كان في نظرها دومًا رجلاً جافًا، بلا دموع ولا رحمة، لكنه بدا الآن أبًا مرهقًا لا يريد سوى حماية عائلته.
“وأنا أيضًا لا أريد سوى أن أحمي عائلتي. أشعر بما تشعر به يا أبي.”
“…….”
“نحن عائلة. ويجب أن نظل معًا حتى النهاية.”
“……أكره أن تكوني أنتِ من يواجه هذه المواقف، وأكره أكثر أنني لا أستطيع منعكِ بقوة. لو أنني أرسلتكِ بعيدًا حيث تكونين آمنة لكان أهون، لكنني أخشى أن يجرحكِ ذلك. الأمر صعب عليّ حقًا.”
ابتسمت لويسا بخفة وهي تمسك بكفيه معًا.
“……صحيح أنّني كنت غريبة الأطوار يومًا ما بسبب بعدي عن العائلة، لكنّ الحال تغيّر الآن. عائلتي غالية عليّ جدًّا، وأتمنى أن نظل معًا دائمًا. هذا صدق قلبي.”
أطرق الدوق بليك وهو يحدّق في يديها الممسكتين بيديه، ثم ابتسم ابتسامة يائسة كأنها ممزوجة بالألم.
“أنتِ لم تكوني يومًا غريبة الأطوار. كنتِ دائمًا ابنتي الجميلة.”
“صدقت، وأنا كذلك.”
“هاه؟”
استدارت لويسا نحو مصدر الصوت.
كان ديميان واقفًا عند الباب، ولا تدري منذ متى كان موجودًا.
وكانت على محيّاه ابتسامة دافئة.
“كيف تقولون مثل هذا الكلام الجميل من دوني؟ كدت أشعر بالخذلان.”
“أخي.”
“احمم…….”
أطلق الدوق سعالًا قصيرًا يخفي به حرجًا، بينما تقدّم ديميان وأطبق يده على أيديهما فوق بعضها.
لمع في عينيه البنفسجيتين اللتين ورثهما عن والده بريق حاسم.
“فلنكن نحن الثلاثة معًا من الآن فصاعدًا. مهما كان الثمن.”
تلاقى نظر الثلاثة، وفي تلك اللحظة، ارتسمت على وجوههم ابتسامة سعيدة واحدة، محَت همومهم للحظات قصيرة.
***
في غرفة مظلمة لا ينفذ إليها ضوء، كان شمعدان وحيد يبعث ضوءًا واهيًا.
“أمي تعتمد عليّ كثيرًا فيما أرى. ألم يحن الوقت لأن تتعلمي كيف تدبّرين أمركِ بنفسكِ، بدلًا من أن تتركي كل شيء على عاتقي وأنا ما زلت أعتاد هذا الجسد البائس؟”
كان صوته هادئًا لكنه حادّ كالسكين.
شعرت الإمبراطورة برجفة في جسدها، وأطبقت شفتيها المرتعشتين من شدّة الخوف.
زالت عنها كل ملامح البذخ والهيبة، وباتت تبدو واهنة في ثوب رديء، كأي امرأة بائسة في الطرقات.
خلال أيام قليلة فقط غارت وجنتاها وبدت عيناها المائلة إلى الحمرة مثقلة بالتعب.
“……أعتذر. ولكن علينا أن نراعي مسافة نقل القرابين، لذا يجب استبعاد الشمال والشرق. فهذان المكانان محطّ أنظار الجميع، وسيكونان أوّل ما يُراقب.”
رفع ساينف ساقًا فوق أخرى وأمال رأسه جانبًا وهو يحدّق بها.
“إذن لا خيار أمامنا أصلًا. إن كانت مسافة النقل مشكلة، فالجنوب ليس أفضل حالًا.”
“لكن الغرب يتيح بعض الطرق التي يمكن أن نستدرج فيها الناس، كما أن الانكشاف هناك أقل، لذا لا يُستبعد تمامًا.”
“لكن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا، أليس كذلك؟”
“……صحيح.”
ارتجف صوتها.
وأثناء انحنائها، عضّ ساينف على أسنانه ومدّ ذراعه.
“انظري إلى حالي. الأمر لا يحتمل التأجيل يومًا واحدًا.”
ما زالت جراحه التي تلقّاها من الإله تؤلمه.
لو كان في هيئته الأصلية لانمحت هذه الجراح منذ زمن، لكنه محبوس في هذا الجسد الوغد، عاجزًا ومكبوتًا.
في البداية كان الأمر ممتعًا، ودافعه رغبة جامحة في امتلاك عالمٍ لنفسه، فاندفع إلى عقدٍ متهور. لكن لو كان يعلم أنّه سيظلّ مقيدًا هكذا كل هذا الوقت، لبحث عن وسيلة أخرى.
كان مكوثه قرنًا في هيئة شيطان يمرّ بلا وطأة. أمّا هنا، في هيئة إنسان، فقد صار العام الواحد يمرّ كأنه مئة عام.
صحيح أنّه اتخذ هذه الحيلة لأنه لو هاجم العالم بجوهره الحقيقي لتصدّى له ملوك الجحيم والآلهة على الفور، لكن ذلك لا يخفف من ضيقه وعجزه.
“أم تراكِ غيرتِ نيتك؟ أما كنتِ تقولين إنك تريدين الإمبراطورية؟”
رفعت الإمبراطورة رأسها ببطء.
كانت شفتاها ترتجفان من قبل، لكنها شدّت عليهما، وأطلقت من عينيها نظرة باردة.
“لم يتغير شيء. ما زلت أرغب في امتلاكها.”
“وماذا بعد أن تملكيها؟”
“أريد أن ينحني كل شيء تحت قدمي، يتوسل كالحشرات. أريدهم أن يذلّوا أشدّ الذل.”
تأمل ساينف بهدوء عينيها اللامعتين الكئيبتين قبل أن يحرك شفتيه.
“مثير للاهتمام.”
لم يعد فيه أي أثر لذلك التوتر الذي كان يوحي بأنه سينقلب في أي لحظة؛ بل صار يتصرف كفتى نزق سريع التقلب. والإمبراطورة وقد اعتادت على هذا الوجه منه، لم تُبدِ أي ردة فعل. ثم، بعد برهة، ترددت شفتاها قليلًا قبل أن تنطق بصوت خافت يكاد ينطفئ:
“…… وماذا سيفعل المولى الجليل بعد أن يستعيد قوته؟”
“ولمَ تسألين الآن؟ وقت عقدنا الاتفاق لم تتفوهي بكلمة عن ذلك. آه─ أترى أنك بدأت ترين النهاية تقترب؟”
“حينها…… كنت يائسة.”
“إذن، وماذا ستفعلين الآن بعد أن تعرفي؟”
“…… إن كان عليّ واجب، فواجبي أن أخدم المولى الجليل كما كنت.”
“أوه─ حقًا؟”
“نعم.”
مال ساينف برأسه قليلًا، وارتسمت على فمه ابتسامة ماكرة. ولعق شفتيه بلسانه وكأنما استحضر شيئًا شهيًا، ثم أدار بصره في الفراغ لحظة قبل أن يقترب فجأة من أذنها بابتسامة عينين ساحرة.
“ما أريد أن أفعله هو……”
صوته العذب تردد في أذنيها.
همسة شيطانية كادت أن تسلب عقلها في لحظة غفلة، فانعقد حاجباها مشدوهة.
“أنتِ لست بحاجة إلى أن تعرفي.”
وبحركة خاطفة ابتعد جسده بعدما كان يقترب ببطء.
ارتعشت عيناها وهي ترفع بصرها نحوه.
كان ساينف يحدق فيها من علٍ، متجهم الوجه بلا ابتسامة. لم يبقَ في ملامحه سوى برود قاسٍ ينظر إليها كما لو كانت شيئًا بلا قيمة.
“يكفي أن تقومي بما تفعلينه الآن كما ينبغي. عندها سيتحقق كل شيء حسب الاتفاق.”
في جحيمي.
أضاءت عيناه بظلمة عميقة.
***
بعد تناول الطعام مع الدوق بليك وديميان ورافاييل، تحدثت لويسا معهم طويلاً.
في البداية ترددت: إلى أي حد يجب أن تُفصح؟ هل عليها أن تكشف قصتها كاملة؟ لكن ذلك سيجعل الصورة أعقد بكثير.
فاكتفت بذكر أن ساينف ما زالت قوته مختومة، وأنه يجمع القرابين لفكّ الختم، ويبحث عن مكان لإقامة الطقوس.
وكان مما يبعث على الطمأنينة أن جراح ساينف خطيرة، وبالتالي هناك فرصة لردعه إن التقوا به قبل أن يستعيد كامل قواه.
“علينا أولًا أن نجمع كل ما يتعلق بالقوة المقدسة.”
“هناك الكثير من الماء المقدس في الكنيسة الكبرى، لكن الزهور المقدسة نادرة جدًا، يصعب الحصول عليها.”
“أما الزهور المقدسة، فهي عندي.”
“لويسا، تقصدين عندك أنتِ؟”
“نعم. أبي، أرسل بعض الرجال إلى هناك. سنحتاج عددًا كبيرًا.”
لم يطرح الدوق أي سؤال آخر، بل أرسل رجالاً فورًا، بينما رتّب ديميان ورافاييل مجموعاتهم ليتفقدوا المقابر في شتى الأماكن.
غير أن المشكلة الكبرى كانت أنهم لا يستطيعون ترك لويسا وحدها، وهو ما اتفق عليه الثلاثة.
‘إذن سيتناوبون على حمايتي؟ لكن، مهما يكن……’
زفّت لويسا تنهيدة وهي تلمح رافاييل الذي لم يفارق جانبها منذ لحظة.
“سيد رافاييل، لقد دخل الليل بالفعل.”
“لن أذهب حتى أتأكد أنكِ نمتِ.”
“تقول ذلك، لكنك تنوي البقاء بجانبي طول الليل، أليس كذلك؟”
“…… كلا.”
لكن تردده كان فاضحًا.
ومن يراه سيجزم أنه سيبقى حتى الغد إن لزم الأمر.
‘هذا غير معقول، لا يمكن أن يحرسني أحد طوال الليل. هل ينوون تنظيم نوبات حراسة على مدار 24 ساعة؟’
تفهمت قلقهم من عودة ساينف، لكنها رأت أن ذلك بالغ في عدم الفاعلية. ومع ذلك، كان في داخلها جزء يهدأ لكون أحدهم معها، حتى لو ازداد ارتباكها من الأمر.
رغم أن ساينف أصيب بجراح بالغة، فقد يخرج لهم ثانية، ورغم أن رافاييل طمأنها بأن الآلهة قادرة على ردعه، إلا أن القلق ظلّ يثقل صدرها حتى تواجهه بنفسها.
تأملت رافاييل الصامت يراقبها بهدوء، ثم تكلمت على حين غرة:
“أما زلت تظن أنه لا يوجد أحد يمكنك أن تثق به؟”
“…… ماذا؟ ما الذي قلتِه الآن؟”
ردّ رافاييل بصوت خفيض متردد امتزج بأنفاسه، وحدق فيها كأنه لا يصدق ما سمع.
امتلأت عيناه الزرقاوان بصورة لويسا.
“قلتَ ذلك حين كنت صغيرًا. إنك لا تثق بأحد، وإنك تكره الناس.”
ارتجف بصر رافاييل بشدة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 113"