لم يكن رافاييل ليفوّت الثغرة التي ظهرت حين بادر الماركيز ديميتري إلى إطباق فمه في عجلة.
سأل رافاييل بصوت منخفض مبحوح، وقد طغى جوّه المهيمن على الهواء بما لا يُقاس عمّا كان قبل قليل.
“……”
“سيدي الماركيز، الصمت وحده لا ينفع.”
أحس ديميتري بقطرة عرق تنحدر من صدغه حتى ذقنه، فمسحها بكف مرتجف.
“……كان الأمر مجرد تدخّل في شؤون بيت الماركيز.”
“لم يكن في شأن العائلة فقط، بل في ما يخصّ الشرق نفسه أيضًا، أليس كذلك؟”
ارتعش كتف ديميتري ارتعاشة خفيفة.
“لا أفهم قصدك. ثم إلى متى سأظل أُخضع لهذا التحقيق وأنا لا أحمل أي شبهة؟! مهما كنت يل صاحب السمو، فهذا تعدٍّ على الصلاحيات!”
“لم أقل إنك بريء من الشبهات.”
“……ماذا؟”
“الوحوش التي ظهرت في مهرجان الصيد، أليست مرتبطة بالشرق؟”
“مـ… ماذا تقول! هذا افتراء!”
“أبدًا. لقد سمعتُ بأذني حديث اثنين عن ذلك.”
“……!”
“سمعتُ أن الإمبراطورة جلبت الوحوش من الشرق على هواها. لا بد أنك كنت ساخطًا من أوامرها الأحادية، فلماذا لا تغتنم الفرصة الآن لتتحرر من ظلها؟”
ارتجّت حدقتا ديميتري بعنف.
كان يفتح ويغلق شفتيه بارتباك، ثم جاهد صوته المرتعش وهو يمسح عرقه البارد من جديد.
“هل لديك دليل؟ أنا مظلوم……”
“كنتُ حاضرة هناك أيضًا.”
لأول مرة منذ بداية الجلسة، فتحت لويسا فمها.
واتسعت عينا ديميتري من الدهشة لدخولها المفاجئ في الحوار.
“……هذا لا يشكّل دليلًا.”
خفض بصره هربًا من نظراتها، غير أن لويسا لم تُبعد عينيها عنه، بل نهضت من مقعدها.
“لكن منذ قليل استوقفني أمر… هل تسمح أن أقترب؟”
وسارت نحوه بخطوات بطيئة.
وكلما اقتربت تقلص كتفاه أكثر، حتى نهض رافاييل بدوره ليقف إلى جانبها يحميها.
توقفت لويسا بجانبه مباشرة.
كان جانبه المرتعش برأسه المنكس يبدو كأنه يغلي قلقًا.
“سيادة الماركيز.”
“……”
“لماذا أشعر بانبعاث سحر اسود منك؟”
“…..!”
ظل ديميتري مطأطئ الرأس، لكنه فتح عينيه على وسعه، وارتجفت شفته السفلى قبل أن يهز رأسه نافيًا.
“لـ… لا. ليس صحيحًا. أنا بشري. لستُ وحشًا!”
لكن لويسا ظلت هادئة تمامًا.
وحتى صمتها بدا وكأنه يسحقه، فرفع رأسه فجأة وصاح بيأس:
“حقًا لستُ كذلك! أنا إنسان منذ ولادتي، بخلاف ما ظهر فجأة بتلك المرأة! لا، لا تقتربي!”
أومأت لويسا برفق.
“……يبدو أنك تعرف شيئًا عن بيلا، أليس كذلك؟”
ما إن خرجت كلماتها بصوت منخفض حتى شحب وجهه حتى صار كالكفن.
“قبل أن أطلب منك شيئًا، سأمدّ لك يد العون. إن لم تكن وحشًا، فالتطهير الذي أُجريه سيعينك. اسمح لي أن أتفقدك ولو مرة.”
ساد المكان سكون لا يُسمع فيه إلا أنفاسه المضطربة.
كأن الصمت يخنقه، فحلّ ربطة عنقه وأخذ شهيقًا عميقًا. وسقطت قطرة العرق من ذقنه بوضوح يكاد يُسمع صوته.
“أخشى… أخشى أن أصير مثل تلك المرأة. أنا بشري حقًا.”
كانت عيناه الشاردة تحدّقان في الأرض، ثم ارتفعت ببطء لتلتقيا بعيني لويسا.
ولويسا لم تدع بريق الأمل العابر في عينيه يفوتها.
فمنذ البداية كانت تشعر بذبذبة غريبة، ولهذا ركزت كامل حواسها عليه؛ وهناك بالفعل سحر اسود طفيف.
اختيارها للاقتراب منه كان صائبًا.
لم يكن الأمر كالسحر الاسود الكثيف الذي انبعث من بيلا، بل خيط رقيق لا يُدرك إلا إذا دققت النظر من قرب.
“أنت مختلف عن بيلا يا سيادة الماركيز. بيلا كانت تحمل سحر اسود من طبيعة مغايرة تمامًا، أما أنت فلا يكاد يُلحَظ إلا على هذه المسافة.”
