“لم أزرع الكثير أصلًا، بل بضع زهور فقط، لكنّها تكاثرت على هذا النحو. عندما جرّبتُ زراعتها في الحديقة من قبل، بدا أثرها نافعًا، فقررتُ غرسها في أرض أوسع قليلًا. ويبدو أن قوّتي المقدسة تساعد في تكاثرها.”
“…لويسا.”
“نعم؟”
“إياكِ أن تُجهدي نفسك.”
اتسعت عيناها في دهشة وهي تلتقط النظرة البنفسجية المغمورة بدفء القلق.
“ليس عليكِ أن تضحي بنفسك. إن لم ترغبي، فلا تفعلي. إن أردتِ العودة إلى الشمال، فافعلي، بل وإن شئتِ الرحيل إلى بلد آخر، يمكننا أن ننطلق حالًا.”
مدّ الدوق بليك يده بحذر، وكأنّه لا يجرؤ أن يلمسها بالكامل، فاكتفى بظهر سبابته ليزيح خصلتها الأمامية قليلًا، ثم مرّر أصبعه على حاجبها برفق.
رمشت لويسا بعينيها في شرود، ثم خفضت بصرها ببطء. وما زالت تشعر بلمسة يده فوق حاجبها.
كان هو الرجل الذي وقف دومًا في الصفوف الأولى مدافعًا عن الشمال متحملًا أصعب المهام.
قد يبدو جافيًا قليل الكلام، لكنّه لم يكن خاليًا من المشاعر. وما عرفته عنه خلال تلك الفترة أنه رجل يحب الشمال بصدق.
فكيف له الآن أن يقول لها أن تترك كل شيء وتغادر؟! كانت كلماته صادمة لدرجة أنها لم تعرف ما تجيبه به للحظة.
“…ليست لديّ نية للتضحية. صحيح أنّني تورطت في هذا الأمر من دون قصد، لكنني أفعل ما أراه ممكنًا. وإن شعرتُ بالخوف، سأهرب فورًا.”
كانت تحمل في قلبها رغبة خفيّة في أن يبقى من تعرفهم بأمان، لكنها لم تذكر ذلك بصوت مرتفع. واكتفت بابتسامة محرجة وهي تمسك بيد الدوق.
“لكن أبي، لا تُرهق نفسك أكثر من اللازم. أنا أقوى بكثير مما تتصور! آه، هذا ليس وقت المزاح… لِمَ لا نبدأ بالحديث عن كيفية استخدام هذه الزهور المقدسة؟”
فتح الدوق فمه كأنه يريد قول شيء، لكن لويسا بادرت بمواصلة الحديث متعمدةً.
فلو سمعت منه مزيدًا من الكلمات العاطفية الآن، فربما تتزعزع عزيمتها التي ثبتتها بصعوبة.
ثم التفتت بعينيها نحو ديميان الذي كان يراقب الموقف بصمت، فتبادلت معه نظرة سريعة، وأمسكت بالزهور المقدسة بين يديها.
“علينا أن نستعد بسرعة.”
وفي الحال، غمر جسدها ذلك الإحساس المألوف، إذ أحاطتها الطاقة المقدسة من كل جانب.
***
أما قاعة الكنيسة الكبرى التي كانت يومًا ما غارقة في العظمة والقدسية، فقد غدت خرابًا بائسًا لا يختلف عن الجدار الذي دكّه ساينف قبل قليل.
لقد غشيتها فجأة قوة شيطانية مظلمة، فأخذت وجوه الفرسان المقدسين تتصلب من شدة التوتر.
وما يكفي أن ينظر المرء إلى الجدران المتداعية وحتى السقف المثقوب ليدرك مدى ضراوة المعركة بين رافاييل وساينف.
أما الكهنة الذين كانوا في الداخل، فقد اجتمعوا في ناحية واحدة بوجوه يعلوها القلق والاضطراب.
‘ربما كان من الأفضل لهم مغادرة الكنيسة…’
فما داموا ليسوا من كهنة الشفاء، فلن يكون لهم نفع كبير في هذه المواجهة سوى الفرسان.
ومع ذلك، فقد ظلوا في أماكنهم، يخشون ويرتجفون، لكنهم حاولوا إخفاء خوفهم وهم يرفعون أبصارهم نحو الشمس الطالعة، كأنّ القدر يفرض عليهم البقاء حتى النهاية.
“هل نُقِل الكاردينال بسلام؟”
“نعم. كان فاقدًا لوعيه تقريبًا، لذا استطعنا نقله من دون صعوبة.”
أجاب آندي وهو يقف بجوار لويسا كحارس وفيّ، ثم أومأ برأسه.
وبفضل تعليمات لويسا، أُجلِيَ الكاردينال بسرعة وأمان، من دون مشاكل مع باقي الكهنة.
لقد كان آندي شديد القلق على وجوده وسط هذه المعركة الطاحنة، وها هو ينظر إلى لويسا بعيون متألقة بالإعجاب والامتنان.
“الحمد لله… من الأفضل أنه لم يرَ هذا المشهد.”
ففي حالته الواهنة، لو أبصر ما حلّ بالقاعة، لربما سقط صريعًا مجددًا.
حدّقت لويسا متفحصةً من حولها ببرود، ثم أوقفت بصرها عند الأفق الغربي.
لم يكن هناك سوى فراغٍ يكتسي بلون الغروب البرتقالي، غير أنها راحت تضيق عينيها ببطء، كما لو أنها ترى ما لا يراه غيرها.
“…لقد جاء.”
تمتمت بصوت خافت، فتوسعت عينا آندي رعبًا، وسرعان ما أشار لجنوده من خلفه، بينما قبضت يده الأخرى على مقبض سيفه بحذر.
وفجأةً، تلألأ ضوء، وإذا بشيء يقترب بسرعة من في لويسا يتبعه إعصار هائل اجتاح المكان.
“أكنتِ تنتظرينني؟”
قالها الكيان وهو يطفو في السماء، مبتسمًا ابتسامة صبيانية غريبة على ملامحه التي لا تزال ترتدي قشرة ساينف.
تلألأت عينا ساينف بوهجٍ أحمر تحت أشعة الغروب، وتنضح منهما قسوة مقيتة.
“صحيح. لقد افتقدتكِ أنا أيضًا… لدرجة أنني أرغب بقتلك حالًا.”
ضاقت عينا لويسا قليلًا وهي تلتقط نظرةً تحمل من القذارة واللزوجة ما يثير الاشمئزاز. كان ذاك البريق الممزوج بابتسامة لا تختلف عن ابتسامة الإمبراطورة، متألقة كزهرة ورد في عزّ النهار.
لم يكن ظهور ساينف مجددًا مفاجئًا لها؛ فقد كانت شبه متأكدة من أنه سيعود إلى الكنيسة الكبرى.
‘كنتُ أظن أنه قد لا يفعل… لكن يبدو أنه لم يكن يملك خيارًا آخر.’
فحتى لو لجأ إلى قتل الناس في الخارج لاستخدامهم كقربان، فإن الضجيج الهائل الذي سيُحدثه سيجعل رافاييل يصل إليه بسرعة، وكان ذلك أمرًا بديهيًا.
صحيح أنّه استعاد بعض قوته بقتل الإمبراطورة والسحرة السود، لكنه لم يتمكّن بعد من إتمام الطقس بشكل كامل، لذلك كانت قوته لا تزال ناقصة.
‘لا بد أنّه وجد القتال مع رافاييل مرهقًا جدًّا. فليس فقط قوة رافاييل بحد ذاتها، بل إن السيف الذي كان يحمله مغمور أيضًا بقوة مقدسة هائلة.’
وبهذا الضعف، فإن مواجهة رافاييل ولويسا معًا ستكون مخاطرة لا يرغب بها ساينف.
لهذا كانت لويسا على يقين من أنّه سيختار مهاجمتها حين تكون وحدها، لكونها الأضعف من الناحية الجسدية، والأيسر له في المواجهة.
هبط ساينف ببطء، وغرس قدميه في الأرض غير بعيد عنها. فتشنّجت أعصاب الجميع وهم يترقبون، مستعدين للاندفاع في أية لحظة.
ابتسم باستهزاء وقال:
“مسترخية للغاية… أتظنين أنّ هؤلاء سيحمونك؟”
فأجابته بهدوء:
“…ولماذا يجب أن يحميني الآخرون؟”
ضحك باستخفاف:
“هاه، وهل تظنين أن القوة التي منحك إياها الإله تكفي لهزيمتي؟ في النهاية، كل ما تفعلينه هو نثر تلك الطاقة المقدسة لا أكثر.”
قالت بثقة:
“لكنّ تلك الطاقة المقدسة التي أبعثرها هي ما يُؤلمك، أليس كذلك؟”
أمال ساينف رأسه جانبًا، وعيناه ما زالتا شاخصتين عليها، ليتلاشى ما كان فيهما من عبث.
“ممتع… إن متِّ، فسأتحرر تحررًا كاملًا. حسنًا، جربي ما لديكِ. ففي النهاية، لن تكوني إلا لعنة على البشر.”
ابتسم ابتسامة ملتوية، وخطا خطوة نحوها.
وفي لحظة، اندفع الفرسان ومعهم ظهر ظهران عريضتان سدتّا مجال رؤيتها.
لقد كانا الدوق بليك وديميان، اللذان كانا من المفترض أن يبقيا خلفها، لكنهما انطلقا بسرعة مدهشة نحو المقدمة. فتلعثمت لويسا بدهشة:
“قلتُ لكما أن تبقيا ورائي…”
فأجابها الدوق بصوت جازم:
“كيف لي أن أبقى خلفك متفرجًا؟”
وأضاف ديميان:
“لويسا، قومي بما يجب عليكِ فعله. نحن سنتكفل بحمايتك هنا.”
وبانسجام كامل، اندفعا مع بقية الفرسان نحو ساينف. فارتفع ساينف مجددًا في الهواء، ثم مسحهم بنظرة متعجرفة وارتسمت على وجهه ابتسامة متغطرسة.
رفع يده اليمنى فاشتعلت نار هائلة فيها، بينما تجمع في يده الأخرى كتلة دائرية كثيفة من دخان أسود.
“كم هو مناسب… أن تقدّموا أنفسكم قربانًا.”
ثم قذف النار والكتلة السوداء بسرعة مذهلة نحو الأرض.
“آه…!”
رفعت لويسا ذراعيها على عجل، فانتشرت طاقة مقدسة شكّلت حاجزًا شفافًا يحيط بالناس ويحميهم. غير أنّ ساينف استغل اللحظة لينقضّ نحوها مباشرة.
دوّى انفجار، إذ تصدّى له الدوق بليك وديميان معًا، مشاغلين إياه.
لكن تلك الضربة لم تكن سوى إبطاءٍ لحركته، بلا نتيجة تُذكر.
فالسيوف لم تصل إلى جسده، ومع كل لحظة كان وجها الدوق وديميان يزدادان تصلبًا.
راقبت لويسا القتال للحظة، وحين تلاشت النيران والكتلة السابقة، خفضت يديها. غير أنّ ساينف أعاد تكوين كتلة دخانية أخرى بسرعة.
دوّى انفجار جديد، وهذه المرّة حدّق الجميع برعب وقد اتسعت أعينهم، إذ اندفعت الكتلة السوداء أعنف من ذي قبل نحو الدوق بليك وديميان من غير أن تترك لهما فرصة للمراوغة، وغطتهما بلا رحمة.
صرخت لويسا في فزع:
“أبي! أخي!”
لكنها في اللحظة نفسها فجّرت طاقتها المقدسة لتتدفق عليهم أمواج من النور لتزيل عنهم أثر الظلام.
وحين رأت أنهما لوّحا بيديهما مطمئنين إلى سلامتهما، زفرت بارتياح وأغمضت عينيها للحظة قبل أن تفتحهما بحدة.
كان ساينف يبتسم بثقة وهو يغمر المكان بقوته، لكن وجهه ما لبث أن تَشقّق فيه الغضب حين بدأت قوته تتآكل تحت وطأة النور المقدس المنتشر من حولها.
قالت لويسا بصرامة، وصوتها يقطر عزيمة:
“آن أوان إنهاء الأمر.”
فارتفعت الزهور المقدسة التي نشرتها في أنحاء الكنيسة إلى السماء، وانعكست في عينيها المتوهجتين بلون ذهبي ساطع.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 119"