“دعيني أتفقد الأمر بنفسي. لكن من الأفضل ألا يُظهر المرء قدرته الموهوبة أمام جمع من الناس، فلتتكرم بالخروج قليلاً.”
“لكن… آنستي؟”
لمّا لوّحت لويسا بيدها بإلحاح تطلب منه الخروج، نسي براون حرصه على ملازمتها وتراجع مباشرة.
كان بريق الاستعطاف في عينيها قوياً إلى درجة جعلته يشعر بأن البقاء أكثر سيجرّ كارثة، فاستسلم لذلك الإحساس الغريزي.
أطبق شفتيه للحظة ثم انحنى احتراماً وخرج مسرعاً.
دوى صوت الباب وهو يُغلق بهدوء في أذن لويسا كأنه طرق عنيف.
“كهـف… كحـح…!”
أسرع الكاهن يوران إليها وقدّم لها منديلاً، لكن بلا جدوى.
ارتج جسدها بسعال رطب، وتدفقت من فمها دماء حمراء قانية.
لحسن الحظ، لم تكن الكمية غزيرة كما في المرة التي لطّخت فيها دماؤها أرضية العربة، بل لم تتجاوز قطرات تسللت من بين أصابعها وهي تحاول حجبها بيدها.
ومع ذلك، تجمّع الدم القاني سريعاً ليشكّل بقعة صغيرة على الأرض.
لم يضِع الكاهن وقته في المجاملات، بل رفع يده فوراً ووضعها فوق جبينها مستدعيًا القوة المقدسة.
ارتفعت جفونها المثقلة كاشفةً عن بؤبؤيها البنفسجيين الموشحين بضبابية، ثم انبثق نور أبيض بهيّ أضاء عينيها، فبدأ الثِقَل الذي كان يضغط على حنجرتها حتى يكاد يخنقها بالانحسار شيئاً فشيئاً.
لم يُزل الألم تماماً، لكنه منحها لحظة من الراحة خفّ فيها العذاب.
ـ”هاه…”
أطلقت لويسا تنهيدة عميقة وأغمضت عينيها بإحكام.
لم تعتد بعد على هذا الألم المبرّح الذي يصاحب القيء الدموي كلما انقبض معدتها بعنف.
ولهذا السبب تحديداً لجأت إلى أراضي بليك هرباً من السحر الاسود… لكن من كان يظن أن سحراً أعظم سيلاحقها حتى هنا؟ حقاً إن أمور الحياة لا يمكن التنبؤ بها.
“هل أنتِ بخير الآن؟”
رغم أن نبرة الكاهن يوران كانت مشبعة بالقلق، إلا أنّ صوته لم يحمل اندهاشاً كبيراً، وكأن ما حدث كان شيئاً قد توقّعه مسبقاً. بدا هادئاً على نحو غريب.
“… شكراً لك.”
“قد يكون الأمر مزعجًا لك، لكن من الأفضل أن تستلقي قليلًا. سأبلغ من ينتظرك بأن العلاج قد يطول بعض الشيء.”
ارتعشت جفونها قليلًا ثم ارتفعت، لتتلاقى نظراتها في الهواء بنظرات الكاهن يوران الذي كان يطلّ عليها.
“……يبدو أنّ الحديث سيطول.”
وسرعان ما أطبقت جفنيها باستسلام، وكأنها سلّمت أمرها.
وبعد برهة، خيّم السكون على الحوار. فمهما حاولت إخفاء قدرتها على التطهير، فإن من سيعرفها لا بد أن يعرفها، لذا صرّحت بالأمر صراحة.
لكن ربما كان وقع اعترافها أكثر مباغتة مما توقّعت.
أمعنت لويسا النظر في الكاهن يوران الذي كان يطوي يديه مرتجف الشفتين وهو ينظر إليها مطرقًا.
“……إذن التطهير يتمّ مقابل الحياة نفسها.”
لم يلبث أن تمتم هكذا وهو يرفع ببطء غطاء صندوق فضّي اللون.
ومن خلال الفتحة التي اتّسعت رويدًا، ظهرت زهرة مقدّسة بيضاء كالثلج وكأنها تفتّحت للتو.
“لقد تغيّر لونها…… ماذا؟”
اهتزّت حدقتا لويسا في صدمة. فهي لم تكن تملك القدرة على تطهير الأشياء مباشرة، وكل ما استطاعت فعله حتى الآن هو تطهير السحر الاسود الذي يتسرّب إلى جسدها.
لكن لم يخطر ببالها أن تمتصّ السحر الاسود من محيطها لتطهره.
لم تكن هناك حاجة لذلك أصلًا، وكل ما أرادته هو العيش في عزلة هادئة بعيدًا عن الأنظار.
غير أنّها حين رأت الزهرة المقدسة وقد استعادت رونقها الأصلي، راودها شعور غريب تجاه قدرتها تلك التي طالما بدت عبئًا ثقيلًا.
‘لكن، ألا يعني هذا أنّ الأمور ستزداد تعقيدًا؟ إن صار الأمر يوحي بأن عليّ التضحية بنفسي، فسيكون هذا مزعجًا حقًّا…….’
رفعت بصرها بوجه متجمّد شاحب.
وكأن الكاهن يوران أدرك ما تفكر فيه، فقال بصوت هادئ:
“ما لم تتسع قوة سيادتك المقدسة على نحو واسع، فلن يُتاح لك استخدام تلك القدرة التطهيرية.”
“قوة مقدسة؟”
“نعم. إنني أستشعر مقدارًا ضئيلًا من القوة المقدسة فيك، لكن إن استمرّت حالة امتصاص السحر الاسود على هذا النحو، فإن شرب الماء المقدس لن يجدي نفعًا وسيبقى الخطر قائمًا.”
“آه…….”
“إنها قدرة لا ينبغي أن تظهر للعلن. عليكِ أن تتحلّي بالحذر، ثم الحذر.”
“……وهل ستكتم سرّي إذن؟”
انفرجت ملامح لويسا في دهشة، فأجابها بابتسامة حزينة وهو يغلق غطاء الصندوق:
“أنا رجل يخدم الإله، لكن ليس لي حق الاعتراض على ما وهبك الإله من قدرة. كل ما أفعله أني أقوم بواجبي ككاهن يضع حياة البشر أولًا.”
“أشكرك.”
“سأساعدكِ قدر المستطاع في علاجكِ خلال إقامتكِ هنا. فالكنيسة مكان تجتمع فيه الطاقات المقدسة، وإن بقيتي فيه وقواك المقدسة منفتحة، فقد يكون لذلك أثر إيجابي.”
“إيجابي؟ تقصد أنّ القوة المقدسة قد تزداد؟”
“نعم. وهذا يعني أن قدرتكِ الذاتية على التطهير ستتحسن، لذا من الأفضل أن تحرصي على البقاء في جوار القوة المقدسة.”
“فهمت. أشكرك على هذه المعلومة.”
“لا شكر على واجب. آه، لكن تذكرت شيئًا، قد تجدين زيارة الكنيسة غير مريحة في الأيام المقبلة، إذ سيغدو المكان مكتظًّا.”
“ألِحدثٍ ما؟”
“ليس احتفالًا، بل لأن العاصمة سترسل قوات دعم لحملة القضاء على الوحوش. ومن المقرر أن يقيم الفرسان المقدسون في الكنيسة، مما يعني أنك ستلتقين بكثير من الغرباء.”
“الفرسان المقدسون؟”
ضغطت لويسا شفتيها بانزعاج، كما لو تذوقت شيئًا مرًّا. فوجود فارس مقدس أو اثنين مشكلة، أما أن يتجمع عدد منهم هنا فمشكلة أخرى. وبما أن رافاييل يشغل منصبًا رفيعًا، فمن غير المرجح أن يشق طريقه إلى هذا المكان النائي بنفسه.
كبحت لويسا شعورًا بالقلق المتصاعد، وأمعنت النظر في الكاهن يوران الذي ظلّ يحافظ على ابتسامة وديعة.
“نعم. ومن المنتظر أن يصلوا قريبًا. لكن لضيق الكنيسة، قد يضطر بعض الفرسان إلى الإقامة في قصر الدوق.”
……آه، لا بدّ أنّ وراء الأمر ما يريب.
فهذا يوحي وكأن شيئًا ما على وشك أن يحدث فعلًا.
***
“مرّت مدة طويلة يا آنسة بليك.”
حدّقت لويسا مذهولة في الجسد الضخم الذي اعترض طريقها، وعيناها تتبعان خصلات الشعر البلاتيني اللامع كأن النور تناثر عليه، والعينين الزرقاوين الصافيتين اللتين ملأتا مجال بصرها.
‘هل ما زلت لم أفق تمامًا من النوم؟’
فركت عينيها، ثم رفعت رأسها ثانية لتتأكد.
“لقد أُرسلت في مهمة، وسأضطر للإقامة في قصر الدوق مدة من الزمن.”
جعلها الصوت الهادئ، الصادر عن ذلك الوجه المشرق الذي لا يزول عن مخيلتها تستفيق دفعة واحدة.
اتسعت عيناها بدهشة.
“أتقصد أنّك لن تقيم في الكنيسة بل في قصر الدوق؟”
“نعم. فالكنيسة ضيّقة المساحة، وقد تفضّل الدوق مشكورًا باستضافتي.”
“……وإلى متى ستبقى؟”
سألته شفتاها كأنها تتمتم بلا وعي، فيما وجهها شاحب كالثّلج.
رمقها رافاييل طويلًا، ثم أجاب ببرود:
“إلى أن يُنجَز قتال الوحوش بما يرضينا.”
“آه…….”
‘لكن ما معنى “بما يرضينا”؟ أليس هذا غامضًا أكثر من اللازم؟’
كادت تنهيدة ثقيلة تفلت منها.
صحيح أنّ الكاهن يوران أنبأها قبل أيام، لكنها لم تتخيّل أن رافاييل بنفسه سيكون القادم! لو جاء أيّ فارس مقدس آخر لكان أهون. فهي كانت تخطط للابتعاد تدريجيًا حتى ينتهي الأمر بالخطبة إلى الانفساخ بشكل طبيعي، لكن ها هي مجبرة الآن على لقائه مرارًا.
تلاشت ملامحها شيئًا فشيئًا، وانعكس في عينيها ضيق خافت. ولم يكن من الغريب أن يلتقط رافاييل ذلك، إذ لم يرفع بصره عنها منذ أن لمحها نازلة من الدرج.
اشتدّ فكّه، كان ينوي التغاضي لكن رؤيته لها وهي تُظهر امتعاضها بوضوح أثارت استياءه.
أزرق عينَيه غاص للحظة كأنهما في عمق ماء مظلم.
لقد جاء ليتأكد بنفسه من مشاعره المضطربة، لكن يبدو أنّ حكمه كان خاطئًا.
كيف تجرؤ على تجاهله بعد أن أرهقته بلجاجها، بل ودفعت بالخطبة دفعًا؟ أليس هذا منتهى التملّص من المسؤولية؟
وبينما كان يعيد تقليب مشاعره توصّل إلى أن ما يجتاحه قد يكون ممزوجًا بالغيظ والمرارة.
“……سنلتقي كثيرًا من الآن فصاعدًا.”
وحتى وهو يفكّر بذلك، برّر لنفسه أنّها لطالما لاحقته بلا كلل، فقد آن الأوان أن يبادلها ليعلّمها درسًا صغيرًا: أنّ التمسك المفرط قد يعود على صاحبه بما لا يُحمد.
خطا خطوة إلى جوارها وهو يومئ بعينيه:
“يبدو أنّك متوجهة إلى المائدة، فلنذهب معًا.”
“آه، لا بأس! يمكنني أن أتناول الطعام لاحقًا.”
“لا داعي لذلك. فقد كنتُ قد أخبرت الدوق وابنه الصغير عند وصولي بأن نلتقي على مائدة الفطور، لا شك أنهما بانتظارنا.”
رسمت لويسا ابتسامة باهتة على شفتيها فيما بدت عيناها خاويتين من الروح.
فهي لم تعتد النزول للإفطار أصلًا، إذ كانت تكتفي غالبًا بما يُقدّم لها في غرفتها. لكن بما أنّها استيقظت مبكرًا اليوم على غير عادتها، أرادت أن تغيّر الجو قليلًا: تفطر ثم تتمشّى في الحديقة. غير أنّ خططها انقلبت رأسًا على عقب.
‘يبدو أنّ حظّي مكتوب أن يعاكسني مهما حاولت…….’
سارت إلى جانبه مستسلمة كمن بلغ مرحلة التصوف، متوجهة إلى قاعة الطعام.
وما إن فُتح الباب، حتى التقت بنظرات الدوق بليك وابنه ديميان، وقد ظهرت على وجهيهما لمحة دهشة خفيفة.
“لويسا، هل كنتِ تعلمين أنّ القائد وصل؟”
“وكيف صرتما معًا؟”
سأل ديميان وهو ينهض من مقعده. ورغم أنّ زيارة رافاييل كانت بدافع رسمي، إلا أنّ مكانته كفارس مقدس فرضت على ديميان أن يخاطبه بلقبه مع مراعاة الاحترام الواجب لمنزلته كأمير.
وبعد أن ألقى الدوق وابنه التحية على رافاييل، لم يتمالك ديميان نفسه فألقى بالسؤال الأهم على لويسا مباشرة.
“لقد كان في الأسفل حين نزلتُ، فوجدتني في طريقه…….”
أجابت بهدوء وجلست في مكانها. فما دامت الأمور قد جرت على هذا النحو، فلتكن كما هي. ثم إنها لم تأتِ إلى هنا للراحة أو اللهو أصلًا، ولن تكون لقاءاتها به أكثر مما يلزم.
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات