كانت تتابع ورقةَ قيقبٍ متعبة تتدلّى في مهب الريح قبل أن ترتطم بخفّة بزجاج النافذة وتهوي إلى الأرض، ثم أمالت رأسها جانبًا.
“إلى الشمال؟”
ماري التي كانت تضع فنجان الشاي بحذر على الطاولة البيضاء ذات الحواف الذهبية إلى جوارها، رفعت رأسها في اللحظة نفسها نحو لويسا.
“نعم. لا يبدو أنّ هذه الفوضى ستُحسم قريبًا… أظن أن قضاء بعض الوقت في الشمال سيكون أفضل.”
أغلقت لويسا النافذة التي كانت مواربة، ثم اتجهت إلى الطاولة.
طَق… طقطقة الحطب وهي يحترق ملأت الغرفة في هدوء. ورغم أن المدفأة بقيت مشتعلة طوال النهار، فقد تسلّل البرد إلى الأجواء.
لم يكن الخريف قد أوشك على الرحيل بعد، غير أنّ نسيم الشتاء بدأ يتسلل، حتى صار من العسير احتمال البقاء طويلًا في الهواء الطلق.
“الشتاء على الأبواب… والشمال أشدّ بردًا من هنا. هل ستحتملينه؟”
كان من الطبيعي أن تستغرب ماري؛ إذ إن لويسا وهي كثيرة التأثر بالبرد أصلًا، تريد الذهاب في هذا التوقيت إلى أبرد مناطق الإمبراطورية.
“سأكون في القصر على أي حال، فلا بأس.”
“صحيح، ولكن…”
اقتضبت ماري موافقتها، فهي تدرك أنّ آنستها قد هجرت حتى تلك النزهات الصغيرة التي كانت تُسعدها من حين إلى آخر.
لم يكن السبب في طبعها المتحفظ أو كراهيتها للإزعاج وحسب، بل أيضًا في أولئك الذين يُثقلون عليها بالتقرّب منها بلقب القديسة، وهو ما ضاق به صدرها أكثر من أي شيء آخر.
“لكن ألن يصعب عليك لقاء جلالته أكثر من ذي قبل؟”
سألت ماري بوجه يملؤه القلق.
“……بلى. هذا ما يجعلني مترددة.”
قالتها لويسا وهي ترفع الفنجان إلى شفتيها، حاجباها ينقبضان قليلًا، وزفرات طويلة تتردد بين أن تكون تنهدًا أو نفخًا لتبريد الشاي.
في الحقيقة، لولا رافاييل لكانت قد حزمت أمرها ورحلت منذ زمن.
لكنها كانت تعلم أنّه رغم انشغاله الدائم بشؤون القصر، يجد وقتًا ليزورها، ولهذا لم تستطع اتخاذ القرار بسهولة.
بل إنه في لقائهما معها كان صادقًا إلى حد الإلحاح، على خلافها التي كانت تفضّل اللقاءات داخلية بعيدًا عن أعين الناس، بينما هو كان يُلمح مرارًا إلى رغبته بالخروج معها في نزهات علنية.
‘إمبراطور ويخرج هكذا؟! كيف يمكن لذلك البهاء أن يخفى؟’
قالت في سرّها وهي تسند ذقنها بكفها وتنظر عبر النافذة.
في مرمى بصرها ظهرت عربة مألوفة تدخل باحة قصر بليك.
‘……ومع ذلك، لا أنكر أنني أفرح حين أراه.’
انعطفت عيناها وهي تتابع رافاييل ينزل من العربة البيضاء. ورغم تذمرها بالقول، إلا أن ابتسامة لا إرادية ارتسمت على شفتيها، الأمر الذي جعل ماري تكتم ضحكتها.
فقد أيقنت أن المسافة بينهما ستكون صعبة على الطرفين معًا، لا على رافاييل وحده.
***
‘هذا أشبه بالدب حقًا.’
قالتها لويسا في نفسها وهي تتأمل هيئتها.
كل ما في الأمر أنّها ستتمشى قليلًا في حديقة القصر الأمامية، لكنها كانت ترتدي وكأنها متوجهة إلى خطوط الشمال الأمامية.
لفّت جسدها كله برداء ثقيل من الفرو الفاخر، وأسدلَت قلنسوته حتى كادت تحجب بصرها، فشعرت بالاختناق.
ومع ذلك لم يرضَ رافاييل، فاستبدل قفازيها بآخرين أثخن، ثم لفّ حول عنقها وشاحًا طويلًا حتى غطّى فمها وأنفها.
“……رافاييل.”
“نعم لويسا. ما رأيك؟ هل أجلب ما هو أثخن؟”
“لا أستطيع الحراك أصلًا.”
كان صوتها مكتومًا من خلف الوشاح.
رمش رافاييل بعينيه عند سماع همسها.
“أكاد أختنق وأسقط.”
“آه… هل يضايقك كثيرًا؟ الجو بارد والريح شديدة اليوم. هل أضمك إذن؟”
“وهل تسمّى تلك نزهة؟”
“يمكننا التنزه داخل الدفيئة إذن.”
‘كأن ذلك سيجدي؟’
تمتمت في سرها وهزّت رأسها.
منذ أن اعترف لها بمشاعره تغيّر تصرفه وصار أكثر جرأة، وهو ما أعجبها وأربكها في آن واحد، غير أنّه أحيانًا يبالغ إلى حد يرهقها.
