وكأنه قد أُصيب في الصميم بما لم يفكر فيه من قبل، تصلّب جسده فجأة متخشبًا، فبادرت لويسا إلى إنزال يدها ببطء وأخذت خطوة إلى الوراء، فرأت أن من الأفضل أن تمنحه بعض الوقت للتفكير بدل أن تُثقل الجو بمزيد من الكلمات.
“……آسف.”
سرعان ما انخفض طرف عينيه المسترخيتين، ورغم نبرته الجافة المعتادة، إلا أن صوته العذب كما هو دومًا كان مشوبًا بشعور بالذنب لم يستطع إخفاءه.
“يبدو أنني من حيث لا أدري كنت أرتعد خوفًا. خفت أن يصيبك أي مكروه…… ولهذا كنت أتشبث فقط بالوضع الأكثر أمانًا الذي لا يسمح بأدنى متغير حتى لا تتعرضي لأية مخاطر.”
“رافاييل.”
“كنت أزعم أنني أفعل ذلك من أجلك، لكن في النهاية لم أكن أختار إلا ما يريح قلبي أنا…….”
بدا منهارًا إلى حد يثير الشفقة فارتبكت لويسا وسرعان ما أمسكت بيده.
لم تقل شيئًا خطيرًا يستحق كل هذا، لكنه كان يبالغ في الندم حتى كاد أن يدفن نفسه في الأرض، فلم تعرف كيف عليها أن تتصرف.
“أنا أتفهم ذلك تمامًا، ولم أقل إنني أكره هذا منك. فقط كنت أريد أن أخبرك منذ الآن، أنه سيكون من الأفضل أن نتفاهم ونتكيف معًا في حياتنا القادمة.”
“صدقتِ. وإن كان هناك شيء آخر غير هذا فأخبِريني، سأُصلحه كلّه.”
“شيء آخر؟ لا يوجد…… لكن أنت يا رافاييل، ألا يوجد ما تريده مني؟ أو أي أمر تود لو أغيره؟”
“لا شيء مطلقًا.”
“لا، فكّر قليلًا قبل أن تجيب. أنت ترد بسرعة حتى لا أجد فسحة بين أنفاسي.”
“لأن لا شيء هناك.”
كان حازمًا إلى أقصى حد. وبمجرد النظر إلى ملامحه، بدت وكأنه قد عزم على أن كل ما تقوله صحيح، وأنه سيتبعها دون قيد أو شرط.
فما كان من لويسا إلا أن انفجرت بالضحك وهي ترى عيني رافاييل تلمعان بثبات لا يتزحزح.
وانفرجت شفتاه بدوره، كأن ضحكتها الصافية قد انسابت إلى قلبه.
اختفت الأجواء الجادة التي كانت قبل لحظات، وصار يكفي أن تتلاقى أعينهما حتى يبتسما لبعضهما.
شعرت لويسا على نحو عجيب أن هذا هو معنى الحب حقًا.
***
ومع بداية تفتّح زهور اللوز البيضاء بعد شتاء طويل، أخذت الأرض تنبض من جديد ببراعم خضراء صغيرة.
ففي حين أن أوائل الربيع في الشمال يعادل شتاءً قارصًا في أي مكان آخر، كان سكان دوقية بليك يعيشون هذا العام ربيعًا أدفأ من أي وقت مضى.
“قادمون اثنان آخران من الغرب!”
كان الناس في مقاطعات الحدود الشمالية يعملون بحيوية ونشاط، ووجوههم تحمل خفة لم تُرَ منذ زمن.
“وكأن الوحوش تتناقل الأخبار فيما بينها. ما سرّ هذه الزيارات السلسة؟”
“حقًّا، الأمر غريب. كل شيء يسير على نحو سلس إلى درجة تدعو للعجب. يبدو أن التنظيف سينتهي أبكر من المخطط له.”
لم يمضِ وقت طويل منذ أن كانوا يعيشون في توتر دائم، يترقبون ظهور الوحوش في أية لحظة، يحرسون بخوف لا يفتر.
أما الآن، فقد صاروا متعطشين لمجرد رؤيتها كي يجتذبوها بسرعة ويطهروها.
وبينما كان الفرسان يتابعون بحذر، لم يخفِ أحد منهم نظرات الفخر والاعتزاز وهو يراقب لويسا عن قرب وهي تتفقد الوحوش عند خط الحدود.
منذ أن وطئت قدمها الشمال، وهي تواظب على زيارة الحدود يومًا بعد آخر بلا كلل. ومع توسّع طاقتها المقدسة وقدرتها على التطهير، نصحها البعض مرارًا بأن تتروى حتى لا تنهك صحتها، لكنها لم تتردد لحظة، وكانت تجيب دومًا: ألا ينبغي أن نسرع بالقضاء على الوحوش كي ينال الجميع راحة البال؟
وكانت كلماتها هذه تترك أثرًا عميقًا في قلوب الفرسان.
فالوحوش وإن ضعفت قوتها عما كانت عليه، ظلت خطرة كما هي، وعلى الفرسان أن يظلوا مستعدين لأسوأ الاحتمالات مهما شددوا الحراسة.
لذا، لم يكن غريبًا أن تبدو لهم تلك الآنسة التي لم تكتفِ بالتفهم بل سعت بنفسها للحل، غاية في الروعة.
“إنها مدهشة حقًا. كان بوسعها أن تُظهر الخوف، لكنها لم تفعل، بل أخذت زمام المبادرة وتقود هذا المكان بنفسها.”
“بلى، صدقت. مولاتنا ليست منقذة للشمال فحسب، بل منقذة للإمبراطورية كلها!”
وما لبث أن هزّ الفرسان القريبون رؤوسهم مؤيدين، وأعينهم تتلألأ وهم ينظرون إلى لويسا.
“ها قد بدأوا ثانية.”
تمتمت بضجر، فمديحهم المفرط وصل إلى أذنها واضحًا رغم نبراتهم الخافتة.
فمنذ أن أخذت تتولى بنفسها تفقد الحدود، غدا تمجيدهم لها يتعاظم حتى كاد يبلغ حد التأليه، فما عادت ترى فيه إلا لغوًا تتجاهله.
“تم التطهير. عَزلوها.”
أشارت لويسا إلى الذئب والثعلب اللذين حاولا أن يقتربا من خط الحدود. ولعل ما نالوه من تطهير طاقتها المقدسة هو ما جعلهم يتصرفون تجاهها بودّ واضح.
فعادةً ما كانت هذه المخلوقات تقاوم بشدة عندما يحاول الفرسان اقتيادها، لكنها ما إن تُلوّح لويسا بيدها حتى تذعن وتدخل القفص طوعًا.
“ألا يبدو أن الوحوش من الشرق توقفت تمامًا عن المجيء؟”
“أجل، بعد تتبع مسارات الوحوش، تبيّن أنه باستثناء تلك التي تتجه نحو الحدود، فإن البقية جميعًا تتوجه غربًا.”
“ولماذا الغرب يا ترى؟ نحن لم نقم بدفعها أو توجيهها عمدًا، ومع ذلك فهي تتجمع هنا من تلقاء نفسها…….”
ضيّقت لويسا عينيها وهي تحدّق بعيدًا، وقد شعرت بالضيق لعدم تمكنها من التوجه بنفسها لرؤية ما يجري ما دام الوضع لم يتأكد أمانه بعد.
‘هل هي مجرد غريزة تدفع الوحوش المتبقية إلى التجمع معًا؟ لكن لماذا التجمع؟ فهم حتى لو اجتمعوا لا يهاجم بعضهم بعضًا…… لحظة، أيمكن أن يكون هناك كائن حي؟’
“أيمكن أن يكون هناك كائن حي؟”
“آه! ربما. فالوحوش دائمًا ما تسعى إلى غزو مناطق جديدة، فإذا لم تتمكن من الاقتراب من الحدود، فمن الممكن أن تبحث عن مكان آخر.”
أومأت لويسا ببطء.
فالأرض هناك قاسية لا تصلح لحياة البشر، وإن وُجد شيء حي فلن يكون سوى بعض الحيوانات التي لم يفسدها السحر الاسود بعد.
وإن صحّ ظنها، فقد تمثل هذه فرصة لاستغلال الأمر والتخلص من الوحوش دفعة واحدة.
“حسنًا. يجب أن أتشاور مع الدوق بهذا─”
“مولاتي!”
ارتفع صوت يناديها فجأة، فالتفتت لويسا بسرعة.
ورأت رجلًا يعدو من بعيد، بينما الجنود المحيطون بها يتخذون وضعية قتالية، كأن المشهد كله يتحرك ببطء أمام عينيها.
“كان يجب أن نحبسها جيدًا! كيف تجرأت على الفرار؟!”
“أمسكوا بها بسرعة!”
“مولاتي، ابتعدي!”
وبينما تعالت أصوات الذهول، ظهر ظل أسود فجأة في مجال بصرها.
جمدت لويسا مكانها، عيناها متسعتان على ذلك الظل الداهم، عاجزة حتى عن التفكير بالهرب.
***
قطرة!
سقط حبر أسود من سنّ القلم وتمدّد فوق الورق.
ظلّ رافاييل يحدّق بالورقة أمامه، ثم سرعان ما قطّب جبينه ورفع رأسه.
‘ألم يحلّ المساء بعد؟’
ارتسم لون برتقالي ممزوج بالحمرة على السماء من خلف النافذة.
حين يكون مع لويسا يمر الوقت كالبرق، أما وهو غارق في العمل وحده فالساعات تكاد لا تتحرك، فيتنهد مرارًا.
واليوم بالذات كان أشد تشتتًا من أي وقت مضى، حتى أنه عاد ليتفقد السماء مرارًا.
‘لكن بعد ليلتين فقط سأراها مجددًا.’
لقد اتفقا على اللقاء مرة كل أسبوعين أو ثلاثة في عطلة نهاية الأسبوع، غير أن بعد الغد سيكون يومًا استثنائيًا، إذ بوسعه زيارتها حتى وإن لم يكن عطلة.
‘فالأعياد ينبغي أن تُعطّل.’ ( اي يجب اخذ عطلة )
ذلك لأن بعد الغد هو يوم مولد لويسا.
كان منذ العام الماضي يجمع شيئًا فشيئًا كل ما يُعد نادرًا أو ثمينًا، حتى صار لديه كم كبير من الهدايا ليقدمها لها.
ومع أنه لم يكن بارعًا في اختيار الهدايا، إلا أن ما جمعه كان في الغالب جواهر أو تحفًا أثرية قديمة سبق أن لفتت انتباهها. وكان ذهابه بنفسه لتقديمها أشبه بلمسة شخصية تحمل مزيدًا من الصدق، فضلًا عن أن شوقه لرؤيتها كان الدافع الأكبر.
‘ربما الأفضل أن أنام باكرًا وأخرج مع الفجر……’
لكن زيارته في وقت مبكر جدًا قد تُعد وقاحة بحق أسرة الدوق، فلم يكن بوسعه حقًا تنفيذ ما يفكر فيه، وإن كان عقله لا يكف عن اجتراره.
زفر بعمق وأزاح الورقة التي لطّخها الحبر جانبًا، ثم مدّ يده إلى الصفحة التالية ليواصل عمله.
طرق! طرق!
وفجأة، ترددت طرقات على الباب تزامنت مع فتحه مباشرة.
ولأن الدخول بهذه الطريقة لا يحدث إلا لأمر عاجل، تصلبت ملامح رافاييل على الفور.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 137"