لست مصابة بمرض عضال! [ 116 ]
كانت الهمسات المتبادلة بينهم تزداد شيئًا فشيئًا، وإذا بآندي يقترب وهو يحدّق في لويسا بعينين لامعتين على نحو مزعج.
“لا أحد يتهاون، أبقوا يقظين. أعيدوا ترتيب الصفوف بسرعة ونتوغل إلى الداخل!”
“نعم سيدي!”
لحسن الحظ، تم كبح هذا الضجيج بسرعة بصوت رافاييل الحازم.
ولأن الأمر بدأ يثقل على نفسها، كتمت لويسا تنهيدة ارتياح وألقت نظرة خاطفة نحوه.
“إذا كانت هذه أمنية عظيمة لفارس الكنيسة، فهو كلام صحيح بالفعل.”
…كفى.
أدارت لويسا بصرها بعين باردة، ثم ثبتته على ظهور الفرسان الذين كانوا يقتربون من مدخل الكهف.
فجأةً، جعلتها هالة جبارة تنتصب شعر رأسها، ففتحت عينيها على اتساعهما.
دوّي─! كان صوت الأرض تهتزّ يسمع بوضوح.
بل في الحقيقة، كادت تفقد توازنها من شدّة الارتجاج المفاجئ.
أحاطت بذراعها خصر رافاييل والتصقت بجسده.
دوّي!
سُمِعَ في مكان ما صوت انهيار عنيف. كان الجو مشحونًا بقلق شديد، فسارع الفرسان إلى قطع الأشجار لتأمين مساحة حولهم.
“تراجعوا حالًا!”
جذب رافاييل ذراع لويسا التي كانت تحيط بخصره إلى عنقه ورفعها عاليًا بين ذراعيه.
وما كان مجرّد نذير شؤم بدأ يتحوّل إلى كارثة أشبه بالزلزال.
وبين الأشجار المتساقطة والصخور المتطايرة، راح الفرسان يركضون بكل قوتهم.
أحيانًا كان أحدهم يتأخر لإنقاذ فارس وقعت قدمه في شق أرضي، لكنهم كفرسان مدرَّبين، سعوا بانتظام للخروج من الغابة.
وحينما بدت معالم الكنيسة الكبرى أخيرًا أمام أعينهم، وقع الانفجار.
كووانغ─!
انهار جدار كامل من جدران الكنيسة.
تجمّد الفرسان في أماكنهم مأخوذين بالمفاجأة، وقد حُبست أنفاسهم للحظة.
وفي صمت اللحظة المهيبة، أفاقهم صوت لويسا المذعور:
“…ما الذي يحدث؟”
وعيناها المصدومتان كانتا تتابعان هيئة ترتفع تدريجيًا في الهواء.
كان شخصًا مألوفًا.
شَعر فضي يتمايل مع الريح، عينان زرقاوان عميقتان كالسماء، وفم مائل بابتسامة متعجرفة.
التقت نظرات ساينف المتعالية بعيني لويسا.
“ساينف!”
جال ساينف ببصره على من تحته ثم مدّ ذراعيه إلى الفراغ.
وحول جسده، بدأت سحب دخان أسود تتصاعد وتتماوج في كل اتجاه وكأنها متصلة بقوة غير مرئية.
وضع رافاييل لويسا قرب آندي، ثم اندفع بلا تردد نحو ساينف.
قفزة واحدة كانت كافية ليبلغ الفارس العدو المعلَّق في الهواء، وسيفه الطويل اللامع بضوء القمر يهوي بقوة صوب جسده.
“آه…!”
لكن السيف لم يمسّه.
فقد كان جسد ساينف محاطًا منذ زمن ما بهالة سوداء رقيقة شكلت درعًا منيعًا.
ارتد رافاييل من قوة الصدمة واندفع إلى الخلف قبل أن يسقط أرضًا.
تجمّد قلب لويسا لوهلة.
تردّد غبار كثيف، ومن شدّة قلقها لم تتمالك نفسها وأخطت خطوة نحوه راغبة برؤيته بوضوح.
“آنستي، إنه خطر!”
“لكن رافاييل!”
“القائد سيكون بخير. هذا القدر لا ينال منه.”
“حقًّا؟”
“انظري بنفسك!”
أشارت كلمات آندي فاستدارت بسرعة، وإذا بالغبار قد انقشع كاشفًا عن رافاييل واقفًا بكامل هيبته، دون أي إصابة.
وضعت لويسا يدها على صدرها الأيسر تكبح خفقان قلبها العنيف.
كان النبض ما زال يطرق كفها.
فأحكمت قبضتها بعزم وحدّقت في ساينف.
[أيها الحثالة… استمروا بالزحف ما استطعتم.]
أمال ساينف رأسه بابتسامة باردة على وجهٍ بديع، فأرسل قشعريرة في الأجساد.
وبينما كان الجميع منشغلين بتأمين الكنيسة وتوزيع القوات، لم تزل عينا لويسا معلّقتين به.
إن قوة سحرية تفوق ما أطلقته بيلا كانت تتدفق منه.
لكنها لم تشعر بشيء منه قبل لحظة، فكيف فجأة استحال إلى هذه الهالة المرعبة؟
‘هل فكّ قيود قوته المختومة؟’
تساءلت وشفتيها تجفان، لكنها حين أعادت التفكير، وجدت الأمر غامضًا، إذ بدا أنه لم يتحرر تمامًا.
ورغم ذلك، كان إحساسها الداخلي يقول إنها لا تزال قادرة على مواجهته.
‘هل يستخدم قرابين في طقس ما؟ ألهذا السبب لم تعد إليه القوة كاملة؟’
إن صحّ هذا، وجب وقف الطقس فورًا.
‘لكن أين يقام ذلك الطقس؟ ولماذا ظهر ساينف فجأة هنا؟’
حدّقت لويسا في ظهر رافاييل المترقّب لساينف، ثم تراجعت خطوة.
“آنستي؟”
“حين يشتت رافاييل انتباهه، علينا التحقق من جهة الكهف الآن.”
“إنه خطير… دعيني أذهب بدلًا منك!”
“لقد رأيت بنفسك الوحوش التي خرجت آنفًا. ماذا لو تكرر الأمر؟”
“ومع ذلك لا يجوز. حتى لو اضطررنا لمقاتلة تلك الوحوش…”
“سيد آندي، المسألة أن نموت جميعًا هنا، أو نجد أي سبيل للنجاة. البقاء مكتوفي الأيدي ليس خيارًا، سأتحرك.”
اهتزّت عينا آندي، وعضّ على شفته السفلى، وقد ارتسمت على وجهه ملامح ضيق وارتباك.
في الحقيقة، حتى هو كان يدرك أن الوقوف مكانهم لن يحل شيئًا.
“…إذن سنتحرك خفية بعدد قليل. وأنا أتحمل المسؤولية.”
“آندي، إن نجونا جميعًا فسأتحمل المسؤولية عن كل شيء. ما قيمة المسؤولية أمام الحياة؟”
“حقًا… كلامك مدهش.”
ارتخت شفتا آندي المتصلبتان، وأطلق ضحكة قصيرة أشبه بزفرة.
“شكرًا لك. إذن لنتراجع بهدوء خلف الفرسان.”
قبل أن تنسحب، ألقت لويسا نظرة إلى رافاييل.
كان دون أي تردد يقفز مجددًا نحو ساينف.
‘إنه رافاييل… سيكون بخير.’
همست في نفسها كأنها تقنع قلبها بذلك.
في الواقع، كان همّها الأكبر ألا يصاب رافاييل بأذى، أكثر من خوفها من أن تلقى هي حتفها على يد ساينف. لذلك لم تطاوعها قدماها سريعًا.
‘…رجاءً، اصمد قليلًا فقط.’
أغمضت عينيها بإحكام، ثم استدارت.
وحين فتحتهما ثانية، أسرعت تتخفّى بين الفرسان.
دووي─!
دوّى صوت صدام عنيف كالبرق خلفها.
‘لا تلتفتي… لا تلتفتي!’
كان شعورًا غريبًا، كأنها إن استدارت ستُجذَب إلى الأرض ولن تستطيع الحركة بعدها.
عضّت على أسنانها وتبعت آندي مع بضعة فرسان آخرين عائدين في الطريق السابق.
تحركوا على ضوء شعلة واحدة فقط لئلا يلفتوا الأنظار.
ولأن الطريق مألوف، خطا آندي واثقًا بلا تردد، فيما أسرعت لويسا كي لا تتأخر عن الركب.
‘آه، ليتني مارست الرياضة من قبل. على الأقل جئت بملابس الصيد، لو كانت تنورة لصرخت غيظًا ومزقتها كي أتمكن من الركض.’
بينما كانت أنفاسها تضيق شيئًا فشيئًا، ظهر مدخل الكهف أخيرًا.
ومن هناك لم يبقَ سوى التوغل.
كانت الأرض تهتزّ وتتساقط بعض الصخور، لكن تأثير الارتجاج لم يبلغ عمق الكهف بعد.
لفح رقبتها هواء بارد رطب، وبرودة العرق البارد على بشرتها سرعان ما خمدت.
لم يقطعه سوى صوت قطرات الماء المتساقطة من السقف يتردّد في الفراغ.
لحسن الحظ، كان الطريق واحدًا لا يتشعّب.
وبينما يخطون بحذر كي لا يُصدروا ضجيجًا، لاحت من بعيد أشعة حمراء خافتة تتسرب من عمق الكهف.
“انتبهوا. أشعر بطاقة سحرية قوية.”
همست لويسا وهي تمشي خلف ظهور الفرسان.
بلّلت شفتيها اليابستين بطرف لسانها من فرط التوتر، وكلما تقدمت، زاد يقينها.
كان باب حديدي غريبًا عن المكان يسد الطريق.
لم يكن مقفلًا.
خشية صدور صرير صدئ، أمسك فارسَان بالباب ودفعاه ببطء شديد.
وما إن انفتح حتى جمدت أنفاس الجميع أمام المشهد.
‘…ما هذا؟’
أرض مغطاة بسائل أسود لزج، وفوقه أناس يرتدون أردية سوداء جاثون على ركبهم.
لم يكونوا عشرات… بل مئات، يصطفّون في دائرة واسعة، يتمتمون بكلمات غامضة.
كان المشهد مروّعًا. ولم ينتبه أولئك السحرة إلى لويسا والفرسان الداخلين، إذ ظلوا غارقين في تراتيلهم.
“كنت أتساءل إلى أين اختفى السحرة السود… فإذا بهم قد تجمّعوا هنا.”
همس آندي بصوت لا يكاد يُسمع، فأومأت له لويسا.
“لكن… لا أظن أن من الحكمة أن نتابع النظر.”
“ولمَ ذلك؟”
“الأمر هو…”
“لا بأس، قل ما لديك.”
سارت عينا لويسا حيث كان ينظر آندي، فإذا بجبهتها تنقبض بغثيان.
‘يا للجنون… جعلوا أنفسهم القرابين؟’
من بين أكمامهم السوداء، راحت الدماء القانية تسيل من معاصمهم.
تجمّعت الدماء عبر الأرض نحو مركز الدائرة.
وهناك، وقفت امرأة بفستان قرمزي.
الإمبراطورة.
أطلقت لويسا نظرة مليئة بالاشمئزاز تجاه المشهد.
انفتحت جفون الامبراطورة ببطء كاشفة عن عينين متألقتين بضوء أحمر.
وانحنى طرف شفتيها بابتسامة مقززة، تكاد تقتلك رجفة.
“…أحسنتِ الإفلات من أنظار مولاي.”
“…….”
“أم أنّه أرسلَكِ عن قصد؟ لتُستكمل بكِ القرابين الناقصة.”
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 116"