قالت ماري، التي كانت تتبع آنستها بقلق وهي تلتفت وراءها قبل دخول القصر:
“آنستي، سموّه لم يغادر بعد، فماذا نفعل؟”
ورغم أن لويسا كانت في أمسّ الحاجة إلى الراحة، فقد بدا أنّ ماري التي تظن خطأً أنّ آنستها تحمل في قلبها ميلاً لرافاييل، تسأل على سبيل التثبّت والرجاء.
أجابت لويسا ببرود وهي تمضي في طريقها:
“……تظاهري وكأنكِ لم تري شيئاً.”
فما دامت غايته من التطفل معرفة حقيقة مرضها تمهيداً للانفصال، فلا حاجة لمجاملته.
وقد ارتسم في خاطرها على الفور إصراره الماكر قبل قليل حين حاول إقناعها بالذهاب إلى طبيب البلاط الإمبراطوري، فعضّت على نواجذها واشتدّت خطواتها غيظاً.
‘إن واصل على هذا النحو، فلست مضطرة لمهادنته في أمر الانفصال…… لا، لا يليق بي التفكير هكذا.’
وإذ أدركت أنها كادت تنزلق إلى فكرة خطرة عن غير قصد، لامت نفسها على شرود ذهنها الناجم عن الإرهاق، وعزمت على التهيؤ سريعاً للراحة.
قالت ماري بقلق:
“آنستي، أمتأكدة أنك ستكونين بخير وحدك؟”
“نعم. أستريح وحدي براحة أكثر. ثم إنك مضطرة لاستدعاء الطبيب الخاص بي، أليس كذلك؟”
“ذلك أمر يمكن أن يُبلَّغ به غيري…”
قاطعتها لويسا بحزم:
“كلا! ماري، من الأفضل أن تذهبي بنفسك. لو شاع بين الناس أنني عليلة لسبّب ذلك مشكلات كثيرة.”
“آه، معك حق. خصوصاً وأنه لم يمضِ وقت طويل على خطبتك، فلو انتشرت شائعة كهذه لأفسدت الأمور. سأتوجه في الحال!”
ابتسمت لويسا بخفة وقالت:
“سأكون في الحمام، فخذي وقتك.”
وهكذا دفعت بماري إلى الخروج بعد تردّدها، ثم التقطت أنفاسها أخيراً واتجهت نحو الحمام.
في حياتها السابقة، كانت تقضي معظم وقتها وحيدة، ولذلك وجدت صعوبة في التأقلم مع وجود من يلازمها في كل مكان في هذه الحياة.
بل صارت تجد أن لحظات الخلوة نادرة إلى حدّ لا يسمح لها حتى أن تشعر بالفراغ.
غمرت جسدها بالماء الدافئ محاولةً تبديد ذلك الشعور الغريب.
‘ظننت أنني سأعاني فقط من بعض الغثيان، لكن لماذا أشعر وكأن بي وعكة حقيقية؟’
وما إن خرجت حتى أحسّت بألم متفرق في جسدها وإرهاق شديد، حتى خُيّل إليها أنها أنهت صعود جبلٍ كامل، وأن جسدها أثقل من قطن مبتلّ، بالكاد يقوى على خطو خطوة نحو السرير.
‘يا إلهي… إنني منهكة حتى الموت.’
كانت تعلم أنّ ماري ستعود قريباً، لكنها لم تستطع مقاومة النعاس الجارف.
ارتمت على السرير كيفما اتفق، دون أن تجد القوة لتستلقي بشكل صحيح.
وفيما تترنّح عيناها بين الإغلاق والفتح، وقعت نظراتها على المنديل الملطخ بالدماء على الطاولة وسرعان ما خطرت ببالها صورة رافاييل وهو يناولها ذلك المنديل بوجهٍ يفيض قلقاً.
‘إنه ممثل بارع حقاً.’
هل غيّر استراتيجيته الآن إلى المسايرة؟ فقد كان تمثيله متقناً لدرجة كادت أن تصدّق أنه مخلص.
لكن مجرد التفكير أنه يتظاهر بالحرص كي يجرّها إلى طبيب البلاط أثار استياءها.
تفهمت رغبته في فسخ الخطوبة، غير أنّ تصرفاته المبالغ فيها بدت مزعجة، خاصةً أنه لم يعد يظهر ذلك الكره المرهق كما في السابق.
بدا كأنّه يركض وحده بعيداً جداً، وظنّه أنها ما زالت تكنّ له مشاعر جعلها تراه مثيراً للشفقة.
‘أأصرّح له جهاراً أنني لا أكنّ له أدنى اهتمام؟ لا، هذا لن يجدي. ذاك الرجل سيعتبرها حيلة أخرى من حِيَلي ويواصل الإلحاح المزعج. آه……’
لم تجد حلاً.
فهي حتى قبل قليل اضطرّت وهي في غمرة الإعياء، إلى التذرع بأن التشخيص لم يثبت بعد.
ربما لم يبقَ أمامها سوى إبقاء مسافة آمنة وتجنّب الاحتكاك ما أمكن.
فهي تعلم أن محاورة من يضمر لها النفور لا تعود عليها إلا بالإرهاق، ولطالما كانت تستغرق وقت وجودها مع رافاييل في التفكير بأمور أخرى حتى تمضي اللحظة، لكن حتى ذلك غدا عبئاً.
بل أحسّت أن كل كلمة إضافية لا تجلب إلا مزيداً من التعقيد.
لذا عزمت على أن تتذرع بالمرض وتبقى في القصر فترة، أو إن اقتضى الأمر أن تفرّ إلى الشمال حتى تظهرَ البطلة الأصلية، فالابتعاد عن الناس بات الخيار الأسلم لصحتها.
فركت عينيها المثقلتين وأطلقت تنهيدة طويلة.
وفجأة دوّى طرق على الباب.
“آنستي.”
“……ادخلي.”
فتحت لويسا عينيها نصف فتحة، وحاولت أن تعتدل في جلستها، لكن جسدها أبى الاستجابة.
استسلمت وأطلقت زفرةً قصيرة، فدخلت ماري، وما إن رأت آنستها حتى شهقت بفزع.
“يا إلهي! آنستي، هل أنتِ بخير؟!”
“هل يمكن أن تكوني قد انهرتِ؟!”
وفي تلك اللحظة اندفع الطبيب الخاص الذي كان ينتظر خلف الباب على وقع صراخ ماري.
وقد افترض الاثنان أن لويسا قد سقطت في الطريق إلى السرير من شدة الإعياء، فأحدثا جلبة كبيرة.
“آنستي، أرجو أن تسمحي لي بفحصك قليلاً!”
“ممم…”
وبمساعدة ماري استلقت لويسا بشكل مستقيم، وحدّقت بعينين غائمتين في الطبيب وهو يتفحّصها بجدية.
بدا لها الأمر كله عبثياً، إذ لن يجد مهما دقّق.
“هل الأعراض كما في السابق؟ غثيان مفاجئ يعقبه قيء دموي، ثم فقدان القوة الجسدية؟”
“نعم.”
“كنت أخشى ذلك……”
أخشى ذلك؟
“لا يسعني الجزم بعد، لكنني وجدت مرضاً تتشابه أعراضه مع حالتك.”
“آه، هذا…… ماذا؟”
“أفهم دهشتك. هناك مرض في إحدى البلدان الشرقية، إذا ازداد مقدار الطعام فجأة يصيب المريض غثيان شديداً وقيئاً دموياً دون مقدمات.”
‘مهلاً لحظة…! كمية الطعام التي أتناولها لم تزد إلا لأنني كنت آكل كالعصفور سابقاً. هذا ليس عدلاً!’
‘لقد كنتم تمدحونني على أنني أتناول الطعام جيداً، والحقيقة أنني لم آكل إلا بمعدل طبيعي لا أكثر…’
وبينما أطبقت لويسا شفتيها غيظاً، ظنّ الطبيب أنها تفعل ذلك بدافع القلق فسارع، معتذراً بنبرة حذرة:
“وطبعاً، ليس هذا فحسب. فقد لاحظت أيضاً أن أطراف أصابعك تصبح حارّة جداً عقب كل مرة تتقيئين فيها دماً.”
“أطراف أصابعي… حارّة؟ أنا؟”
لم تكن لويسا تدري بشيء، إذ مدّت يديها تلمس أطراف أصابعي بدهشة.
‘ما هذا…؟ حقاً هكذا؟’
لم يكن الدفء يسري إلا في نهايات أصابعي وحدها.
قال الطبيب المرافق:
“نعم. لذلك، وبناءً على هذه الحالة، قمتُ بجمع الأعراض المتشابهة، فوجدت أن أقربها ما يُسمّى بمرض اليُكسُنگوي. غير أنّ…”
توقف متردداً وقد ارتسمت على وجهه حيرة واضحة، كأنه لا يدري هل يواصل الحديث أم يصمت.
قالت لويسا ببرود:
“لا بأس.”
فلمّا أومأت له بغير اكتراث أن يتابع، أغمض الطبيب عينيه بإحكام كأن الأمر يثقل صدره، ثم قال بصوت متحسّر:
“… للأسف، لا يوجد حتى الآن علاج لهذا المرض، لذا يلزمنا البحث فيه بتركيز شديد.”
“ما هذا؟! يعني هو مرض لا علاج له؟ حقاً يوجد داء كهذا؟!”
غير أن ما أدهشني أكثر من المرض ذاته كان عزيمة الطبيب الذي لم يتوقف عن البحث في كل البلاد حتى توصّل إلى اسمه.
“بالطبع، نحن أطباء أسرة بليك سنجد طريقة للعلاج مهما كلّف الأمر. ثم إن ما قلته مجرد ترجيح بناءً على تشابه الأعراض، فقد يكون مرضاً آخر، وسنواصل الفحص مراراً للتأكد.”
قالت بهدوء:
“آه…”
وتابع الطبيب:
“لكن… لم أكن أعلم هل ينبغي أن أخبرك الآن أم لا. غير أنّ ما دمتِ قد بصقتِ دماً اليوم أيضاً، فقد رأيت أنه من الواجب أن يطّلع المعنيّ أولاً على حقيقة الأمر.”
وهذا يعني أنّ اسم هذا المرض سيصل عاجلاً أم آجلاً إلى مسامع الدوق وديميان.
‘ديميان مفرِط القلق أصلاً، فكيف لو ظنّ أن الأمر مرضٌ عضال! عندها ستقوم الدنيا ولا تقعد…’
لقد خرجت الأمور عن حدّها أكثر مما توقعت.
فحتى مجرد عرض التقيؤ الدموي أمر صادم، فكيف لو شاع أنه مرضٌ لا شفاء منه؟ عندها، ولأنه يتربّص بالفسخ، فإن رافاييل سيستدعي لا محالة أطباء القصر وكهنة الشفاء ليكشفوا الحقيقة فوراً.
‘آه… لا أستطيع أن أبوح بأني فقط ذات طبيعة جسدية نادرة… أريد إخفاء الأمر حتى ظهور البطلة، لكن لماذا يتعقّد كل شيء بهذا الشكل؟!’
أطلقت لويسا أنيناً وأغمضت عينيها بشدة، ثم غطّت وجهها بكلتا يديها واستدارت على جنبها تطوي جسدها ككرة صغيرة، وكأنها إن لم تفعل ستصرخ وتتمرغ في الأرض من الغيظ.
وقد تلاقت نظرات الطبيب وماري على ظهرها الضئيل المنكمش.
‘تبدو وكأنها تبكي… من الأفضل أن نترك لها المجال. أنا نفسي مصدوم، فكيف بها؟ لماذا ابتُليت آنستي المسكينة بهذا؟!’
‘آه آنستي… أقسم أن أبذل حياتي حتى لا تذرفي دمعة بعد اليوم، وحتى تتماثلي للشفاء التام!’
لقد كان مشهداً يبعث على كثير من الأوهام والشفقة، حقاً كان عصراً مليئاً بالالتباسات وسوء الفهم.
***
في ساعة متأخرة من الليل، اجتمع أربعة رجال أمام غرفة لويسا.
قال أحدهم:
“اليُكسُنگوي؟”
فأجاب الطبيب:
“نعم. منذ نوبة التقيؤ الدموي الثانية راودتني الشكوك، لكني فضّلت التريث حتى أتيقن أكثر. ومع ذلك، لم أرد إصدار تشخيص قطعي، بل الانطلاق من هذا الظنّ لإجراء فحص أدق.”
ابتلع الطبيب ريقه متوتراً وهو يراقب وجهي الدوق بليك وابنه وقد علاهما الوجوم.
كان ديميان يكتم أنفاسه بجهد عظيم، يحاول أن يسيطر على مشاعره، ثم بالكاد ضغط على صوته ليقول:
“… والدي، سأذهب بنفسي إلى بلاد الشرق. قد أجد هناك سبيلاً للعلاج.”
لكن الطبيب صاح معترضاً:
“سيدي الصغير، أولى بك أن تبقى إلى جوار الآنسة! سنرسل أولاً اثنين من أطبائنا إلى هناك، وحالما تتضح المعالم، سأذهب بنفسي.”
فتدخل براون قائلاً بحذر:
“مولاي، ما رأيك بطلب معونة كاهن شفاء من المعبد؟”
–
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 20"