على غير عادته، كان وجهه الوسيم يعلوه مسحة تفكير عميق، غير أنّ عيني لويسا لم ترَ فيه سوى رجلاً يخجل من إصراره الأعمى.
وكان لها كل الحق في ذلك.
فمحاولة استغلال علة شخصٍ ما للظفر بفرصة فسخ خطوبة، لا تليق بفارس مقدس نذر نفسه لخدمة الرب، بل هو فعل مدان لا يشرف صاحبه.
لذا كان من الطبيعي أن يزداد وجه لويسا بروداً واشمئزازاً.
‘تبا، الأمر محيّر… إن رفضتُ عرضه فموقفي يزداد سوءاً. أترى إن قلتُ لا أريد مقابلة طبيب القصر، سيسترجع كل ما جلبه معه؟’
ارتجفت يداها لحظة تفكيرها، لكنها الآن ترتجف لا من الحماسة بل من الخشية أن تُحرَم مما بين يديها.
صحيح أنها لم تكن راغبة بلقاء طبيب القصر، إذ لا تثق في أن يعرف شيئاً على الفور، لكن من يدري ما يحدث؟ وما زاد الأمر سوءاً أنّه ذكر حتى كهنة الشفاء… فكان ذلك أشبه بالجنون.
‘إلى الجحيم، لا بأس…’
أغمضت لويسا عينيها بقوة ثم فتحتهما.
إن واصلت الصمت، فسيجرّ حتماً طبيب القصر أو الكاهن إلى هذا البيت، لذا كان عليها أن تُسكِت فضوله على الأقل.
“في الحقيقة… كنتُ أفكر أن أُصارحك.”
وجدت ذريعة مناسبة تُبعد الأنظار عنها، فأغلقت غطاء الصندوق وجمعت كفيها على ركبتيها.
“بِمَ تحديداً؟”
“بأن طبيبنا الخاص اكتشف بالأمس ماهية الداء.”
تقلّص حاجبا رافاييل في استغراب.
“اكتشفه؟ ما هو إذن؟”
“يسمّى الارتجاع المعكوس. إنه داء غريب لا يُعرف إلا في بلاد الشرق، ولذا قد يبدو غير مألوف.”
“الارتجاع المعكوس…”
تمتم رافاييل باسم المرض في تفكير عميق، ثم رفع بصره وقال بنبرة جادة:
إذن فالعلاج ممكن فوراً؟”
انعكست على عينَيه الصافيتين ملامحُ وجه لويسا المرتبك.
“نعم…”
كان صوتها خافتاً مترددًا، لكنه إيجابي.
وما إن أجابت حتى أشرق وجه رافاييل بابتسامة هادئة، وفي عينيه الزرقاوين بدا بريق شعور غامض لا تكاد الكلمات تصفه.
ارتبكت لويسا أكثر؛ بدا وكأنه يفرح ويرتاح في آنٍ واحد، وهو ما لم تفهمه إطلاقاً.
‘لماذا يُظهر مثل هذا الوجه؟’
كانت قد همّت بإنهاء الحديث عند هذا الحد لتكتفي بأن العلاج معروف، لكن تلك التعابير النقية غير المتوقعة أربكتها، فخرج من فمها جواب آخر دون وعي.
فقد كانت تظن طوال الوقت أنه يحاول فقط استغلال مرضها ليجد ذريعة للفسخ، أما ردّة فعله هذه فبدت كأنها تكشف شيئاً آخر… الأمر الذي أثار في نفسها شيئاً من الاضطراب.
كانت نظراتها نافذة حادة، حتى إن رافاييل شعر بانتفاض داخلي تحتها.
وما لبث أن تصلّب وجهه؛ إذ أدرك متأخراً أن رد فعله خرج منه عفواً.
ومرّ بخاطره لوهلة سؤال عابر:
‘لمَ فعلتُ ذلك؟’
… لكنه لم يجد جواباً.
أما لويسا فآثرت أن تُسقط الأمر كله من حسابها، معتبرةً إياه محض تعاطف إنساني ليس إلا، فلا طائل من إهدار الوقت في التفكير به.
“احمم، هذا مطمئن.”
تنحنح رافاييل ليُصلح صوته، ثم أدار رأسه جانباً يعبث بأذنه في حرج، وظلال أهدابه الذهبية تتماوج.
‘رجل غامض حقاً… لكن حسناً، الأمر في صالحي على أية حال.’
قررت أن تستغل الوضع لتعلن عزمها على الانقطاع في البيت والتفرغ للعلاج، لعلّ ذلك يسهّل عليها ما تخطط له لاحقاً.
فمهما حدث، ستأتي البطلة الحقيقية في النهاية، وعندها سينحل أمر الفسخ طبيعياً لا محالة.
ابتسمت لويسا ابتسامة خفيفة تخفي نواياها.
“نعم. لذا قررت أن أمتنع عن الخروج لفترة وأكرّس وقتي للعلاج.”
“آه، هذا قرار صائب.”
أجاب رافاييل، ثم أعاد نظره إليها، فالتقطت عيناها طرف أذنه المحمّر من فرط ما عبثت به.
“وبذلك علينا تأجيل لقاءاتنا إلى حين.”
“إذن سأكون أنا من يأتي إلى هنا.”
خرج الجوابان في وقت واحد وتلاقت نظراتهما بدهشة في الفراغ.
“آه… لكنك ستكون مشغولاً، فلا داعي لذلك! كما أن استقبال الضيوف مراراً في البيت أمر غير لائق أيضاً.”
كانت لويسا أسرع إلى تدارك الموقف بكلمات هادئة. لكن رافاييل لم يجب، بل ردّد في سرّه كلمة علقت بسمعه.
‘… فلا داعي؟’
كانت الكلمة كالحصى الخشن في فمه، وأخذ شعور مبهم بالضيق يتسرب في داخله شيئاً فشيئاً.
‘هل قالت ذلك حقاً حرصاً عليّ؟’
للمرة الأولى، تسرّب الشك إلى قلبه.
لطالما نظر إلى أفعال لويسا على أساس أنّها معجبة به لا محالة.
لكن كلمة صغيرة هزّت يقينه وأحدثت دوامة في رأسه.
كأن بحيرة ساكنة تموّج سطحها فجأة.
وصارت ملامح لويسا التي كان يراها ضبابية من قبل تتضح على نحو غريب، خاصةً تعابيرها المترددة كأنها تخشى الرفض، لا كأنها تخشى خسارته.
‘أهذا امتعاض؟’
أيمكن أن يكون مجرّد وهم؟
‘لويسا بليك؟ لا تريدني؟’
وقع في حيرة عميقة.
أهو انحيازُ نفسه التي لم ترغب فيها يوماً فيجعلها تراها بهذا الشكل؟ أم أنّ الأمر حقاً كما يبدو؟
لكن إن كان الاحتمال الثاني… فما الذي يعنيه ذلك؟
وبينما تاه ذهنه في هذه الأفكار، خطرت بباله فجأة فرضية لم تخطر له يوماً:
‘… آنسة بليك لا تحبني؟’
فارتجفت عيناه الزرقاوان بعنف.
***
بوجه جادّ أخذ أندي يتأمل رافاييل الغارق في تفكيره بنظرة غريبة.
فاليوم بدا رافاييل مختلفًا تمامًا عن عادته.
فجأة أخذ يبحث عن الماء المقدّس الذي اعتاد تسلّمه، ثم في يوم ماطر أصرّ على أن يستقلّ عربة ليمضي إلى مكان مجهول، ثم عاد بعد ذلك إلى غرفة القادة بوجهٍ شاحب كأنما فارقته روحه، وظلّ جالسًا منذ تلك اللحظة بلا أدنى حركة، أشبه بتمثال موضوع على المكتب.
لم يكن ذاك هو القائد المثالي لفارس الهيكل المقدّس الذي عُرف عنه أنّه لا يلتفت البتّة لشؤون خاصة، ويكرّس نفسه للعمل وحده متعاليًا في كماله لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
‘لا يليق بي حتى أن أفكر في هذا… لكن… كأنّ هناك مسمارًا قد انفلت منه!’
‘أترى ماذا جرى له في خروجه؟ على كل حال فقد عاد خالي اليدين، ولعلّه أعطى الماء المقدس لأحد ما.’
أين يا ترى وزّع كل تلك الكمية؟ تسلّل الفضول إلى قلب أندي وهو يتقدّم بخطوات حذرة يحمل تقريرًا بين يديه.
قال:
ـ”سيّدي القائد، أرجو أن تطّلع على التقرير.”
لكن رافاييل لم يتحرّك قط.
بدا كأنه لم يسمع شيئًا، وظلّ شاخصًا في الفراغ بلا رمشة جفن، مما أثار في قلب أندي قلقًا متزايدًا.
“سيّدي القائد؟”
“…….”
“سيّدي القائد!”
“…… آه. أأنت هنا.”
‘هذا خطير…’
هذا الرجل المعروف بحدة حواسه، لم ينتبه حتى لصوت يناديه أمامه، لا شكّ أن أمرًا جللًا قد وقع.
رمق أندي القائد بوجه قلق، وإذا بوجهٍ ما يلمع في ذهنه، فسأله متردّدًا:
“هل الآنسة بخير؟”
لقد بدت حالتها بالأمس سيّئة للغاية، فظنّ أن الأمر راجع إلى ذلك.
وها هو يستشفّ من ردة الفعل أنه قد أصاب.
إذ سرعان ما عاد البريق إلى عيني رافاييل الزرقاوين، وتثبّت نظره في أندي.
“يبدو أنّ الأمر كذلك.”
قالها بصوت واهن.
ولو لم يعرفه أندي عن قرب طوال تلك السنين لظنّ أن لا فرق بينه وبين حاله المعتاد، لكن عينه الخبيرة لم تخطئ.
‘ضعيف؟ القائد الذي كان دوماً ثابتًا، جامد العاطفة، حادًّا كالسيف في معاملته للناس!’
لمعت عينا أندي بحزم.
‘هذا ليس أمرًا عاديًّا. لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام.’
وبما أن نائب القائد ذاك العجوز المتشدّق الطيّب الملامح لم يكن حاضرًا، فقد رأى أندي أن الفرصة سانحة. ومتى تتاح له غير الآن فرصة ليتبادل مع القائد حديثًا شخصيًا؟ حتى لو نال عقوبة عسكرية، فقد عقد العزم أن يسأل.
ـ”هل وقع لكم أمر ما؟”
“لا.”
وكما توقّع، لم يأت الجواب صريحًا.
لكن أندي كان كمن أعدّ نفسه لذلك، فانطلق بلسانه المرهَف مقنعًا:
“سيّدي القائد، أليس هناك قول بأن الهمّ يُقتسم؟ مهما أجهد المرء فكره بمفرده فلن يصل، أما لو شاركه مع من حوله فقد يجد سبيلًا. ما أدراك؟ قد أكون عونًا لك، أو على الأقل يخفّ عن صدرك لو أفضيت ببعض ما يثقل كاهلك.”
ـ”ليس بالأمر الكبير، إنما…….”
تظاهر رافاييل باللامبالاة، غير أن ملامحه كانت تقول غير ذلك.
كان خط التجعّد يزداد وضوحًا بين حاجبيه الوسيمين.
ساد الصمت برهة، واختار أندي أن يصبر بدل أن يلحّ بالحديث، منتظرًا اللحظة المناسبة.
وما إن التفت إليه رافاييل بنظرة عابرة حتى استقبلها أندي بابتسامة وادعة وهزّ رأسه في إيماءة مشجّعة.
ـ”فقط… بدا لي فجأة أنّ إنسانًا يمكن أن يتغير إلى حدٍّ لا يُصدَّق.”
لقد أحسن أندي الاختيار.
إذ بدا القائد متردّدًا لكنه لم يستطع إلا أن يفتح نافذة الكلام، فقبض أندي يده خلف ظهره بحماسة مكتومة.
‘جيّد!’
أظهر برودة أعصابه في الخارج، فيما داخله يرقص طربًا.
“ألعلّك تعني الآنسة؟”
“…….”
“سيّدي القائد؟”
“…… لا، ليس كذلك.”
‘إذًا فهي حقًّا!’
فذلك الصمت الذي أعقب السؤال، والشفاه المنطبقة بتكلّف، لم يكونا سوى اعتراف ضمني.
فتظاهر أندي بأنه لم يفطن، واستطرد بمهارة:
“حسنًا، وإن كان الوضع مختلفًا قليلًا، إلا أنّني شعرت أمس بشيء يجعلني أفهم قصدك.”
“أتقصد آنسة بليك؟”
ـ”نعم. فالحقّ أنني لم أرَ الآنسة من قبل، وفوجئت أمس بأنها كانت على غير ما شاع في الأخبار عنها.”
“على غير ما شاع؟”
–
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 22"