حدّقت لويسا في براون الذي كان يبادلها النظرات بصمت وكأنه ينتظر كلماتها التالية، ثم فتحت فمها من جديد.
“ما معنى أن الزهور المقدسة قد تلوثت بالسحر المظلم؟ أليست تلك الزهور تمنع انتشاره؟”
“نعم، هكذا هو الأمر. يُقال إنها ظهرت فجأة في الشرق. لم يحدث مثل ذلك من قبل، لذا لا نملك أي عينة سابقة، لكن المشكلة الأكبر أنّه بعد ذلك وُجدت زهرتان أخريان من النوع نفسه.”
“ثلاث زهور إذن؟”
“أجل. لذلك فإن اثنتين منهما تخضعان حالياً للفحص في الكنيسة الرئيسية والقصر الإمبراطوري، أما الثالثة فقد جلبتها لتُعرض على الكاهن المعالج المقيم هنا.”
“آه…”
قضية بهذه الخطورة تستحق بالفعل أن تُنقل على عجل بمرسوم خاص.
ضيّقت لويسا عينيها وهي تحدّق بالصندوق.
كانت الزهرة المقدسة قد صُنعت قبل خمسة عشر عاماً في المعابد بضخّ قوى مقدسة بداخلها لتكون وسيلة مؤقتة لصدّ السحر المظلم الذي اجتاح الأرض فجأة.
صحيح أن التطهير كان ممكناً، لكن لعدم وجود من يملك تلك القدرة قبل ظهور البطلة الأصلية، لم يكن هناك بديل سوى الاعتماد الكامل على الزهرة المقدسة. وبما أنّ إنباتها يستهلك قدراً هائلاً من القوى المقدسة، فقد كان إنتاجها نادراً وصعباً للغاية.
لكن إن كان هذا الحصن الأخير قد اخترق، فإن انهيار خط الدفاع يعني كارثة محتومة ستجتاح الإمبراطورية.
‘ألم يبدأ تلوث الزهور بالسحر المظلم بعد ظهور البطلة؟ أم أنّ بوادره كانت موجودة من قبل لكن قلّت فلم تُذكر؟’
ربما ذاكرتها ليست كاملة، لكن المؤكد أنّ البطلة لم تظهر بعد، وكان لا بدّ من انتظار فصل آخر حتى يحين موعدها.
قالت الرواية إن ذلك سيحدث حين تنقشع حرارة الصيف ويهب نسيم عليل، أي في الخريف بلا شك.
حتى ذلك الحين، لا يجوز أن يحدث أي متغير.
“هممم…”
شبكت لويسا ذراعيها أمام صدرها، ورفعت يدها اليمنى إلى فمها تضغط بإصبعها على شفتيها، وعيناها تحدّقان بالصندوق كأنهما تخترقانه.
ارتسم الارتباك على وجه براون شيئاً فشيئاً تحت وطأة نظرتها النافذة.
“… أعتذر.”
رفعت لويسا عينيها إليه وقد ارتسم على وجهها تعبير استفهام، وارتفعت حاجبها قليلاً.
بلع براون ريقه ثم قال بحذر:
“أعلم أنكِ ترغبين برؤيتها فوراً، لكن الأمر صعب حالياً. يُقال إن السحر قد امتصّ إلى داخل الزهرة فلا يتسرب إلى الخارج، لكن ذلك لم يُثبت يقيناً بعد. لذا من الأفضل أن تتم المعاينة بحضور كاهن.”
رمشت لويسا بضع مرات ثم أومأت برأسها أخيراً.
لم تكن تنظر سوى إلى الصندوق وهي شاردة التفكير، لكنها لم تتوقع أن يُساء فهمها هكذا. ومع ذلك، لم تُنكر أنّها فضولية فعلاً، وبما أنّهم وعدوا بعرضها لاحقاً فلا داعي للاعتراض.
“كم يستغرق الوصول إلى الكنيسة؟”
“أوه، سنصل قريباً. بما أنّ المدينة بُنيت متجمعة لتبتعد قدر المستطاع عن حدود الشمال، فالمسافة بين القصر والكنيسة ليست بعيدة.”
كان براون متوتراً خشية أن تغضب لويسا، لكن سلاستها في تقبّل الأمر جعلته يدرك بوضوح مدى تغيّرها.
هو يعلم أنها تغيّرت، فالجميع في القصر يتحدثون عن التبدل الكبير الذي طرأ على آنسة بليك. لكنه لم يحظَ قبل اليوم بخدمتها عن قرب، ولذلك كان شعور مواجهة ما كان يسمعه مجرد إشاعات أمراً يصعب وصفه.
تردد قليلاً في ما إذا كان عليه إبلاغ الدوق بليك بهذا التغير، لكنه وجد الأمر مبهماً، إذ لم يذكر الوريث شيئاً حوله. فقرر أن ينتظر بما أنّ اليوم هو أول أيام مرافقتها، ليتأكد أكثر في الأيام المقبلة.
وبينما كان يُرتب أفكاره، كانت العربة تجري بلا توقف حتى وصلت إلى الكنيسة.
لم يكن بالإمكان رؤية المشهد من خلال النوافذ المكسوة بطبقة ضبابية، لكن تباطؤ سرعة العربة دلّ على أنهم بلغوا وجهتهم.
توقفت العربة أخيراً، فنزل براون ومد يده لها باحترام.
“لقد وصلنا.”
تمايلت الأشجار المتراصة كأنها تخفي فروعها اليابسة، لكن هبوب الريح الباردة من خلال البوابة المفتوحة كشفها بلا جدوى.
الهواء كان أشد برودة من أن يُسمى ربيعاً، أقرب إلى زمهرير الشتاء، فارتعشت لويسا وهي تترجل من العربة.
“هاه…”
زفرت بعمق وصعد بخار أنفاسها الأبيض إلى الهواء.
حملت بنظرها مشهد الكنيسة الصغيرة، واحتفظت به في صمت.
كان أغلب المهام يُنجز عادة في الكنيسة الكبرى بالعاصمة، لذا قيل إن الكنائس المحلية صغيرة الحجم، وها هي هذا الكنيسة لا تبلغ حتى نصف حجم القصر.
خيّم السكون على المكان. باستثناء فارسي الهيكل عند البوابة والكاهن الذي خرج لاستقبالهم، لم يكن ثمة أحد في الحديقة الأمامية.
“لتشرق عليكم بركة السماء. أنا يوران الكاهن المسؤول عن الكنيسة الشمالية.”
رجل وسيم في منتصف العمر، شعره القصير بلون السماء ممشط بعناية، وعيناه الرماديتان الزرقاوان مفعمتان بلطف هادئ يمنح من يراه طمأنينة عجيبة.
“لتشرق عليكم بركة السماء. أنا لويسا بليك.”
“يسرّني لقاؤك يا آنسة. لقد اطلعت على رسالة الدوق. قيل إنك بحاجة إلى علاج، وإن لديك شيئاً لتعرضيه.”
أفلتت لويسا طرف ثوبها الذي كانت تمسكه بخفة، وأومأت برأسها.
“نعم، لكن أود أن تطّلعوا على هذا الشيء أولاً. أما أنا، فأنوي البقاء هنا طويلاً ولدي وقت كافٍ.”
وأشارت إلى الصندوق الصغير الذي يحمله براون.
فاتجهت عينا الكاهن يوران إليه تلقائياً.
“حسناً، فلندخل إذن.”
“نعم.”
“شكراً لكم.”
دخلوا وراء الكاهن إلى الكنيسة، وكان الداخل بدوره ساكناً. لم يكن فيه إلا قلة من الناس لا يتجاوزون ثلاثة أو أربعة في قاعة الصلاة. واللافت أنهم جميعاً يرتدون أردية سوداء بخلاف الكاهن يوران الذي كان يرتدي رداءً أبيض.
قادهم يوران إلى باب جانبي في يسار القاعة وفتحه، ليقودهم إلى الداخل. وبعد أن سلكوا الممر وفتح أحد الأبواب، ظهرت أمامهم غرفة مكتب متواضعة.
جلست لويسا على الأريكة الصغيرة بإشارة منه، وهي تراقب المكان بنظرات هادئة.
“لقد سمعت شرحاً عاماً عن الأمر. هل يمكن أن تريني إياها؟”
“نعم.”
