكثير.”
“وهل كان فعّالًا؟”
“طبعًا. أشكرك مجددًا.”
“لم أسألك طلبًا لشكر. إنما لأتأكد فقط من… كُح، من فاعلية الماء المقدس.”
رغم أنه تلعثم قليلًا في منتصف حديثه، لم تُعِر لويسا الأمر بالًا.
بدا لها من الطبيعي أن يثير اهتمام فارس مقدس مثل هذا السؤال.
“أتفهمك. ما زلت أجهل تمامًا آثاره بعيدة المدى، لكن إن ظهرت نتائج أوضح سأشاركها معك.”
“……مفهوم.”
“آه، لقد وصلنا.”
كان رافاييل قد تمتم بلهجة متبرّمة، وهو يضيق ما بين حاجبيه، ثم اتجه بنظره إلى الخارج حيث كانت قد سبقت لويسا بالنظر.
كانت العربة قد تباطأت عند وصولها إلى بوابة الكنيسة الشمالية. وحين عاد ببصره إليها غاصت عيناه الزرقاوان في عمق صامت.
***
لم يخطر له قط أن لحظة صغيرة قد تكشف له الكثير.
لم يستطع رافاييل أن يشيح بصره عن عيني لويسا البنفسجيتين اللتين تلوح فيهما برودة لا مبالاة.
منذ متى تبدلت هكذا؟ لم يكن يعرف.
قبل وقت قصير فقط، كانت تلك العينان أسيرة روابط مشاعر متشبثة لا تنقطع، أما الآن فقد باتت كأنها شخص آخر تمامًا.
‘إنه أمر حسن… بل جدير بالترحيب. فلماذا يثير غيظي إذن؟’
لقد غيّر جدول أعماله وجاء إلى الشمال. صحيح أن السبب المعلن هو خطورة أوضاع الوحوش، لكن الحقيقة أن تجاهل مشاعره له حدود.
جاء كي يرى بعينيه لويسا التي اختفت فجأة، تاركة وراءها أسئلة بلا جواب.
هي التي كانت تلحّ في ملاحقته إلى حد الإزعاج، فإذا بها تظهر بوجه شاحب وكأنها ستسقط مغمًى عليها، ثم تخفي ذلك وتقول إنها بخير.
لقد كانت مقلقة إلى حدّ الجنون.
مشاهدتها وحدها كانت تكتم أنفاسه وتذكّره بأمور أراد نسيانها، حتى إنه عزم على التعجيل بسلوك درب الكاردينال هربًا من ذلك العبء.
ومع ذلك، ها هو يجد نفسه مشدودًا إليها مجددًا.
صحيح أنه انشغل بفحص تغيّرها، لكنه كان يريد بالدرجة الأولى أن يطمئن إلى صحتها. إلا أن برودتها وملامحها الجامدة أزعجته أكثر.
‘من البداية كانت تلك الفتاة السبب في قلب حياتي رأسًا على عقب… واقعي، ومستقبلي.’
كيف يمكن أن تُربكه بهذا القدر ثم تتصرّف الآن كأن شيئًا لم يكن وكأنها تحولت إلى شخص آخر؟ لم يستطع أن يبتلع مرارة ذلك.
إن كانت قد تخلّصت حقًا من مشاعرها، فلماذا لا تبادر بإنهاء هذه العلاقة المشؤومة؟
كان من الأفضل أن تُستغل هذه الفرصة لإلغاء الخطوبة، لكن الواقع لم يكن بسيطًا إلى هذا الحد.
كان لا بد أن يتحمل أحد الطرفين تبعات الفسخ، ولم يكن راغبًا في أن يسبق إليها هو.
‘……على أي حال، مع قضية الوحوش لن يتم الزواج قريبًا. وإن حدث ضغط، فسيكون من طرف الآنسة بليك لا غير.’
شدّ رافاييل على فكّه.
توقفت العربة عند بوابة الكنيسة، وانفتح الباب.
لويسا التي لم تلتفت إليه قط وكانت تنظر إلى الخارج، نهضت حالما توقفت.
استنشق رافاييل نفسًا عميقًا، ومدّ يده ليوقفها قبل أن تنزل أولًا.
ترددت لحظة وهي تنظر إليه، ثم ما لبث أن سبقها بالنزول ومد يده إليها فوضعت يدها في يده طائعة.
“لتسطع عليكم بركات السماء. تفضلا بالدخول.”
بادر كاهن كان بانتظارهما بالترحيب، فانفصلت يدها عن يده.
أحسّ رافاييل بارتباك غريب من دفء لمستها وهي تغادره، ثم رفع عينيه إلى الكاهن.
“لتسطع عليكم بركات السماء. أنا رافاييل، قائد فرسان الكنيسة.”