مدّت يديها لتمنعه حين همّ باحتضانها، ثم بخفة أبعدت إحداهما، وبالأخرى نزعت الوشاح قليلًا عن وجهها.
“هُوَاه… صحيح أنني أبرد بسهولة، لكن ليس إلى هذا الحد.”
“سأضع ذلك في الحسبان.”
“ثم إنني أفضل الآن أن تمسك بيدي بدلًا من أن تحملني.”
وبينما كانت ما تزال قابضة على يده، انزلقت أصابعها حتى تشابكت مع أصابعه.
ابتسمت وهي تنظر إلى يدها الضائعة نصفها في كفّه الكبيرة.
رفع رافاييل يدهما الممسكتين وقبّل أصابعها برفق، وعيناه الزقاوان الهادئان تلمعان تحت رموشه الطويلة وهو يحدّق فيها.
“إذن، متى تأذنين لي بالعناق؟”
“ذلك… بحسب الأجواء؟”
ارتسمت ابتسامة عذبة على شفتي رافاييل، غير قادر على كتمان ضحكته أمام لهجتها اللطيفة التي ختمت بها كلامها.
ضحك بفرح وكأنه لم يتوقع منها مثل هذه البراءة، وكأن كل ما فيها جديد يُسحره، ثم بدافعٍ من عاطفة جامحة قبض على وجنتيها وقبّل جبينها بعمق.
وما لبث أن أزاح القلنسوة التي كان قد وضعها بإتقان، إذ بدت له مزعجة، فانسكب شعرها البني الفاتح بعبيره العذب، فانهال عليه يقبّله بنهم.
كانت لويسا وحدها في ارتباك من هذا السيل العفوي من الحنان.
فمنذ ذلك اليوم في الحديقة المليئة بالزهور البنفسجية حين اعترف لها بحبه، بدا وكأنه تحرر من قيودٍ خفية، فلم يعد يخفي مشاعره عنها أبدًا.
كماءٍ يغلي على مهل، راحت مشاعره تزداد حرارة حتى صارت تعصف بها بلا هوادة، ومعها لم تعرف لويسا سوى رمش العين والارتباك في كل مرة.
وأخيرًا، حين ابتعد قليلًا، نظر إليها بهدوء.
لم يعد في عينيه أثرٌ لتلك الصرامة والبرود اللذين كانا يميّزانه في الماضي، بل لم يَعُد يراها سوى هي وحدها.
ثم طبع قبلة قصيرة على جبينها قبل أن يعيد إليها القلنسوة ويقول بصوت هادئ:
“أنوي إقامة مهرجان قبل نهاية العام.”
كانت نبرته حانية إلى درجةٍ لا تُصدَّق، حتى كأن ما جرى قبل فترة قصيرة من ظهور الشياطين واضطراب العالم مجرد وهم بعيد.
لويسا وقد احمرّ خدها قليلًا، رفعت يداً لتغطيه ثم أدارت جسدها بخفة، تمشي في الممر بهدوء، وهو بدوره أسرع ليمسك يدها من جديد.
“آه، هكذا إذن؟ حقًا، ربّما كان من الأفضل أن تُجدّد الأجواء قليلًا.”
فبعد أن هاجمت الوحوش العاصمة، بل حتى سقطت الكنيسة التي كان الناس يضعون فيها أملهم، لم تهدأ مخاوف الشعب.
وكان صعود رافاييل إلى العرش، بصفته الفارس المقدس الذي يحظى باحترامهم، هو العزاء الوحيد نسبيًا، لكن انقلاب السلطة المفاجئ لم يكن أمرًا يتقبله الجميع بسهولة.
‘لكن… أليس رأس السنة يوافق عيد ميلاده؟’
فمنذ أن اتفقا على لقاء جاد بينهما، أول ما قامت به لويسا هو محاولة معرفة المزيد عنه: ما يحبه، ما يثير اهتمامه، ومتى وُلد.
غير أنّه بدا بلا شغفٍ سوى بالآثار القديمة، أمّا تاريخ ميلاده فقد استقصته من خلال بعض العاملين في القصر.
‘إذن عيد ميلاده في أواخر ديسمبر… قد يتزامن مع المهرجان.’
أومأت برأسها في سرّها. وأخذت تفكّر أنها قد تدعوه بنفسها للخروج في يوم المهرجان، وهناك تُهديه ما حضّرته. فارتسم على محياها شوقٌ مبكر إلى نهاية العام.
“نعم. وسنرفع أيضًا قيود الدخول على الأجانب، فسيزداد الازدحام.”
“حتى الأجانب؟ يا إلهي… سيغصّ المكان بالبشر…”
تنهّدت وهي تكاد تشعر بالتعب لمجرد تخيّل المشهد.
“ذلك يعني أنّكِ لن ترغبي في الخروج، صحيح؟ أعلم أنك لا تحبين الازدحام.”
كان رافاييل متيقّنًا من ردّها، فترددت للحظة قبل أن تجيب سريعًا:
“آه… أجل! لا أكره مشاهدة المهرجانات، لكن أفضل أن أتجنب الزحام بعض الوقت.”
“أتفهّم ذلك. إذن سأبحث عن مكان هادئ نقضي فيه الوقت معًا.”
أرسلت له نظرة امتنان وهي تهز يده برفق. فأمال رأسه قليلًا نحوها، وعلى وجهه ابتسامة دافئة وهو يرمقها.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 122"