حتى في الوقت الذي كان فيه الأمير الثاني يُطرح كوليٍّ للعهد، كان هناك عدد غير قليل من الأسر النبيلة التي تغبط لويسا على خطبتها برافاييل.
فكيف الحال الآن، وقد صار رافاييل إمبراطورًا؟ إن عدد الأسر التي تطمع فيه لا يُحصى.
أما الرسائل القادمة من خارج البلاد، فيمكن القول إنها كلها لا تخرج عن كونها عروض زواج. وحتى النبلاء في الداخل، على علمهم بأن للإمبراطور خطيبة، لا يكفون عن التفكير في كيفية تقديم أبنائهم له في كل فرصة تسنح.
خصوصًا وأن من منظور النبلاء، هذه الفترة التي نزلت فيها أسرة بليك بأسرها إلى الشمال هي الوقت الأنسب لطرح مثل هذه الأحاديث علنًا؛ ولهذا بدا تهافتهم أشد وأسرع.
أخذ وجه رافاييل يتصلّب شيئًا فشيئًا، وكأن نافذة فُتحت فجأة ودخل منها برد قارص، فانكمش كتفا النبلاء واضطربت حركاتهم.
“يكفي.”
بصوت خفيض انقطعت كل الأصوات، وأطبق الجميع أفواههم دفعة واحدة.
“اعتبارًا من الآن، من يجرؤ على تكرار هذا الكلام مرة أخرى فسأعدّه تحديًا مباشرًا لي.”
“ج، جلالة الإمبراطور!”
“إن كنتم ترجون دمية يسهل استمالتها لتُشبعوا نزواتكم، فعليكم أن تؤملوا حياة أخرى غير هذه.”
“مستحيل! لا يمكن أن يخطر لنا مثل هذا. إنما قصدنا أن نكون عونًا للإمبراطورية ولو بالقليل…”
“إن رغبتم أن تكونوا عونًا، فهاتوا عملًا ملموسًا، لا أوهامًا. أنتم الذين لا تقدرون على طرح مقترح واحد مجدي، ومع ذلك تنشطون في مثل هذه الأمور التافهة.”
ألقى رافاييل بنظره على القاعة الباردة التي خيّم عليها الصمت فجأة. وبدت في عينيه الزرقاوين لمعة ازدراء وهو يحدّق في النبلاء الذين طأطأوا رؤوسهم عاجزين عن النظر في وجهه.
“تسك.”
نقرة قصيرة بلسانه جعلت النبلاء يكادون يحنون جباههم إلى الأرض. ثم أدار رافاييل لهم ظهره بملامح تنضح بالاشمئزاز.
ما إن انطفأت صراعات الفِرَق حتى امتلأ القصر بهؤلاء الضواري الجشعة، لا همّ لهم سوى مصالحهم.
قال في نفسه إنه عليه أن يصبر فقط هذا الأسبوع، فما هي إلا أيام قليلة وسيلتقي لويسا. ومتمسكًا بتلك الفكرة، أسرع في خطواته في أروقة القصر.
“مولاي الإمبراطور!”
وإذا به يصادف عند الدرج نائب قائد الفرسان المقدسين، الذي لم يمضِ وقت طويل على كونه معاونًا له: أندي وايت.
“أسرعتَ بالمجيء.”
“نعم. القائد قال إن بين يديه أعمالًا كثيرة، فأراد إنجازها بأقصى سرعة.”
“حسنة يالها من روح حسنة.”
“هاها…”
ارتبك أندي وأخذت عيناه تفقدان تركيزها.
فمنذ أن تولّى كايل ــ القائد الجديد ــ منصبه، وهو يغوص في العمل كسمكة عادت إلى الماء، حتى لم يعد لمن حوله وقت كافٍ للنوم. ومع ذلك يوصف هذا بأنه “روح حسنة”!
ندم أندي على ما تفوّه به، وابتسم بتكلف ووجهه شاحب.
“كيف تسير أعمال ترميم الكنيسة الكبرى؟”
“بسبب التدقيق في بقايا السحر الاسود تأخر العمل قليلًا. نتوقع أن يكتمل مطلع العام المقبل.”