“يسعدني أن ألتقي أخيرًا بالرجل الذي كثر الحديث عنه. أنا يوران، المشرف على الكنيسة الشمالية.”
“نعم، أشكركم على مراعاتكم مكان إقامة فرساننا.”
“بل أنا من أشكركم. بفضل شجاعة فرسانكم، ستهدأ رياح الشمال قريبًا.”
نظر رافاييل إلى ابتسامة يوران الودودة لبرهة، ثم أومأ برأسه مرة واحدة.
على الرغم من أن المنطقة قاسية، إلا أن الشمال كان أرضًا لعائلة بليك التي تتمتع بنفوذ كبيرة داخل الإمبراطورية.
ومن المدهش أن يشرف على الكنيسة كاهن وليس ممثلًا رسميًا، ما يدل على قدراته الكبيرة، كما أن مظهره الشاب يوحي بكفاءته العالية، مما جعل رافاييل يلمس كفاءته على الفور.
“يا كاهن، الطقس بارد، فلماذا انتظرت في الخارج؟”
“هاها، اعتدت على برد الشمال، فالجو الآن يبدو دافئًا بالنسبة لي. أشكرك على اهتمامك.”
التقت نظرات رافاييل بلويسا، ولاحظ أن العلاقة بينها وبين الكاهن تبدو ودية. بل يمكن القول إن لويسا تبدو مرتاحة نوعًا ما معه.
على الرغم من أنها قضت وقتًا في الشمال، إلا أن شخصيتها تجعل من غير المرجح أن تأتي إلى الكنيسة كثيرًا، فربما كانت مؤمنة ومتديّنة حقًا، وهو أمر غير متوقع على الإطلاق.
لويسا بليك متدينة…
ولكن عند النظر إليهما، لم يكن هناك ما يدعو للتفكير في شيء آخر. لم يمض وقت طويل منذ وصولها للشمال، ومن المستبعد أن تكون قد اقتربت منه في هذا الوقت القصير…
أزاح رافاييل يده عن وجهه وهو يحاول صرف النظر.
لم يفهم لماذا يعطي الأمر كل هذا الاهتمام.
“قائد الفرسان، هل أنت مستعد للمغادرة؟ هل نذهب مباشرة إلى الحدود؟”
“نعم، شكرًا على جهودك.”
انحنى نائب القائد المرافق لهم تحيةً للويسا، ثم توجه إلى رافاييل للسؤال.
سار رافاييل نحو مكان انتظار نائب القائد والفرسان، وبدأ في مراجعة جدول الأعمال.
كان عليهم الوصول إلى الحدود الشمالية قبل حلول الظلام، وعندما كانوا على وشك الانطلاق، جذب انتباهه حديث من الخلف:
“كيف حالك؟”
“همم… بخير، أظن أنني أشعر بتحسن اليوم أكثر من المعتاد.”
“أتشعرين بتحسن أكثر…؟”
“نعم، ربما بسبب وجودنا في الكنيسة.”
“هل يمكنني أن آخذ يدكِ لحظة؟ أريد التأكد من شيء، وأعتذر على الإزعاج.”
“آه، نعم، تفضل هنا.”
رفع رافاييل حاجبه؛ فاللمس بين رجل وامرأة يجب أن يكون محسوبًا، خصوصًا أن الكهنة يتحلون بالحذر في كل حركة، لكنه فوجئ بطلب مباشر كهذا.
تملكه شعور غريب؛ أي علاقة كانت بينهما الآن، فهي خطيبته، فلا يمكنه تجاهل ذلك.
صوتها المنخفض وهمساتها جعلت أعصابه تتوتر أكثر من تصرفها نفسه.
أدار رافاييل رأسه بسرعة، ثم فُتحت عيناه على مصراعيها.
كان يوران يمسك بيد لويسا اليمنى بكلتا يديه، ويهمس في أذنه بلا انقطاع، ليس بلمسة خفيفة فحسب، بل قبض على يدها بإحكام، مما بدا له أمرًا غير عادي.
“قائد الفرسان؟”
صوت نائب القائد الذي بدا متعجبًا وصل خلفه، لكنه لم يصل إلى أذن رافاييل.
تقدم رافاييل بخطوات سريعة، حاجباه مشدودان، واقتحم المسافة بين لويسا والكاهن الذي كان غارقًا في عالمه الخاص.
رمشت لويسا وألقت نظرة على رافاييل دون أن تُحرر يدها من الكاهن.
حرك رافاييل شفتيه؛ لقد جاء غريزيًا، لكنه لم يجد ما يقوله فعليًا.
وفور اقترابه، شعر أنه ربما كان من الأفضل الاكتفاء بما عليه والقيام بواجبه فقط.
حينها فتح يوران عينيه، وانفكت قبضة يده عن يد لويسا، لتتسع المسافة بينهما قليلًا.
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات