قال رافاييل وهو يُحكِم إغلاق عباءة لويسا السميكة بعناية:
“حقاً، خريف الشمال أبرد من شتاء العاصمة.”
ومع أنّ الطقس يكاد يكون أقرب إلى أوائل الشتاء، إلا أنّه كان بالفعل أبرد من العاصمة، فهزّت لويسا رأسها بخفة إقراراً.
“ألستِ تعانين كثيراً من البرد؟”
“يبدو أن حرارة جسمي منخفضة، لذلك أتأثر به أكثر.”
“أرى ذلك. لهذا، أظن أن العيش في العاصمة أنسب لك.”
‘هكذا فجأة؟’
رمشت لويسا بدهشة، بينما كان بياض أنفاسه يتصاعد كضباب خفيف من بين شفتيه المبتسمتين برفق. ثم ارتفعت يداه لتلامسا خدّيها الرقيقين المتوردين كحبة خوخ.
“ما رأيكِ أنتِ؟”
“……أجل، معك حق. لا أحب البرد أنا أيضاً.”
“أتمنى أن تنتهي أمور هذه المنطقة سريعاً، ولكن طبعاً دون أن تضغطي على نفسك.”
“في الحقيقة، إن استقرّت الحدود، أعتقد أنّ والدي سيزور العاصمة أكثر من قبل. أما بقاؤه وحيداً هنا في الشمال… فلم أعد أحتمله.”
ابتسمت لويسا ابتسامة خفيفة، ثم التفتت نحو العربة.
حمل النسيم البارد دفء يديه اللتين كانتا قبل قليل تلامسان وجهها.
“لكن، إلى أين نحن ذاهبان اليوم؟ على حد علمي، ليس في هذه المنطقة أماكن تستحق الزيارة.”
“يقال إن ثمة مسرحية. هل شاهدتِ من قبل؟”
“لا، هذه أول مرة أسمع بذلك.”
“مع ذلك، تبدو مشهورة في الشارع الكبير. فما رأيك أن نذهب إليها؟”
“نعم، فكرة جميلة.”
كانت تتوقع أن يقتصر الأمر على عشاء في مطعم ثم العودة إلى القصر بسبب برودة الطقس، لكن ها هي تُقاد إلى مكان غير مألوف.
آخر مرة مارست مثل هذه الأنشطة الثقافية كانت منذ زمن بعيد، ربما لم تتح لها الفرصة أصلاً، ولذلك كان شعورها غريباً.
لكن أن تخوض هذه التجربة مع من تحب، فهذا جعل الأمر مميزاً.
راحت تحدّق في المشهد المتبدل خلف نافذة العربة بعينين مفعمتين ببهجة غير مألوفة.
الأغصان اليابسة تتمايل في الريح، والثلج الأبيض يتراكم هنا وهناك.
إنه نفس المشهد المألوف كل يوم، لكنه بدا مختلفاً اليوم لسببٍ ما.
قال رافاييل:
“يقال إن هناك مطعماً حديثاً نال سمعة طيبة.”
“أوه، حقاً؟”
وبالفعل بدا من الخارج جديد البناء. لكن سمعته الجيدة أثارت فضولها.
التفتت نحوه وقد بدا وكأنه رتّب برنامج نزهة رومانسي مسبقاً، فتوقفت للحظة في تفكير.
“ومن قال لك إنه جيد؟ أتساءل إن كان يناسب ذوقي.”
“……الحقيقة أنّ الدوق الصغير ديميان هو من دلّني عليه. وكذلك البارون ألبيرت أعلمني أنّ المكان يحظى بشعبية كبيرة.”
“أتتواصل حتى مع البارون ألبيرت؟”
“ليست إلا معرفة سطحية منذ التحية الأولى. لكن حين جئت إلى الشمال، وأردت أن أبحث عن أماكن أزورها معك في إجازتي، وجدت نفسي أتواصل معه.”
“عجيب، فهو لا يغادر مصنع النبيذ عادة، فكيف يعرف هذا المكان؟”
“صدقتِ. لذلك سأل بعض معارفه فأخبرني به.”
“أها.”
‘إذن لقد استعدّ حقاً بجدية.’
لم يلبث سوى وقت قصير في الشمال، ولم يكن من عادته تناول الطعام خارجه، ومع ذلك بدا مطّلعاً على كل شيء.
انعقدت عينا لويسا في ابتسامة ضاحكة رقيقة لم يظهر مثلها عليها كثيراً. فاستدارت عينا رافاييل بدهشة أمام هذا الضحك المشرق.
قالت مازحة:
“ألا تراك رتبت برنامج نزهة متكامل؟ أنا شخصياً يكفيني أن نتجول معاً بهدوء.”
وفي تلك اللحظة توقفت العربة.
طرق أحدهم الباب سريعاً، ثم انفتح ببطء ليتسلل منه نسيم بارد داعب خدّيها، لكنها لم تشعر بالبرد على الإطلاق، إذ في تلك اللحظة طبع رافاييل قبلة حارة عند جانب عينها، وكأنها دفقة عاطفة جياشة لم يقوَ على كبحها.
ظل هكذا لبرهة كمن استسلم لموجة مشاعر لا تُقاوم. ثم ما لبث أن ابتعد قليلاً، وخرج صوته العميق المبحوح يقول:
“وأنا أيضاً أشعر بالمثل.”
ارتسم انعكاس وجهها المبتسم واضحاً في زرقة عينيه الدافئتين.
***
كان المطعم يعمل بنظام الحجز المسبق، فما إن دخلا الغرفة الخاصة حتى بدأت الأطباق تُقدّم مباشرة.
أول ما جاء كان حساء الكركند في أوانٍ أنيقة أشبه بكؤوس الشاي.
‘كركند في الشمال؟’
إنه مكوّن نادر هنا، لذلك تناولته لويسا ببهجة ظاهرة.
راقبها رافاييل بعينين راضيتين وهي تتلذذ بالطعام، فارتسمت على شفتيه ابتسامة سعيدة.
كان يعلم منذ البداية أنها تحب الأطعمة الشهية، وخاصة اللحوم، لذا خشي أن الطعام البحري لا يعجبها. لكن تعابيرها المطمئنة جعلته يرتاح.
ولأن الوجبة لم تقتصر على المأكولات البحرية، فقد استمرت الأطباق تتوالى متنوعة. ومع كل طبق جديد، كان وجها لويسا يزداد تورداً بصفاء ورضا.
تبع فطيرة من سمك السلمون والكركند المفروم طبق من لحم الضأن المشوي بطريقة مثالية، حتى أن مذاقه أعجب رافاييل أيضاً.
قالت لويسا:
“يبدو أنّ هذا المطعم يديره شيف مشهور. كل طبق يخرج منه مختلف عن المعتاد.”
“صحيح، قيل إنّه كان يدير مطعماً كبيراً في مملكة أولفيا قبل أن ينتقل إلى هنا.”
“ولماذا جاء إلى هنا؟”
“يبدو أنّ هذا موطنه الأصلي، وعاد في آخر حياته ليعيش بهدوء ويدير المطعم. ومع مهاراته هذه، بالتأكيد سيجذب الكثير من الناس.”
هزّت لويسا رأسها موافقة، وابتسمت في داخلها بخفّة.
كان واضحاً أنّه قام بالتحري بدقة عن المطعم، رغم أنّها نفسها لم تكن تهتم لمثل هذه الأمور، وكان من السهل معرفة ذلك دون الحاجة للكثير من الملاحظات.
قال رافاييل:
“لقد طلبت تجهيز الحلويات مع الفواكه. سمعت من الدوق الصغير أنّك لا تميلين كثيراً للأطعمة الحلوة.”
ابتسمت لويسا وقالت:
“حقاً؟ كنت أظن أنّني أتناول كل شيء بلا تمييز…”
“لقد أخبروني أنّك تفضلين الحلويات التي تحتوي على الفواكه عند تقديم عدة أصناف.”
“أوه، لم أكن أعلم ذلك.”
تبين أنّ لها بعض التفضيلات الخاصة، وليس كل الحلويات على حد سواء.
وكانت هذه الملاحظة تتوافق مع ما لاحظته حين كان ديميان يشتري الحلويات بكميات كبيرة، فقد كان يتجنب الحلويات الشديدة الحلاوة أو الكريمة الثقيلة.
فكرّت لويسا بخفة:
‘لا أعرف الكثير عن ديميان… أشعر ببعض الأسف.’
غمضت عينيها ببطء، مستوعبةً اكتشافها الجديد لتفضيلاتها.
‘ورافاييل يبذل كل هذا الجهد… همم…’
بينما كانت تتناول قطعة من تارت الخوخ المسكر، التقت عيناها بعينيه اللتين ظلت تراقبها عن كثب.
قال مبتسماً:
“هل يناسب ذوقك؟”
ضحكت لويسا بخفّة وقالت:
“نعم، تماماً. يبدو أنّني اكتشفت تفضيلات جديدة لي لم أكن أعلم بها.”
“حسناً، آمل أن نكتشف المزيد من هذه التفضيلات مستقبلاً، معاً.”
“حينها أود أن أعرف تفضيلاتك أيضاً، ألا تحب أطعمة معينة؟”
ابتسم رافاييل وهو يحتضن يدها، وأجاب:
“أنا…”
استمر الحوار بينهما طويلاً، منغمسين في التعبير عن مشاعرهما دون الشعور بمرور الوقت.
وعند ذهابهما إلى المسرح، لم تفصلهما أيديهما طوال عرض المسرحية.
كانت المسرحية قصة حب بسيطة، ربما طفولية بعض الشيء، لكنها كانت ممتعة ومفهومة سبب شعبيتها.
ومع غروب الشمس، عاد الاثنان إلى قصر الدوق، وما إن وصلا حتى توجها ببطء إلى البيت الزجاجي لنزهة هادئة، دون أن يشعر أي منهما بالتعب.
قال رافاييل:
“عندما نعود إلى العاصمة، ما رأيك أن نذهب لمشاهدة أوبرا؟”
ابتسمت لويسا وقالت:
“جميل، لم أشاهد الأوبرا من قبل، وأتطلع لذلك بشوق.”
أجاب هو مبتسماً:
“وأنا كذلك.”
“صحيح، أنتَ مشغول دائماً، ربما لم تتح لك الفرصة لمشاهدتها.”
أجاب رافائيل:
“لم أشاهدها قط.”
“حقاً؟”
ابتسم رافاييل وأجاب بصوت دافئ مليء باللطف، وكأن الرياح الباردة لم تكن موجودة، بل نسيم ربيع خفيف يلفّهما معاً.
قالت لويسا:
“هذه أول مرة أشاهد فيها مسرحية أيضاً.”
أجاب رافاييل:
“كنت مشغولاً بمهام قائد الفرسان المقدسين، ولم أكن أهتم بالأوبرا أو الترفيه في الخارج، اعتقدت أنّ التدريب أهم من أي شيء.”
قالت لويسا:
“آه…”
رفع رافاييل يده التي كانت تمسك بيدها، وانحنى قليلاً ليضغط شفتيه برفق على يدها، مستمرّاً:
“معك، أي شيء سيكون ممتعاً، وأردت أن أجرب الكثير معك.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 131"