“الأضمن هو الأفضل. وبما أنّ قداسته قد وافق، فلنُنجز الأمر برويّة.”
“مفهوم. آه، على ذكر ذلك، هناك رسالة أوصاني القائد أن أسلمها لك.”
أخرج أندي من جيبه الداخلي مظروفًا أبيض. عندها انقبض جبين رافاييل الوسيم.
“وصلت رسائل خطبة حتى إلى فرسان الكنيسة. ويبدو أن عدم تلقيهم ردًا من القصر جعلهم يرسلونها إلى جانبنا لعلها تنجح.”
“أحرِقها.”
“ألا يلزم الرد عليها؟”
“لقد رددنا بالرفض أكثر من مرة، ومع ذلك يتفننون في ذرائع جديدة ليواصلوا الإرسال.”
“آه… لا يُملّون أبدًا. سأتصرف بها حالًا.”
وبينما كان يعيد المظروف إلى جيبه على عجل، أردف أندي سريعًا:
“إذن فلا بد أن الآنسة لويسا أيضًا تعاني من هذه الرسائل. إذا كان الأمر يصل إلى هذا الحد مع جلالتك، فكيف بها هي! ربما كان ذهابها إلى الشمال في هذا الوقت تحديدًا أهون لها؛ فلو بقيت في العاصمة لكان الناس لم يكتفوا بالرسائل، بل حاولوا مقابلتها وجهًا لوجه.”
فجأة توقفت خطوات رافاييل.
‘لويسا أيضًا؟’
انعقد ما بين حاجبيه، وكأنه أُصيب في موضع لم يخطر له ببال.
كان أندي على حق. إذا كان الإمبراطور نفسه يُلاحَق بهذا الإصرار، فكيف بلويسا؟ لا شك أن إلحاحهم عليها سيكون أعنف.
صحيح أن كونها “خطيبة الإمبراطور” قد يردع بعض الداخل، لكن الخارج؟ لن يأبهوا البتة.
‘سيبررون وقاحتهم بالقول إن الإعلان الرسمي لم يُعلن بعد.’
يا للغباء! كيف لم يخطر له هذا من قبل؟ حتى لو لم تُبدِ لويسا انزعاجًا، كان ينبغي أن يتوقع أن عظَمتها ستجذب الأنظار إليها.
“…مولاي؟”
ارتجف أندي من شدّة البرودة التي انبعثت فجأة من رافاييل، وكأن رافاييل يوشك أن يفتك بأحد.
خشي أنه قد تفوّه بكلمة غير محسوبة، فأخذ يسترجع ما قاله قبل قليل، لكن ما إن التفت رافاييل بعنف حتى غشي البياض رأسه من الرعب.
غير أن رافاييل لم يلقِ له بالًا، بل صوب بصره نحو المساعد لا غير.
“قدّم كل الجداول.”
كأنما أعلن بحزم أن حياة المساعد نفسه ستقصر إن لم يُنجَز الأمر.
***
طق… طقاق.
ملأ صوت احتراق الأوراق الغرفة الهادئة.
كانت لويسا تلهو بتقليب الحطب في المدفأة بعود نار حين دخلت ماري وهي تدفع عربة صغيرة.
فغمزت لويسا بعينها في انزعاج.
“…جئتِ مرة أخرى؟”
“نعم. منذ قدمنا إلى الشمال تضاعف العدد كثيرًا. كأنهم لا يملّون.”
نظرت ماري بحرج إلى الرزم المكدّسة من رسائل الخطبة فوق العربة. كانت الرسائل تصلها حتى وهي في العاصمة، لكن لم تبلغ هذا الحد قط.
كميتها باتت من الضخامة بحيث يخطر للمرء أنه يمكن الاستغناء عن الحطب كليًا وإشعال المدفأة بهذه الرسائل طوال الشتاء وما زاد.
تنهدت لويسا مللًا، وألقت عود النار جانبًا. ثم ترنّحت قليلًا في كرسيها كأنها تستسلم، قبل أن تنتفض وقد بدا عليها الضيق الشديد.
“هذا لم يعد كافيًا لأستخدمه وحدي كوقود. أعطيها لرئيس الخدم وليتولى هو الأمر.”
كانت الرسائل في البداية مجرد خطابات غرامية متنكرة في ثوب المجاملة.
ولمّا لم تتجاوز الخمس، اعتادت أن تفتحها وتتفحصها ثم تلقي بها في النار، وكان منظرها وهي تحترق يمنحها شيئًا من السكينة، حتى صارت تفعل ذلك من حين لآخر عمدًا.
ثم خطر لها أن الإهمال هو ما يدفع الناس للاستمرار، فجربت أن ترد بالرفض.
لكن أصحاب الرسائل تمادوا أكثر، وألحوا في طلب زيارتها وجهًا لوجه. فآثرت في النهاية أن تتجاهل كل الرسائل دون استثناء.
ولم يقتصر الأمر على نبلاء كايسبيَر، بل حتى من خارج البلاد أخذت تصلها رسائل خطبة، فلا يمكنها إعلان رفض استلامها جميعًا دفعة واحدة. غير أنّ الكمية ازدادت أكثر بعد قدومها إلى الشمال حتى بلغت حدًّا لا يُطاق، فبدأ صبرها ينفد.
ولما كانت قد أعلنت رسميًّا أنها جاءت إلى الشمال رغبةً في قضاء فترة هدوء واستجمام، فقد وجد بعضهم في ذلك فرصة ذهبية ليتوهموا أن علاقتها برافاييل قد تباعدت، فأمعنوا في التقرّب منها.
ومع ذلك، فكم هو أمرٌ أحمق أن يُقدِم أحدهم على إرسال رسائل خطبة إلى خطيبة الإمبراطور الحالي دون ذرة خوف!
أهؤلاء الجهلة لم يدركوا بعد من هو الإمبراطور الراهن، أم أنهم ما زالوا يصدّقون بلا تفكير تلك الشائعات القديمة عن سوء علاقتهما، فيتشجّعون على هذا التصرّف الأرعن؟
ومهما يكن، فالمؤكد أن رافاييل كان ينبغي أن يقيم حفل تتويج ضخم.
فلو أُقيم، لحضرت بوصفها خطيبته، وكان ذلك سيكون فرصةً واضحة لتأكيد مكانتها أمام الجميع. لكنّ تكرار هذه المواقف المزعجة جعلها الآن تندم متأخرة على ما فات.
‘مع ذلك، كيف يمكن أن يفعلوا هذا بينما رافاييل يتردّد على قصر الدوق مرارًا، بل ويأتي حتى إلى الشمال؟’
هزّت لويسا رأسها بأسى، ثم اتجهت إلى سريرها.
كان الهواء في الغرفة قد ازداد دفئًا بسبب كثرة الأوراق التي ألقتها دفعة واحدة في الموقد.
رمقتها ماري بطرف عينها وهي تجرّ العربة خارج الغرفة بخطوات مترددة، ثم حولت نظرها نحو النافذة.
كان الأفق قد تلون بلون الغروب، يختلط فيه البرتقالي بالأرجواني.
‘……يبدو أنني لست من طينة من يقضي حياته في الراحة والكسل.’
فهي لا تعرف كيف تترفق بنفسها أو تُمضي وقتًا ببطء، بل لا تكفّ عن التذمر من الأعباء، بينما في حقيقتها تسارع إلى إنهاء العمل لتتفرغ للراحة.
حتى الدوق بليك حاول مرارًا إقناعها بأن تتمهّل، لكنها كانت تتحرك بنشاط يشبه هروب المطارد، فتضاعف عدد الوحوش التي طهّرتها، بل وصارت تجوب الحدود بنفسها باندفاع.
صحيح أن شوقها للعودة إلى العاصمة قبل نهاية العام من أجل رافاييل كان سببًا في استعجالها، لكن……
‘والآن وقد تذكرت، عليّ أن أفكّر أيضًا في هدية عيد ميلاده.’
******
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 128"