في لحظةٍ انقطع النسيم البارد فجأة، ولم يبقَ سوى الدفء عالقًا بين يديها.
ابتسمت لويسا بخفة وهي تُنزل حاجبيها قليلًا.
لم تفهم السبب، غير أنّ قلبها انقبض برقة، وأدركت فجأة كم افتقدت هذا الدفء.
أمعقول أن بضعة أسابيع من الغياب جعلتها بهذا القدر من الحنين؟
“لقد اشتقت إليكِ.”
ويبدو أنّ رافاييل شعر بالأمر ذاته. فما إن همس بصوت منخفض كلماته العذبة حتى ذابت شفتاها في ابتسامة هادئة.
وأثناء تبادل النظرات الصامتة، رفع يدها إلى فمه وطبع قبلةً ثابتة على راحتها قبل أن يرفع رأسه ببطء.
“الهواء بارد. لنركب العربة أولًا.”
وألبسها بعناية القبعة المتصلة بعباءتها، ثم أشار بعينيه نحو العربة التي أُعدّت خصيصًا لهما.
وحين رأت لويسا العربة التي لا تختلف عن عربات الشوارع العادية، مدت يدها إليه لتضع القبعة على رأسه هي الأخرى. فانحنى قليلًا مطيعًا، ليلامس شعره الناعم ظهر يدها، ويمسّ خدّه الأملس أطراف أصابعها، فيما تسللت إلى أنفها رائحة مألوفة حملها الهواء.
“… وأنا أيضًا اشتقت إليكَ.”
تمتمت وهي ترفع يدها عن القبعة وتتقدّم أمامه.
لمّا التفتت نحوه على عجل، رأته يضحك وهو يغطي نصف وجهه بكفه. ثم ما لبثت أن انفجرت بالضحك بدورها، إذ بدا كمن غلبته مشاعره ولم يدرِ كيف يتصرّف بها.
لم يعد لبرودة الشتاء أي أثر.
***
كان المهرجان لا يقتصر على اليوم فحسب، بل يستمر أسبوعًا كاملًا.
في العادة، لو كان الأمر في عهد الإمبراطوري السابق، لكان الاهتمام منصبًا على استرضاء النبلاء، فيُرسلون لهم الدعوات وتُقام حفلة استقبال العام الجديد داخل القصر الإمبراطوري. لكن رافاييل اختلف عنهم.
فقد ألغى الحفلة تمامًا، وصبّ كل الميزانية في المهرجان الشعبي، حتى صار ضخمًا للغاية، فاجتذب الكثير من الزوّار الأجانب الذين سمعوا به وجاؤوا خصيصًا.
“ألا يذكّرك هذا بمهرجان الصيف؟ يومها تجوّلنا معًا هكذا.”
ولو أنّ بيلا انضمّت إليهما في النهاية، إلا أنّ الأمر حُلّ سريعًا.
ابتسمت لويسا وهي تتفحّص الأجواء من حولها، ثم رفعت نظرها إلى رافاييل.
“أجل، أذكره. وقتها أكلنا أسياخ الدجاج ثم تذوّقنا المثلّجات.”
“هاه؟ تذكُر حتى هذا؟”
“نعم، كل التفاصيل. حتى عجزكِ عن أكل الأشياء الحامضة أذكره جيدًا.”
‘إلى هذا الحد؟ ذاكرة عجيبة… وقتها لم يكن مهتمًا بي كثيرًا، أو هكذا ظننت.’
“لقد كنتُ مهتمًا بك منذ ذلك الحين. صحيح أنّ الأوضاع كانت مربكة، لكن ما دمتُ أحتفظ بتفاصيل دقيقة كهذه، فذلك يعني أنني كنتُ غارقًا في مشاعري بالفعل.”
“آه…”
“وعيناك الآن ترتجفان كما في ذلك الوقت… مثل بتلات زهرة البنفسج.”
ابتسم رافاييل ابتسامة مشبّعة بالحنان. ولو أنّ أحدًا غيره قال مثل هذا الكلام، لشعرت لويسا بالضيق من فرط العاطفة فيه، لكنها الآن لم تستطع إلا أن يخفق قلبها بعنف.
لعل السبب أنّ الرجل الذي تحبّه وهو بحد ذاته كجمال متجسّد هو من قالها.
وقد زاد أثر كلماته حين رفع يده بلطف ليمسح بخفّة حاجبيها، ويزيح خصلة شعر عن وجهها، فيبادلهما نظرة صافية وابتسامة رقيقة.
“إذن، فلا بد أنك تذكر أيضًا الحجر الحامي الذي ابتعنا وقتها.”
“طبعًا. أذكر أنني تعجّبت من شرائك أربعة أحجار دفعة واحدة، وأخذت أتساءل لمن ستُعطينها. بعد أن أهديتِ الدوق وابنه بقي حجران. فقلت في نفسي: لعل أحدهما لي؟ كنت أتطلّع لذلك حقًا، لكنك لم تُعطيني شيئًا حتى لحظة الفراق… ولا زلت أذكر كم خاب أملي حينها.”
“أوه؟ أحقًا خاب أملك؟”
“نعم. وقتها لم أفهم السبب، وحاولت إنكار ما يختلج في داخلي.”
ثم رفع رافاييل طرف عباءته قليلًا، كاشفًا عن حجر كريم بلون الغروب يتلألأ على صدره.
“ألا يكون هذا… ذلك الحجر بعينه؟”
“هو ذاته. عادةً ما أحتفظ به في الجيب الداخلي، لكنني رغبت اليوم بارتدائه. ويا للمصادفة أن نتحدث عنه الآن.”
“أتحمله معك كل يوم؟”
“نعم.”
شعرت لويسا بوخزة أسف.
كان الأجدر أن تهديه ما هو أثمن.
كيف للإمبراطور أن يحمل حجرًا زهيدًا اشتُري من بائعٍ في الطريق؟ لولا أنها كانت قد أعدّت له هدية ميلاد خاصّة، لربما استدعت فورًا أحد الصاغة لتدارك الأمر.
“لو كنت أعلم، لأهديتك شيئًا أفضل بكثير.”
“كلا. ليست القيمة ما يهم، بل المعنى.”
ألقت نظرة إلى يده اليسرى المتشابكة مع يدها طوال تجوالهما في الشوارع، ثم رفعت عينيها إلى وجهه من جديد.
“إذا كان كذلك…هذا مطمئن.”
مهما حاولت أن تختار له هدية نفيسة، فلن يكون في الإمبراطورية ما يعجز عن الحصول عليه. لذا كانت تعلم أن الهدية يجب أن تتمحور حول المعنى لا الثمن. وهكذا انتقت هديته لعيد ميلاده، مترجّية أن تحوز رضاه بعد طول تفكير.
‘لكن… متى أمنحها له؟’
لحسن الحظ، وافق يوم ميلاده آخر أيام العام.
كانت قد خططت للوصول إلى العاصمة أبكر من ذلك، إلا أن تكاثر الوحوش على الحدود أخّرها.
إذ بدا أن الوحوش التي اعتادت أن تُطهَّر بفعل الزهور المُقدسة صارت هذه المرّة تتجمّع من تلقاء نفسها طلبًا للتطهير، ظاهرة غريبة جعلت مغادرتها صعبة.
“لويسا، هناك بائع طعام خفيف في ذلك الاتجاه، أترغبين بالذهاب؟”
“آه، لما لا؟”
لمست لويسا جيبها المخفي تحت العباءة بخفة ثم سرعان ما سحبت يدها، لتبتسم نحو رافاييل ابتسامة متكلفة.
‘أفضل وقت لتقديمه عند منتصف الليل… لكن هل سنظل في الخارج إلى ذلك الحين؟ حتى مع الألعاب النارية، لا أظن أننا سنبقى نشاهدها حتى منتصف الليل.’
وبينما كانت تئن في داخلها من الحيرة، تظاهرت بالانشغال بالطعام، فأخذت السيخ الذي ناولها إياه رافاييل بسرعة وأدخلته في فمها.
“هل الطعم يرضيك؟”
“نعم، لذيذ جدًّا!”
ارتجفت زاوية شفتيها قليلًا.
كثرة التفكير جعلتها لا تميّز الطعم أصلًا؛ لا تدري إن كان طعم لحم أم خشب. لم تكن واثقة إن كانت ستستطيع الاستمتاع بهذا اليوم كما ينبغي.
طوال جولتها في شوارع المهرجان، لم تفلت لويسا يد رافاييل أبدًا.
الحرارة الدافئة التي كانت تتسلل عبر قبضته المطمئنة كانت تطمئنها وتبدد توترها، فازداد تعلقها بعدم تركها.
إلا حين اضطرّا إلى ترك الأيدي لتناول العشاء، ثم عادت أصابعهما لتتشابك وكأن الأمر بديهي.
ورغم ارتدائه القفازات، كان لا يزال يقرّب يدها إلى فمه، ينفث عليها أنفاسه الدافئة، ويختمها بقبلة خفيفة في النهاية، ما أضحكها بلا إرادة.
‘عجيب حقًّا…’
شرد بصر لويسا قليلًا وكأنها تسترجع ذكرى بعيدة.
في حياتها السابقة، كانت كل يومٍ يمر عبئًا ثقيلًا عليها، حتى إنها كانت تتمنى عند كل نوم ألا تفتح عينيها مجددًا.
أن تحيا بين أسرة دافئة كان أمرًا تتوق إليه وهي صغيرة فقط، ثم مع مرور الوقت تسرّب إليها الحزن حتى استسلمت وتعلمت كيف ترضخ.
فقدت كل إرادة وراحت أيامها تنقضي خالية من أي معنى… حتى اعتقدت أنها لن تعرف الحب يومًا ما دامت على قيد الحياة.
أما الآن فهي تضحك من قلبها بلا همّ، وتقضي وقتها مع من تحب. حتى لو كانت تلك الحياة قد خُلقت بخطأ إلهي، فإنها بما تحمله من ذكريات سابقة بدت لها مختلفة، بل غامرة بالامتنان.
لم يخطر ببالها يومًا أنها ستحمل أحدًا في قلبها هكذا، أو أن تخوض تجربة الحب أصلًا.
“إلى أي ساعة سيستمر عرض الألعاب النارية يا ترى؟ ليتهم يطيلونها.”
رفعت بصرها نحو رافاييل فتلاقت نظراتها مع عينيه المليئتين بالمودة تحت نور القمر المنسكب على محيّاها.
“سيستمر حتى منتصف الليل. يبدأ من العاشرة ويمتد ساعتين. وإن رغبتِ بمزيد من الوقت فسأصدر أمرًا بذلك.”
“ماذا؟ لا، ليس ضروريًّا. منتصف الليل كافٍ.”
‘عندها سأعطيه الهدية.’
“ألا يضايقك أن نعود متأخرين؟”
“في الحقيقة… لقد ثنيتُ أخي عن المجيء معي إلى العاصمة وجئتُ مسبقًا وحدي. أظن أنه سيصل بعد غد، لذا اليوم…”
تلاشت كلمات لويسا شيئًا فشيئًا، وأشاحت بنظرها على استحياء. فتوقف رافاييل فجأة وأمسك يدها الأخرى ليجعلها تواجهه مباشرة، ثم أمال رأسه قليلًا متتبعًا عينيها الهاربة.
“لويسا؟”
تنفست ببطء، وتحرّكت شفتاها المتردّدتان قبل أن يفرّ منها همس قصير أشبه بزفرة خفيفة:
“… يمكننا العودة متأخرًا.”
لم تكن جملة كبيرة، مجرد تصريح بأنهما سيتأخران قليلًا. لكنها بدت لها محرجة إلى حدٍ غريب، فخشيت أن يظهر عليها التردد فتبدو مضطربة بلا داعٍ.
لكن قبل أن تتبين تعبير وجهه، غشي ظلٌ بصرها.
لقد اقترب منها حتى لامست جبهته جبهتها، وظلال قلنسوتهما اجتمعت، وأنفاسه الدافئة انسكبت على وجهها.
“ما رأيكِ ألا نعود إطلاقًا؟”
وكانت عيناه نصف مغمضتين تزدادان عمقًا ودفئًا.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 134"