جلس الكاهن يوران في الجهة المقابلة وبدأ مباشرة في الدخول إلى صلب الموضوع. وبما أنّ القضية خطيرة، فقد بدا طبيعياً أن تُعالج بسرعة. لذلك أسرع براون الذي كان واقفاً خلف لويسا إلى فتح الصندوق الفضي الرمادي بحذر ووضعه فوق الطاولة.
صدر عن الصندوق صوت معدني ثقيل يوحي بأنه مصنوع من الحديد. وفي داخله، فوق كيس من القطن استقرت زهرة واحدة.
كانت الزهرة المقدسة تشبه الزنبق، إلا أن أطراف بتلاتها المائلة قد اسودّت.
“هل السواد سببه السحر المظلم؟”
“نعم، في الأصل لونها أبيض ناصع.”
“هكذا إذن…” تمتمت لويسا وهي تحدّق في الزهرة بلا حراك.
كان قلب الزهرة لا يزال محتفظاً بلونه الأصفر، غير أنّ السحر المظلم المتغلغل حتى أعماقها كاد يبعث عتمة خانقة توحي بأنه سيحوّلها إلى رماد في أي لحظة.
أمسك الكاهن يوران الصندوق بكلتا يديه بحذر، وأغمض عينيه ثم عقد حاجبيه وحرّك شفتيه ببطء.
“… الماجي لم يُمتَص كلياً بعد. الأدق أن نقول إنه محبوس داخلها.”
“محبوس؟ إذن، هل يعني هذا أنّ السحر قد يفلت من الزهرة؟”
“لا أستطيع الجزم بعد. لكن…”
“لكن ماذا؟”
تلاقت عينا لويسا فجأة بعيني الكاهن اللتين انفتحتا على حين غرة.
كانت في ملامحه حيرة غامضة، لا تصل إلى حدّ اليقين، لكنها تكفي لزرع الانقباض في صدرها.
‘أيعقل أنه شعر بشيء صادر مني؟’
تحركت نظراتها قليلاً مبتعدة عن عينيه. كانت قد توقعت أن يلحظ شيئاً يخص جسدها، لكن ليس في هذا الوقت بالذات.
وبما أنّ براون سينقل كل ما شاهده وسمعه إلى الدوق بالتفصيل، فإن أي شكّ يثار الآن سيجرّ عليها متاعب هي في غنى عنها.
رفعت عينيها إليه بخفة.
لحسن الحظ، كان كل تركيزه منصبّاً على الزهرة، ولمحته وهو يحوّل بصره من الصندوق إلى الكاهن بفضول.
‘لكن… لماذا أشعر بضيق في صدري؟ هل هو التوتر فقط؟’
رغم ارتياحها لردّة فعل براون، ظلّ في داخلها شعور مزعج يزداد ثقلاً، أشبه بالاختناق أو عسر الهضم.
وإحساس مألوف غامض جعل شعر ظهرها ينتصب.
في تلك اللحظة، أطبقت فمها بشدة حتى برز العِرق في عنقها.
وفي اللحظة نفسها، شاهدت هي والكاهن يوران معاً خيوط الدخان الأسود التي كانت تغشى قلب الزهرة وهي تتلاشى كأنها تذوب.
وفجأة، اجتاحها الغثيان بعنف وكاد ما في جوفها ينقلب.
‘لا… ليس هنا…’
سارعت إلى رفع يدها على فمها محاولةً كبح ما يخرج، بينما ألقت نظرة سريعة إلى براون محاولةً إخفاء الأمر.
وفجأة، طَقّ صوت حاد مع إغلاق الغطاء بإلحاح.
كان براون الذي كان يراقب الكاهن قد نظر باستغراب إلى الصندوق ثم عاد بعينيه إلى الكاهن.
“مولاي الكاهن؟”
قالها براون متعجباً، فنهض الكاهن يوران من مكانه.
“على أي حال، هذه زهرة خطرة ويجب فحصها بعناية في مكان آمن. لكن قبل ذلك، أود أن أتأكد من صحة الآنسة. هل تأذنين لي بفحصك قليلاً؟”
لم تفهم لويسا تماماً ما يجري، لكنها شعرت وكأن الكاهن يحاول مساعدتها.
فحبست أنفاسها وأومأت برأسها بخفة.
***
رجعت لكم حبايبي القراء ان شاء الله كل يوم 5 فصول يلا مابقى شي وتخلص اصلا الرواية كلها 90 فصل 💔
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات