ظلّ رافاييل يتجنّب النظر طويلاً، ثم التقت عيناه بعيني آندي.
“في الحقيقة، أليست للآنسة إشاعات سيئة كثيرة؟ خصوصاً تلك التي تقول إنها لاحقت القائد بلا هوادة. أعتقد أن ذلك زاد من انتشار الأقاويل. غير أنّني حين التقيت بها البارحة وجدتها على العكس تماماً… بدت هادئةً وبسيطة كأنها شخص آخر.”
“هادئة؟ هي؟”
“نعم. لم يبدُ عليها أدنى مظهر من مظاهر الاندفاع أو التعلّق الشديد الذي كانوا يتحدثون عنه. مع أنّني لم أرها سوى مرة واحدة، إلا أنّه لو كانت الشائعات صحيحة لكانت قد استغلت الموقف المفاجئ البارحة لتتشبث بالقائد بأي صورة، لكنها لم تُبدِ حتى ذرة من الحماسة.”
“…….”
“عندها راودني خاطر، ربما كانت حقيقتها قد طُمست تحت وقع الشائعات. ولكن! القائد ليس ممّن يكره أحداً عبثاً أو بلا سبب وجيه. لذلك فكّرت مليّاً وخرجت باحتمالين…”
توقف آندي برهة وهو يرمق رافاييل بطرف عينه.
قبل قليل كان ينكر أن تكون لويسا مختلفة، فإذا به الآن يصغي بعينين متلألئتين بجدية، مما جعل آندي يتيقّن أنّه أصاب كبد الحقيقة.
ومع ذلك لم يرتكب الحماقة في الإشارة إلى تناقض قائده، بل تظاهر بالجهل محافظاً على ملامح جادّة وهو يعرض فكرته.
“الاحتمال الأول، أنّ الآنسة تتقن التمثيل وتتعمد إدارة صورتها. أما الاحتمال الثاني، أنّها بالفعل تغيّرت. فالإنسان قد يتبدّل طبعه لأسباب كثيرة في الحياة، وكذلك مشاعره. لكنني شخصياً أرجّح الاحتمال الأول أكثر.”
“إدارة صورتها؟ ولأي غاية؟”
“لأجل أن تُحسن الانطباع عند القائد… ربما؟”
رفع آندي نبرته في آخر الجملة وكأنه غير واثق، فحتى هو لم يستطع أن يقتنع بكلامه، إذ أنّ لويسا لم تُظهر البارحة أي اهتمام برافاييل.
“أعتذر، لا أعرف التفاصيل بدقة.”
قالها وهو يحكّ مؤخرة رأسه بحرج، شاعراً أنّه لم يقدّم عوناً يُذكر بعد أن شجّعه القائد على الإفصاح عما يجول بخاطره.
زمّ رافاييل شفتيه وقد ارتسم الضيق على محيّاه.
رآه آندي على تلك الحال فقال في نفسه إن كان قد وصل به الأمر إلى هذا الحد فليحاول على الأقل أن يُنهي الحديث ببعض المواساة والتفهّم، فسارع يضيف:
“صحيح أنّي لم أرها إلا مرة واحدة، فلا أملك أن أقدّم شيئاً جازماً. لكن الأهم هو أنّ أيّاً كان الاحتمال، فإنّ تغيّر الشخص فجأة أمر وارد. أليس كذلك؟”
“…….”
“وأرى أنّه موقف كفيل بأن يُربك القائد. لعلّ الحلّ الأمثل أن تتحاور معها وجهاً لوجه.”
“…… لم أقل إنني مرتبك.”
هل كان القائد يريد منه مجرد النفي؟
آندي نفسه هو من بدا مرتبكاً هذه المرة، فمدّ يده إلى رأسه يحكّه بلا سبب.
ساد الصمت الموحش أجواء غرفة القائد، رغم أنّ أشعة الشمس الدافئة انهمرت عبر النافذة، إلّا أنّ وجه رافاييل بدا بالغ البرودة كأن الصقيع سيهبط في الغد.
‘هل تغيّرت حقاً؟ لويسا بليك تلك؟’
ظلّ رافاييل محدّقاً في الموضع الذي غادر منه آندي منذ زمن.
‘مع مراقبة الآنسة جيّداً سيظهر الجواب لا محالة.’
ظلّ صدى كلمات آندي الأخيرة يتردّد في أذنه.
‘أن أراقب شخصاً كنت أتعمّد تجاهله؟ لا أدري لماذا عليّ أن أبذل جهداً كهذا. وهل يستحق الأمر أصلاً؟’
لو كان لا ينجذب إليها على الإطلاق، لوفّر على نفسه هذا العناء وانشغل بالتقارير المتراكمة، لكان ذلك أصفى لذهنه.
غير أنّ وجه لويسا ظلّ يتبادر إلى ذهنه في كل مرة يحاول إقناع نفسه بالعكس، حتى صار عاجزاً عن الانشغال بأي شيء.
لو رآه أحد في تلك اللحظة لظنّه ممسوساً ويستحق طرد الأرواح.
‘إدارة صورة؟ تلك المرأة؟’
لم يكن هو نفسه يدرك كم يغرق في دوامة أفكاره.
‘لو كانت قادرة على التمثيل لَما انتشرت عنها كل تلك الشائعات الخبيثة ابتداءً.’
لكن إن لم يكن هذا، فما الاحتمال الآخر؟
‘إذن لم يتبقَّ سوى أنها قد تغيّرت بالفعل.’
وبالعودة إلى ما رآه، بدا أنّ لويسا حقاً لم تعد كما كانت.
أحياناً يخاله أنّها استعادت شيئاً من طفولتها المطموسة، وأحياناً يشعر أنّها شخص آخر تماماً.
وأكثر ما حيّره هو أنّه حين أعطاها ماءً مقدساً لم تستطع إخفاء فرحتها، فقد أشرق وجهها بصدقٍ لم يكن منطقياً اعتباره مجرّد صورة مصطنعة.
‘لماذا لم ألحظ ذلك حينها؟ بدا وكأنها تفرح بالماء المقدّس أكثر من فرحها بلقائي أنا…’
تنفّس رافائيل عميقاً وهو يلوم نفسه على بلادته.
كيف لم يدرك نظراتها إلا اليوم؟ لقد كانت صريحةً إلى حدّ يستحيل أن تُنسب إلى تمثيل أو تصنّع.
فالعينان اللتان كانتا حتى أشهر قليلة مضت مظلمتين كالمستنقع، لم يبقَ لهما أثر، ولم يبدُ عليهما سوى بريق صافٍ غريب عنه، حتى بدا أنّها لم تعد تلك اللويسا التي يعرفها.
وكلما استغرق في التفكير، ازدادت لويسا غربةً في نظره، وبدت له عيناها البنفسجيتان اللتان طالما رمقته بهما، بعيدة المنال.
فإن لم يكن وهماً، فقد كانت تلك النظرات خالية تماماً من أي ميلٍ شخصي، بل أقرب إلى البرود واللامبالاة، وهو ما انطبع في ذاكرته عميقاً، حتى غدا عاجزاً عن قطع خيط التفكير فيها.
أطبق رافاييل جفنيه بشدة، ورفع يده إلى جبينه.
“كيف لم أنتبه لهذا إلا الآن….”
نعم، حين استعاد لقاءاته الأخيرة بها، وجد أنّ لويسا لم تعد تتصرّف كما كانت قبل الخطوبة.
لم تبادر أبداً بالاتصال، ولم تُبدِ تبرّماً من رحيله السريع، ولم تحاول التشبّث به قط.
لقد حجبته أوهامه وأحكامه المسبقة عن رؤية الحقيقة.
فها هي تلك التي لم تكن يوماً مطيعة أو مسالمة، قد صارت فجأة تتقبّل رفضه بلا جدال، وهو لم يجد في الأمر غرابة.
‘لكن لماذا فجأة…؟’
أهو تغيّر في طبعها؟ أم تبدّل في مشاعرها؟ ما إن تساءل حتى طفا صوت ديميان في ذهنه، فارتسمت غشاوة من القلق على وجهه الوسيم.
‘هل يعقل أنها لم تعد تحبّني؟’
لمجرد أن خطر السؤال بباله، شعر صدره يضيق. أكان ذلك بسبب غموض الوضع؟
حتى قبل قليل وهو واقف أمامها، ما إن عبرت هذه الفكرة ذهنه حتى اجتاحه شعور غريب كأنّ شيئاً يضغط على صدره، وها هو الإحساس نفسه يتكرر الآن.
تشنجت ملامح رافاييل، فوضع يده على صدره ضاغطاً بقوة كمن يودّ كبح انزعاج داخلي وهو يطحن أسنانه.
‘لا بد أنّه الغضب. هي التي أرهقتني بملاحقتها حتى أجبرتني على الخطوبة، ثم ها هي الآن تقلّب ظهر المجن. تبا… لكن، لكم مرة ضايقتني من قبل، فلماذا أشعر بثقلٍ مختلف هذه المرة؟’
كان حائراً بلا توقف. وكلما فكّر ازداد الاضطراب، وتاه أكثر فأكثر.
‘ولماذا عليّ أصلاً أن أعذّب نفسي بهذا التفكير؟’
بدأ يستشيط غيظاً من تقلب مشاعره التي لم يجد لها تفسيراً.
‘بل إن لم تعد تحبني، فهو أمر حسن في الحقيقة! ألم أكن أتمنى دائماً أن تبتعد عني؟ ها هي تقوم بما كنت أرجوه، فما بالي أتعذب بالتفكير؟’
بل إنه أفضل هكذا.
وصحتها أيضاً ليست على ما يرام، فها قد سنحت الفرصة لئلا يُطرح موضوع الزواج من جديد.
وفوق ذلك، بعد أسبوعين سيتوجّه إلى الغرب في مهمة، ولن يلتقيا لفترة طويلة، وسينشغل هو بمسألة الطاقة المظلمة حتى لا يجد وقتاً للتفكير بها.
“صحيح. هذا جيد. بل ممتاز.”
‘لكن أيّ شيء فيه ممتاز؟’
كان يردّدها كالمسحور، بوجه لا يكاد يعرف ما يقوله.
“ليتباعد كل شيء على هذا النحو، فحسب.”
غير أنّ أصابعه التي أخذت تنقر الطاولة كشفت أنّ محاولته لإقناع نفسه لم تنجح.
لم يكن واعياً بتعبيرات وجهه ولا بتصرفاته، وظلّ يتمسّك بادعاء أنّ كل شيء بخير وهو يشيح ببصره نحو تقارير لم يلتفت إليها أصلاً.
‘لعلّي كان ينبغي أن أقدّم لها ماءً مقدساً… على الأقل لأتأكد من حالتها بدعوى العلاج.’
لكن أيّاً ما كان يقوله لنفسه، لم يجدِ.
غشي القلق وجهه من جديد.
‘أليس في القصر أيضاً بعض الماء المقدس؟’
بدا الأمر حقاً بلا مخرج.
***
“كاهن شفاء؟”
اتسعت عينا لويسا دهشةً كأنّها لم تتوقع سماع ذلك.
“أجل. هو الأقوى في قدرات الشفاء، وأودّ لو التقيتِ به. وإن لم ترغبي في الذهاب إلى الشمال، فسأرتّب ليستدعى إلى العاصمة.”
قال الدوق ببرود وهو يعبث بالصندوق الصغير الموضوع فوق الطاولة:
“لويسا، افعلي ما تشائين. والدك عليه أن يعود إلى الشمال بسبب قضية الوحوش هناك، أما أنا فسأتبع اختيارك.”
“آه…الشمال.”
كانت قد خطرت ببالها فكرة المكوث هناك لبعض الوقت، لكنها لم تظن أن الفرصة ستأتي بهذه السرعة.
فتمتمت بصوت خافت، مطرقةً رأسها وهي تقطب جبينها بجدّية.
‘الكاهن الذي في الشمال… أليس هو نفسه الذي نصح لويسا في القصة الأصلية بشرب الماء المقدس؟ وقد قيل إن لديه أقوى قدرات الشفاء… فهل لذلك تنبّه لطبيعتها المختلفة؟’
إن كان هو، فالأمر لا بأس به.
فانتشار خبر أنّ جسد لويسا يطهّر طاقة السحر المظلم بدأ عندما قصدت قاعة الكهنة العظمى والتقت بعدد من رجال الدين الذين أثبتوا ذلك، ولم يكن للكاهن الشمالي أي صلة بتلك الحادثة.
—
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات