أحسّ رافاييل من الأجواء الغريبة التي تشعّ منها، أنّ دخوله القصر بهذه السهولة لن يكون صائباً.
قال متردداً:
“…… لديّ عمل خارج القصر. لعلنا نتناول الطعام في مطعم قريب ثم نفترق هناك، أترين ذلك مناسباً؟”
ذلك الإحساس حمله على أن يغيّر خططه على نحو اندفاعي؛ فقد كان قصده في الأصل المرور سريعاً بمقرّ الدوق ليتأكد من الأداة السحرية ثم يمضي، لكنّه فجأة شعر أنّ ذلك ليس بالتصرف السليم.
‘… ليس من اللائق أن أزور قصر آنسة مراراً متتالية، فهذا قد يثير أقاويل فارغة. وعلى أيّ حال حان وقت الطعام، فأتدبّره معها ثم أنصرف لشؤوني.’
وبينما لم يسأله أحد، أقنع رافاييل نفسه بذلك تماماً، ثم مدّ يده إلى لويسا التي بادرت وهي تهز رأسها موافقة.
ولمّا التقت حرارة جسديهما الدافئة، التي كانت كنسيم ربيعي لطيف، ارتسمت على شفتيها المطمئنتين منذ البداية ابتسامة خفيفة.
قالت بابتسامة رقيقة:
“كنت جائعة في الحقيقة، جيد أنّك اقترحت هذا.”
ثم أمسكت لويسا بيده اليسرى بكفها اليمنى وضمتها إلى صدرها، مظهرة سعادة لا تخطئها العين.
‘… هل يعني هذا أنها متحمسة لمجرد قضاء وقت معي؟’
غاصت عيناه في محيّاها الهادئ.
لقد كانت ترتدي ثوباً أبيض مزيّناً بالدانتيل الأبيض والشرائط الوردية، فأضفى عليها رقةً تلائم الربيع غاية الملاءمة.
‘أتراه لذلك؟’
بدا له في تلك اللحظة وكأن ضياء الشمس الربيعية يغمرها دفئاً، حتى أن ذلك المشهد البهي كاد يسحر بصره. فارتجف جفن رافاييل السفلي اضطراباً.
‘أيُّ وهم هذا…؟!’
فزع من خواطره، وسرعان ما أفلت يدها فور أن جلس في العربة.
رمقته لويسا بطرف عين، ثم سرعان ما أطرقَت وقد بدت كأنها تفكر في شيء.
قالت بهدوء:
“…… سأريك الأداة السحرية فور وصولنا إلى المطعم.”
وانطلقت العربة وهما متقابلان في جلستهما، وما لبثت لويسا أن فتحت الحديث.
فهو وإن كان قد جاء متلهفًا ليرى الأداة، إلا أنه لم يشأ أن يطلب ذلك مباشرة، إذ عرفت أن طبعه المتعالي قد لا يتقبّل الأمر، فأرادت أن تراعي مشاعره.
لكن المشكلة أن رافاييل، وقد استبدّت به أحكامه المسبقة، لم يأخذ قولها على محمل حسن.
راح يحدق في ملامحها الجانبية وهي تدير رأسها نحو النافذة، كأنها بذلك تقول إن كلامها قد انتهى.
‘وكأنها تنتظر الفرصة لتستغلني.’
لقد كان في نفسه ساخطاً على الوهم الذي جرفه قبل قليل، وردّ فعله لم يكن سوى محاولة لتغطية ذلك الاضطراب.
لكنه ما لبث أن أراد إعادة صياغة هذا الموقف المربك على طريقته.
وهكذا وبينما تسير العربة بهدوء، فاجأها بكلمة حادّة:
“لن أقع في حبكِ أبدًا.”
كان صوته أقرب إلى إنكار لشيءٍ غامض لا يستطيع تعريفه، وربما أقرب إلى تعهّد يقوله لنفسه أكثر مما يوجّهه إليها.
صمتت لويسا تماماً، ولم تُبد أي ردّة فعل، كأنها تحولت إلى حجر.
غير أنّ طول الصمت أخذ يخفف من حدّة توتر رافاييل نفسه.
وإذ ظل يحدق بعناد في النافذة المقابلة، لم يلبث أن التفت نحوها وقد بدا عليه الضيق من كلماته هو.
ووجدها بالفعل شاردة، ترسم على وجهها ملامح حزن خفيف، كأنها تتعمد إخفاءه بالنظر إلى ما وراء زجاج العربة.
فعاجلها بقوله:
“…وأقصد أنني لا أنوي التعلّق بأيّ أحد. لا بكِ، ولا بغيرك.”
‘لماذا أبرر نفسي؟’
ولم يدرِ لماذا يبرّر، وقد كان كلامه قد صدر بالفعل.
لكنّه شعر بالارتباك من سلوكه الذي خرج عن حدود فهمه.
غير أنّه في اللحظة نفسها لمح انحناءة خفيفة ترتسم على شفتيها، فاسترخى وجهه دون أن يدري.
‘أتُراكِ تحبينني إلى هذه الدرجة؟’
ولو سمعت لويسا ما خطر بباله لضحكت بمرارة.
فقد كانت هي في عالم آخر تماماً.
‘آه، أنا جائعة. أخيرًا وصلنا.’
كل ما يشغلها كان دخول العربة إلى الشارع التجاري، تنتظر الطعام فقط.
أما ما يقوله رافاييل، فلم يكن يعني لها شيئاً في تلك الساعة؛ فالأولوية عندها ملء معدتها.
كان في نيّتها أن يمرّا سريعاً على القصر، فإذا به يدعوها إلى مطعم؛ فظنّت أنّه ربما مثل المرة السابقة حيث ذهبا إلى مطعم فاخر، فاشتد بها الترقّب.
ولعلّ المشكلة الوحيدة أنّها إذ كانت تظن أنه سيغادر سريعاً، بقيت منذ الصباح بلا إفطار، الأمر الذي أضعف تركيزها.
ثم إن مزاجه لم يكن يوحي بالصفاء، وكلام أمثاله عادة ما كان يجرحها كسمّ، لذا كان من الطبيعي أن تنغلق على عالمها الخاص.
‘ليتني أتناول الطعام بسرعة…’
أطبقت أذنيها وأسلمت بصرها إلى الفراغ.
وقد اعتادت على ذلك طيلة حياتها، حتى غدا كلامه لا يصلها البتة.
وما كان منها إلا أن تواصل النظر إلى النافذة، مثقلة بجوعها الذي ينهش أحشاءها.
‘يا ترى أي مطعم نقصد؟ لعل الأطعمة الأوروبية هنا تلائمني أكثر مما توقعت؟ أو أن مستوى مطابخ هذه البلاد مرتفع فحسب؟ على أيّ حال، لن أعرف حتى أتذوقها بنفسي.’
رغم أنّها في حياتها السابقة خاضت كثيراً من تجارب العمل الاجتماعي، أدركت لويسا كم كان عالمها ضيقاً ومحدوداً، فانتابها حماس طفولي لمجرد التفكير في الطعام.
لكنّ بصرها الذي كان يجول في أرجاء الطريق توقف عند رجل غريب وسط الشارع.
كان قد أسدل على رأسه رداءً أسود ثقيلاً، ممسكاً بين ذراعيه صندوقاً خشبياً.
أثار المنظر فضول المارة، فأخذت خطواتهم تبطؤ، وبدأ بعضهم يلتفّ حول الرجل.
كان المشهد غير طبيعي.
ورغم أن المسافة بينهما أخذت تتسع، لم تستطع لويسا أن تزيح عينيها عنه.
فقد بدا وجهه الهزيل مرهقاً ومنهكاً إلى حدّ مؤلم، غير أنّ لمعان عينيه اللتين تشعّان بجنون لا يخفى حتى من بعيد، شدّها بقوة.
وبينما كانت تحدّق، ضاقت عيناها حذراً.
صرخ الرجل النحيل، الذي بدا أنه يوشك على الانهيار، بصوت مدوٍّ هزّ المكان:
“أطلقوا سراح السحرة السود الذين اعتُقلوا ظلماً!”
سحرة سود؟
اشتدّت وطأة الجو فجأة، وتلاقت نظرات لويسا ورافاييل في الهواء.
تابع الرجل مزمجراً بجنون:
“وإلا فستحلّ عليكم لعنة الدم! هاهاها─!”
“اللعنة، انخفضي!”
وبلمح البصر، ارتمى رافاييل فوقها يعانقها ليقيها، فدفنت لويسا رأسها في صدره، وأطبقت كفيها على أذنيها وأغمضت عينيها بشدة.
دوّى انفجار هائل!
ترددت موجة الصوت كالصاعقة حتى خُيّل لها أنّ طبلة أذنها تتمزق، وتعالت الصرخات من كل جانب.
‘يا إلهي! لقد أرعبني ذلك…’
تجمّع العرق البارد على جبينها، وألقت بنظرة سريعة عبر نافذة العربة. فإذا بالدخان يملأ المكان كضباب ثقيل.
لحسن الحظ، كانت العربة على مسافة كافية، فلم تصب بأذى مباشر. لكن الصندوق كان ممتلئاً بالبارود، فانفجر ليحصد من كان قريباً، فتناثر الدماء وسقط كثيرون مضرجين على الأرض.
شعرت لويسا بالغثيان، وأرجعت ذلك في بادئ الأمر إلى هول المشهد.
غير أنها سرعان ما شهقت وقد اعتصرها ألم حاد في صدرها.
قال رافاييل بقلق وهو يحدق عبر النافذة:
“هل أنتِ بخير؟ يبدو أنّ الأمر هجوم انتحاري مرتبط بالسحرة السود.”
لكن حين انخفض ببصره ليتفقدها، وجدها مستندة إلى صدره، شاحبة تتنفس بأنين.
حاول أن يبعدها قليلاً ليتأكد من حالها، فإذا بها تتقيأ دماً بغزارة.
شهق مذهولاً وهو يمسك بكتفيها المرتجفين:
“آنسة بليك! ما الذي يحدث؟”
كانت الدماء تتدفق حتى ابتلّت أرضية العربة في لحظات.
وخُيّل إليه أنّ مشهدها في حفلة الحديقة يوم نزفت من إصابة طفيفة يتكرر أمامه الآن، لكنّه أيقن أن الأمر هذه المرة أخطر بكثير.
انحنى نحوها وهو ممسك بكتفيها النحيلتين، يتفحص وجهها الذي طأطأته وهي تحاول عبثاً حجب دمائها.
ومع ذلك، لم يفلت صوته من سماع قطرات دم أخرى تتساقط على الأرض.
ارتجف جسده بأكمله وقشعرّ جلده.
“ما هذا بحق السماء…؟”
تمتم بذهول، متوقفاً عن الكلام بعجز.
هذه ثاني مرة يشهد فيها نزيفها المروع، ولا يمكن أن يمرّ الأمر بسلام أو يُبرَّر كحادث عابر.
ازداد تدفق الدم حتى شحب وجه رافاييل ذاته.
لكن ما حيّره أكثر هو أنّ عينيها، على الرغم من كل ذلك، بدتا هادئتين على نحو غريب، وكأنها تعودت على مثل هذه الحال.
كان في وجهها شبه من البرود والاستسلام، ما جعله يشعر بغصّة ثقيلة في صدره.
‘يا للعجب… كم عانت حتى أصبح النزيف عندها أمراً مألوفاً؟’
أحسّ بغضب مكتوم يملأ قلبه، لكنه لم يجد وقتاً لإنكاره.
كل ما كان يريده في تلك اللحظة أن تتوقف عن النزف، أن تنجو، وأن لا تتألم.
‘اللعنة… جن جنوني.’
وبينما كان هو يفيض قلقاً وتعاطفاً، كانت لويسا على العكس متبرمة متضايقة.
‘لقد شربت ماءً مقدساً قبل الخروج تحسباً لأي طارئ، لكن… لا بد أن ذلك الساحر الأسود دسّ شيئاً في الأمر.’
كانت رائحة الدم تملأ العربة، وفستانها المبتل بالحمرة يثير في نفسها القرف.
ومنذ قليل وهي تشعر بهواء خانق يطبق على صدرها، وكأن شيئاً يغمرها من الداخل.
‘هل خلطوا البارود بطاقة سحرية مظلمة؟ اللعنة، الهواء ثقيل إلى حدّ لا يُطاق، أنفاسي تتقطع.’
لهثت بشدة، ثم استسلمت تستند برأسها إلى ذراع رافاييل الملتف حول كتفيها.
وهمست متعبة:
“هآه…”
—
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات