جلست لويسا في مكانها المقابل لرافاييل، رفعت بصرها إليه للحظة ثم أسقطته بهدوء.
بينما كانت تتابع بملل أيدي الخدم يضعون الصحون على المائدة، وقعت عيناها تلقائيًا على يدها اليسرى المستندة فوق الطاولة.
هناك كان يلمع أثر نور الأعماق الذي لم تتذكره منذ أن وُشِم على يدها، إذ شغلتها هموم كثيرة بعد ذلك.
لقد كان الأثر قد استقر على هيئة خاتم، فصار أداة سحرية ملتصقة بها، مريحة لدرجة أنها لم تشعر بأي ثِقل أو إزعاج في حياتها اليومية.
‘إن صادفت وحشًا هنا، فقد ألقنه درسًا بهذا… آه، مهلاً. ألم أَعِد بأن أُري هذا الأثر؟’
وفجأة، قفزت الذكرى إلى ذهنها.
‘صحيح… المزاد!’
في يوم شرائها للأثر كانت قد وعدت أن تُريه له، لكن في اليوم ذاته وقع هجوم الساحر الأسود فاضطرت للعودة إلى المنزل وسط الفوضى، ومن ثم نُسي الأمر ببساطة.
‘لا يكون هو جاء فعلًا لأجل هذا؟’
كلما أعادت التفكير بدا الأمر معقولًا. فما الذي يدفع قائد الفرسان المقدسين بنفسه إلى القدوم إلى هذه الأصقاع البعيدة؟
صحيح أنّ وحوش الشمال خطيرة، لكن بيت بليك لطالما صمد في وجهها، وكان يمكن الاكتفاء بإرسال بعض الفرسان الآخرين.
‘نعم، لا شك في ذلك. لقد جاء بسبب هذا فقط.’
شعرت بالسخرية، لكنها لم تستطع لومه، فالخطأ كان منها إذ أخلفت وعدها. بل إن إصراره لو كان سببه ذلك فقط جعله يبدو شديد العناد، ما دفعها للتفكير أنّ الأفضل تجنبه قدر المستطاع.
وبينما كانت تحدّق فيه خفية، إذا به يرفع عينيه فجأة لتلتقي نظراتهما. لم تجد وقتًا لتتجنبها.
فأشارت لاشعوريًا إلى إصبعها الوسطى بسبّابتها، ثم لمست بلطف الخاتم المرصّع بجوهرة صغيرة، محركة شفتيها بصمت كأنها تقول: “هذا هو الأثر الذي وعدتُك أن أريك إياه.”
لكن المشكلة أن رافاييل لم يستطع التقاط حركة شفتيها لشدّة ارتباكه.
‘ولماذا تُشير إلى الخاتم؟’
ارتبك رافاييل.
فلويسا التي بدت مذعورة منذ قليل، ها هي الآن ساكنة الوجه كأنها لم تعد تكترث بوجوده، وذلك أهاج في صدره شعورًا بالضيق.
وها هي تعرض عليه خاتمًا في إصبعها؟
بينما الإصبع الذي يفترض أن يلمع فيه خاتم الخطبة كان خاليًا تمامًا. هو نفسه لا يضع حُليًّا بسبب حمله السيف، لكن لويسا ما عذرها؟
هل هذا إعلان بأن كل شيء بينهما قد انتهى؟ أن تخلع خاتم الخطبة وترتدي بدلًا عنه خاتمًا غريبًا؟ لم يستطع تقبّل هذا التصرف أو فهمه.
‘أو لعلّها…….’
تجمّدت عيناه على الخاتم ببرودة لافتة. أما لويسا، فشعرت بخزي من حدّة نظرته، فأخذت تعبث بإصبعها قليلًا قبل أن تُخفيه بقبضة يدها.
كانا قد نسيا وجود الدوق وديميان اللذين يراقبان بصمت، غارقَين شيئًا فشيئًا في عالم يخصّهما وحدهما.
‘هل هي تطلب أن أجدد عرض الزواج؟’
هذا ما فهمه رافاييل من إشاراتها الغريبة.
أما لويسا فابتسمت في داخلها ساخرًة:
‘إذن جاء كل هذا الطريق لأنه تضايق من ذلك؟ يا لضيقه وحقارته!’
كلٌّ منهما غارق في ظنونه، لا يدري ما يدور في رأس الآخر.
***
على جدار الدفيئة الزجاجية الشاهقة ارتسم ظل فستان أخضر أنيق، وكان يتمايل مع خطوات الإمبراطورة هالين وسط البستان الممتد الذي بدا أشبه بمتاهة صغيرة من الأزهار. كان على وجهها ابتسامة مرسومة بعناية.
“الزهور تفتحت على نحو بديع.”
توقفت في منتصف الممر، ولمست برفق إحدى الورود الحمراء المتفتحة.
فتمايلت بتأنٍ مع النسيم، ثم سرعان ما تدلّت وسقطت بلا حول.
مدّت أناملها فوق الوردة، ورسمت دائرة صغيرة بأطرافها، لتسقط بتتابع بقية البتلات.
قالت إحدى الوصيفات بهدوء:
“يبدو أنّ صحة الآنسة بليك ليست على ما يرام. أطباء الدوقية تحرّكوا صوب الأطباء الشرقيين.”
“ولماذا الشرقيين تحديدًا؟”
“يُقال إن لديهم فنونًا علاجية مختلفة عن طبّنا. وقد يكون الدوق قد أرسل ليستشيرهم في أمرها. كنت أتابعهم بنفسي، وما إن أعرف السبب بالتفصيل سأبلّغك فورًا.”
ابتسمت هالين ابتسامة خفيفة وهي تنظر إلى الوردة التي فقدت بريقها.
“كانت جميلة، لكن ببتلة واحدة ناقصة صارت بلا قيمة.”
لم تُجب الوصيفة، بل انحنت بعمق. أما هالين فظلت تحدّق في الوردة ثم قبضت ببطء على البتلات الحمراء في كفها.
“ما دامت بلا نفع… فلتُرمَ.”
انفرجت ابتسامة عريضة على شفتيها القرمزيتين، ابتسامة لم تُخفِ ارتياحها الخبيث.
أسرعت الوصيفة تقتلع الوردة من جذورها وتمحو أثرها تمامًا من أمام بصر الإمبراطورة.
جلست هالين بخفة إلى الطاولة الجانبية، وما إن شعرت بحركة قادمة من الباب حتى التفتت.
“أمي، كنتِ هنا.”
فتح الباب ودخل فتى وسيم بشعر فضي مماثل لشعرها.
ابتسمت هالين بفرح ورحبت به، ومع اقترابه ازداد صفاء عينيه الزرقاوين حتى غدا شبه مطابق للإمبراطور نفسه.
“يا إلهي─ ما الذي أتى بسيدي الأمير حتى هنا؟”
“مررت بالجوار فخطر في بالي أن أزورك.”
أشرق ساينف بابتسامة كزهرة ربيعية، واقترب من والدته حتى وقف خلفها. دفع الكرسي برفق لتجلس، ثم انحنى قليلًا وطبع قبلة على خصلاتها الفضية قبل أن يأخذ مقعده في الجهة الأخرى.
“كما توقعت، لم يعد هناك من يهتم بأمه سواك يا ولدي.”
أشارت هالين إلى الوصيفة بأن تنسحب، ثم أخذت تُسكب الشاي للأمير بيدها بحذر.
“جئت في وقت مناسب. لقد وصلت لتوي والشاي ما زال ساخنًا.”
“لكن…….”
“تكلّم أيها الأمير.”
“هل لويسا بليك مريضة؟”
توقّف يد هالين، التي كانت ترفع فنجان الشاي، لبرهة. ارتجّت المياه المترقرقة داخله لكنها لحسن الحظ لم تنسكب.
“إذن فقد سمعتَ كل شيء.”
“كما تعلمين، سمعي حادّ جدًّا. على أي حال، ألم يكن لا بد أن تخبريني بالأمر عاجلًا أم آجلًا؟”
“صحيح. سمعتُ أنك تبادلت أطراف الحديث مع الآنسة بليك في حفل الحديقة، وأعتقد أن فضولي يستوجب بدوره أن يُشبع.”
“إن كان ما جرى يُعدّ حديثًا، فما كان سوى تبادل تحية لا أكثر. آه، كان هناك ما أثار فضولي قليلًا، لكن ذلك لن يتضح إلا بعد أن ألتقيها مرة أخرى.”
ارتشف ساينف شايه بتمهّل، ثم رفع الفنجان قليلًا في الهواء كما لو كان يعلن نخبًا.
“فما قصة مرضها إذن يا أمّاه؟”
“لا نعرف اسم المرض بعد. أُرسل أطباء الدوق إلى الشرق ليستشيروا هناك، وننتظر ما سيعودون به.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة غامضة على شفتي ساينف وفي عينيه بريق يدل على افتتان جديد. عندها خبا شيء من ابتسامة هالين.
“……أترى أنك بدأتَ تُبدي اهتمامًا بتلك الفتاة؟”
“مم، مثيرة للاهتمام فعلًا. رغبتُ أن أتحدث إليها مجددًا، وحين علمت أنها رحلت إلى إقليم بليك شعرتُ ببعض الأسف.”
انعقد ما بين حاجبي هالين، بدت وكأنها على وشك قول شيء ثم عدلت عنه مكتفية برفع الفنجان إلى فمها.
بينما كان ساينف يرسم ابتسامة أوسع بعينيه، ألقى نظرة هادئة عبر زجاج الدفيئة.
“أصبحت أشعر بالفضول قليلًا… كيف يبدو ربيع بليك.”
ارتجفت نظرات هالين بالقلق وهي تحدّق في ملامحه الجانبية الغارقة في التأمل.
***
“هل صحتك بخير؟”
تحوّلت عينا لويسا التي كانت تتابع المشهد من نافذة العربة نحو المقعد المقابل حيث التقت مباشرة بحدقتي رافاييل الذي كان يحدّق بها.
“……لا أدري. لم يمضِ سوى أيام قليلة منذ وصولي، فلا بد أن أمكث أطول لأعرف.”
شددت قليلًا على كلمة “أمكث طويلًا” وهي ترسم ابتسامة خاوية على طرف فمها، ثم أعادت بصرها إلى النافذة.
‘لو كان يقصد الذهاب إلى الكنيسة، فلماذا لم يذهب مع الفجر؟ ولماذا عليّ أن أرافقه؟ بل ولماذا يصرّ أن نستقل العربة ذاتها؟’
لقد أعلن فجأة صباح اليوم أنه سيصحبها بحجّة الحراسة، فلم يسعها أن ترفض الذهاب إلى الكنيسة، لكن الموقف كان مزعجًا للغاية.
كانت تتذكر بحنين صباح اليوم الأول حين انشغل بعد الإفطار ولم يتح لها أن تلتقيه مجددًا في القصر.
‘آه، صحيح. لا بد أن أُنهي مسألة الأثر السحري أولًا.’
استعادت ما نسيته للحظة، فعادت تتأمل رافاييل.
ظهره مستند، وذراعاه معقودتان عند صدره، ورأسه يكاد يلتصق بزجاج النافذة وهو ينظر إلى الخارج.
“سيدي القائد.”
استدار فور سماعها بسرعة كشخص فوجئ لكنه كان ينتظر هذه اللحظة.
“……أهناك ما تودين قوله؟”
“نعم. بخصوص الأثر السحري الذي اشتريتُه في المزاد، عليّ أن أوضح شيئًا.”
في تلك اللحظة اتسعت عيناه بدهشة بالغة، حتى بدت ملامحه كمن صُدم.
مالت لويسا رأسها مستغربة.
كانت تتوقع جوابًا سريعًا، لكنه ظل صامتًا لبرهة، ثم رفع يده ليغطي فمه متجهّمًا وكأنه يكبح شيئًا في داخله.
أخذت تحدّق به في حيرة.
“……الأثر السحري، نعم.”
‘ما هذا الرد؟ أكان قد نسي الأمر؟’
أمالت لويسا رأسها أكثر.
“نعم، أليست هذه هي السبب الذي جئتَ من أجله؟ كان ينبغي أن أريك إياه منذ زمن، لكن الظروف حالت دون ذلك.”
“لا.”
“……لا؟”
“صحيح، لم آتِ إلى هنا لغرض وضيع كهذا. كما قلتُ سابقًا، وجودي هنا لأداء مهمة رسمية فحسب.”
رفضه القاطع ترافق مع عقدة بين حاجبيه، وكأن مجرّد سوء الفهم هذا أزعجه بشدّة. عندها رمشت لويسا عينيها في ارتباك.
“آه…… إذن، لا بأس إن لم تره. كنت أظن أننا سنحتاج لتنسيق موعد.”
“لحظة.”
“……؟”
“همم، بما أنكِ بادرتِ بالحديث، أرى أن رفضي سيكون قلة ذوق. فلنرتّب وقتًا لذلك.”
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات