اقترب وجهه قليلًا، ومدّ يده الحرة ليمسّد برفق خصلات شعرها البني التي انسدلت تحت القلنسوة.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يحاول فيها التقرّب منها كلما سنحت الفرصة، ومع ذلك لم تعتد لويسا الأمر بعد.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة متكلفة وهي تحاول أن تمسك يده بخفة.
لكن في تلك اللحظة، صدح صوت ماري من خلفهما بنبرة متوترة جذبت انتباههما:
“آنستي! من الشمال……!”
توقّف الاثنان معًا واستدارا، فإذا بماري تقترب نحوهما راكضة بسرعة مدهشة.
كانت تلهث بشدة من شدة العجلة، حتى إن يد لويسا التي تربّت على كتفها لتطلب منها أن تهدأ وتتروّى في أنفاسها توقفت فجأة حين سمعت ما قالت:
“لقد طلبوا دعمًا من الشمال!”
“دعمًا؟ فجأة؟ ومن مَن؟”
“منكِ أنتِ يا آنستي.”
تبادل رافاييل ولويسا النظرات بدهشة، فيما رمشت لويسا متعجبة، ثم عادت لتواجه ماري بسؤال خافت:
“……أنا؟”
***
ما إن دخلت لويسا غرفة الاستقبال حتى انحنى المرسل القادم على عجل من الشمال وبدأ تقريره مباشرة:
“رسالة من الدوق بليك. لقد رُصدت عند الحدود وحوش آخذة في التطهّر بطاقة مقدسة غامضة، ويتساءل إن كان يليق أن تتحققّي من الأمر بنفسك.”
“تتطهّر؟! في مثل هذه الحالة، أليس من المفترض أن يستدعيني مباشرة بدلًا من السؤال؟ ماذا لو رفضتُ؟”
“قال أيضًا إنه إن لم ترغبي فلا بأس، فالوضع ليس خطيرًا لدرجة تستدعي حضورك، ويمكن التصرّف فيها والتخلص منها إن لم يكن لديك اهتمام.”
أمالت لويسا رأسها قليلًا وأخذت تحك خدّها بسبّابتها، وقد بدا أنها فهمت مقصده. لم يكن المرسل يتكلم إلا بصدق.
فالدوق ـ أباها ـ لا يمكنه التغاضي عن أمر كهذا بسبب مكانته، لذلك أخبرها بما يجري بصراحة، لكنّه في الوقت نفسه ترك لها حرية الاختيار، ولو رفضت لما راودته أي شبهة تجاهها، بل لأكمل مهامه بصمت.
‘يبدو أنه يخشى أن يُظن أنّه يستغل قوتي…’
زفرت تنهيدة صغيرة أمام حذر والدها المفرط.
أليس من الطبيعي أن يطلب المرء عونًا من أسرته؟
رفعت كتفيها قليلًا والتفتت إلى رافاييل:
“يبدو أنّ عليّ البقاء في الشمال فترة.”
“……هكذا هو الأرجح.”
كانت منذ قليل تفكر أصلًا بالذهاب، فإذا بالظرف يأتي متوافقًا تمامًا مع تفكيرها. بدا لها الأمر مناسبًا.
“سأعود سريعًا. على الأكثر منتصف الشهر المقبل.”
“لا بأس. المهم ألا تُرهقي نفسك. وإذا اشتقتُ إليك، فسأذهب أنا إليك.”
رغم صوته الهادئ، لم يخفِ بريق عينَيه الزرقاوين أسفه على البعد.
“ماذا؟ أتفكر بالذهاب إلى الشمال بنفسك؟”
“هناك بوابة سحرية، أليس كذلك؟”
“لكن المسافة لا تخلو من التنقل بالخيول… وأنت مشغول بما فيه الكفاية. أليس من المبالغة أن تأتي إلى هناك؟”
“……هل يثقل ذلك عليك؟”
“لا يُثقل، بل يؤنبني ضميري.”
قالتها وهي تعقد حاجبيها، فقبض رافاييل بلطف على يديها معًا، يخفي قلقه خلف ابتسامة حانية، كأنه يخشى أن تتخذ شعورها هذا ذريعة لتبتعد عنه.
“لا محلّ للاعتذار. الأمر طبيعي.”
“طبيعي أيضًا؟!”
“أليس طبيعيًا أن أرغب برؤيتك كثيرًا؟ وكلما ازداد الشوق ازداد الحرص على اللقاء؟ ثم إن الذي ينبغي عليه السفر هو الشخص الذي يسهل عليه القيام به.”
“لكن أليست سهولة الحركة من نصيبي أنا؟ حتى لو كنت متواجدة بالشمال، فلن أكون مشغولة كجلالتك، إمبراطورًا على الإمبراطورية بأسرها.”
“السهولة يقصد بها الجسد الصحيح والقوة. من يملكهما يمكنه أن يجد الوقت دومًا.”
‘هل الأمر فعلًا هكذا؟’
تساءلت في نفسها، وكلما استرسلا بالكلام شعرت وكأنها تنقاد إلى منطقه شيئًا فشيئًا.
صحيح أنّ صحتها استعادت عافيتها، لكنها ليست بقوة فارس مقدّس مثله.
أومأت ببطء، ثم رفعت يديه المقبوضتين نحوها لتقبّل أصابعه بخفة قبل أن ترفع بصرها إليه.
“……إذن، سأكون في انتظارك.”
غامت عيناه قليلًا، وبدت زرقة بؤبؤيه التي كانت صافية كالماء وقد اعتراها بريق غامض.
وفجأة، دوّى صوت المرسل وهو يغادر مسرعًا الغرفة، لكن رافاييل لم يُلقِ له بالًا، بل أخذ ينحني أكثر، مضيّقًا المسافة بينه وبينها.
‘ها قد حان ما لا مفر منه…’
أغمضت عينيها بهدوء، ثم شعرت بلمسة شفتيه الدافئتين على شفتيها، تهز قلبها وتغمرها بموجة من الدفء.
وكما في كل مرة، لم يقتصر أثره على جسدها، بل وصل إلى قلبها، ليغدو يومها أكثر دفئًا بحضوره.
***
واجهت لويسا الريح التي صفعت وجهها بقوة وهي تلعب بردائها المرفرف، فأغمضت عينيها بإحكام. وأخذت تفكر: ما الذي منحها تلك الثقة حتى قررت أن تقيم فترةً في الشمال؟
فمناخ الشمال لا يُقارن بالعاصمة؛ برده ينفذ إلى العظم ويظل جاثمًا في كل الأرجاء.
قال ديميان القابع بجوارها ملازمًا إياها بلا حراك:
“لويسا، لِتَستريحي قليلًا.”
“……لم يمضِ على قدومنا إلى هنا حتى خمس دقائق.”
رمقته لويسا بنظرةٍ حائرة. فمنذ أن وطئت قدماها أرض الشمال لم يكف عن القلق عليها، حتى صار حنانه أشبه بالوصاية المفرطة. لكنها وجدت مبالغًا فيه أن يطلب منها الراحة بعد خمس دقائق فقط من الوصول، وقبل أن تبدأ فعلًا بالعمل.
ابتسمت بخفة وقالت مازحة:
“لو كنت رئيسي في العمل لكان الأمر رائعًا.”
“آه؟ ما هذا الكلام فجأة؟ ولمَ تعملين أصلًا؟ … حسنًا، أعلم أنكِ جئتِ إلى هنا في مهمة، لكني لا أزال أستغرب كلامك.”
“قلت ذلك فحسب. لأنك تعتني بي جيدًا.”
فأطرق برهة وقال بأسى:
“عناية؟ أي عناية هذه؟ أنا الأخ العاجز الذي لم يستطع تدبير أمره وحده، فانتهى به المطاف يطلب العون من أخته الصغرى.”
ضحكت لويسا باستخفاف، ثم شدّت رداءها السميك أكثر حول جسدها.
أما الدوق بليك فظل واقفًا عند خط الحدود يراقب المكان بصمت، من غير أن يُلحَّ بكلمة عن موعد البدء، مكتفيًا بترتيب الأوضاع حوله.
وكانت لويسا قد حدثت نفسها أن تستغل وجودها هنا لتلقي نظرة على نبيذ الشمال، لكنّها أيقنت أن الانشغال بمتابعة الوضع سيجعل يومها مكتظًا بما يكفي دون ذلك.
مدّ ديميان كفه نحوها عفويًّا، فوضعت يدها فوق يده. ولشدّة قبضته التي منحتها ثباتًا، اطمأن قلبها المضطرب من وطأة الجو الغريب.
ثم أخذت تشق طريقها ببطء نحو خط الحدود، تنفث أنفاسها التي تتكاثف كالبخار الأبيض مع كل زفير وكأن الشتاء قد حلّ باكرًا.
قالت بهدوء:
“أهذا هو الكائن؟”
“نعم، فمنذ ذلك اليوم وهو لا يبرح هذا المكان.”
تأملت لويسا من وراء البوابة الحديدية الضخمة مخلوقًا غريبًا، يلفّه السواد وتغشاه طاقة شيطانية كثيفة، لكن طرف ذراعه اليمنى كان مكسوًّا بفراءٍ بنيّ غريب.
لقد غُلّفت الأبواب والبوابات منذ فترة بطبقات غزيرة من الطاقات المقدسة التي بثّتها لويسا بوفرة، حتى غدت الأسوار مشبعة بها كما لو كانت مغطاة بالجصّ. ونتيجة لذلك قلّت الوحوش التي تجرؤ على الاقتراب، لكن هذا المخلوق تحديدًا ظل يلتصق بالبوابة كأنه ينجذب إليها.
‘عجيب… لقد تلاشى نصف السواد من حوله فعلًا.’
ضيّقت لويسا عينيها مسترجعة ما أخبرها به والدها في الأمس.
صحيح أنّها قضت على الشياطين، لكن الشرّ لم يُمحَ من هذا العالم تمامًا. فما زالت وحوش أخرى تقبع خلف الحدود لم تُطهِر بعد، لذا ظل الدوق بليك يحرس المكان ويعيش ذات الروتين بلا انقطاع.
إلّا أنّ عملها جعل القوى المقدسة أكثر وفرة وقوة من أي وقت مضى، مما سهّل مهمة حراسة الحدود بشكل ملحوظ.
***
“لقد تَطهّر وحش.”
غير أنّ حدثًا غير مسبوق وقع أمام عينيه.
فمنذ مدة، كان أحد الوحوش قد هاجم السياج، ثم راح يلتهم الطاقات المقدسة بنهم، ليتبدد السواد من جزءٍ من جسده شيئًا فشيئًا.
ولم يحدث من قبل أن تَطهّر وحش بفضل القوة المقدسة، بل كان مصيره دومًا الفناء بها. ولذلك لم يكن ممكنًا تجاهل الأمر.
فقد واصل تزويده بالقوة المقدسة كلما اقترب، فيعود الوحش قليلًا إلى صفائه، لكنه لا يلبث أن يعود إلى الفساد. وبعد تكرار هذه المحاولة مرات عديدة، غدا طرف ذراعه الأيمن هو الجزء الوحيد الذي يبقى خاليًا من السواد لفترة أطول، لكنه يعود كما كان مع انقضاء النهار.
ولذا خطر بباله سؤال: هل ستظهر النتيجة نفسها لو تولّت هي بنفسها عملية التطهير؟ ومن هنا كانت استدعاؤها أشبه بدعوة اضطرارية.
قالت لويسا وهي تحدّق في الكائن:
“همم… حقًا، إنه يختلف عن باقي الوحوش.”
فالطاقة المظلمة حوله بدت أضعف بكثير. وبينما كانت تراقبه بصمت، نزعت زهرة مقدسة معلقة على البوابة، ثم أخذت تملؤها برويّة بنورٍ مقدّس.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 123"