ولم يكن كلامها مجرد تسلية. لقد تطورت قوتها المقدسة يومًا بعد يوم، وصارت حاستها في إدراك السحر الاسود أدقّ حتى باتت تميّز القدر الكامن فيها.
مدّت يدها بثبات وهدوء نحو يده.
“ستكون بخير.”
ترقرق الدمع في عينيه المحمرتين من فرط القلق.
بدا صراعه الداخلي واضحًا؛ الخوف والتردد والاضطراب.
ارتجفت شفتاه اليابستان المتشققتان قبل أن تتحرك تفاحة حلقه بعنف.
ومضت لحظة طويلة حتى أغمض عينيه بقوة، ورفع يده المرتجفة ببطء.
اقتربت من يد لويسا شيئًا فشيئًا مترددًا، حتى لامست أطراف أصابعه راحتها.
فلم تفلت لويسا تلك اليد. في لحظة خاطفة سرّبت إليها قوتها المقدسة، وجعلت طاقة التطهير تتدفق.
راح النور الأبيض يتسرب من راحته صاعدًا في ذراعه حتى غمر جسده بأسره.
شهق بصوت مسموع، وارتجفت شفتاه وقد انفغر فمه من الدهشة.
“……!”
في تلك اللحظة، انقطع شيء فجأة، وانبعث من فمه دخان أسود.
انتشر حوله كدخان سجائر ثم ما لبث أن تبدّد.
الثلاثة كانوا يحدّقون فيه بتركيز.
لم يعرفوا ما هو، لكنه لم يكن الرائحة الكبريتية النتنة التي فاحت من بيلا أو الوحوش، بل كان عطنًا ثقيلاً سرعان ما تلاشى.
“……نَجَوتُ. لقد نجوتُ.”
سرعان ما انفجر الماركيز ديميتري ببكاء تختلط فيه الراحة بالفرح.
إزاء سلوكه الذي بدا وكأنه يعرف شيئًا عن ذلك الدخان الأسود ويتحرر منه كمن نال الخلاص، التفتت لويسا نحو رافاييل.
فما كان منه إلا أن بادلها النظرة وأومأ برأسه.
“يمكنكِ الاستمرار إن أردتِ.”
“لا، لم يعد الأمر ضروريًا. أظن أنّ الماركيز سيخبرنا الحقيقة الآن.”
وانصبت أنظار الاثنين معًا على الماركيز ديميتري.
كان يمسح وجهه بارتجاف وكتفاه يهتزّان، ثم أخرج صوته المكبوت وهو ما يزال مطأطئ الرأس:
“……سأقول كل ما أعرفه.”
***
رمشت لويسا بعينين شاردتين.
الغرفة الفسيحة المبهرة التي جلسا فيها الآن بدت على النقيض من البرودة القاسية للغرفة السابقة.
لم يكن معها سوى رافاييل.
لكن الاثنين لم يتبادلا كلمة واحدة منذ دخولهما.
كانا غارقين في إعادة استرجاع ما سمعاه تواً من الماركيز.
‘……استحضرَ شيطانًا؟’
ما كشفه الماركيز كان أبعد ما توقّعاه.
“كما قد تتخيلان، الزيادة غير الطبيعية في عدد الوحوش سببُها الإمبراطورة.”
“وما الفعل الذي يجعلها قادرة على ذلك؟”
“لا أعرف كيف توصّلت إلى تلك الطريقة، ولا منذ متى وهي تهيئ لها…….”
“…….”
“الإمبراطورة…… ضحّت بوالدي لاستدعاء الشيطان. ولم يكن والدي وحده. حين وصلتُ، كان المكان يعجّ بالجثث، وخشيت أن أصبح واحد منها…….”
“قُربان؟”
“نعم، في ذلك اليوم رأيتُه. ذاك الشيطان الذي خرج من بركة الدماء! شيئًا أخذ يتشكّل تدريجيًا في هيئة سوداء، لكن عينيه الحمراوين المروعتين لمعَتا بوضوح في الظلام، كأنهما ستلتهمانني. هـاه…… هـاه…….”
“تنفّس بهدوء وببطء. يمكنك أن ترتاح قليلًا قبل أن تتابع.”
“لا…… أريد أن أُخرج كل ما في صدري الآن. هاه…… الإمبراطورة، بدت وكأنها تبرم عقدًا مع الشيطان. لم أعرف تفاصيله، لكني رأيته يضع يده على جبينها ويتمتم بكلمات، ثم لاح ضوء أحمر على جبينها قبل أن يتلاشى. وبعدها اتجه نحوي. قال لي ألا أبوح بما رأيت، وإن أفصحت فسيفجّرني، ثم حشر في فمي قوةً شيطانية!”
كانت كلماته المرتبكة وصوته المرتجف دليلاً على اضطرابه، ومع ذلك تحدّث دون توقف كمن يطارده شبح.
أكد أنّ الإمبراطورة هي من جلبت الوحوش إلى الشرق، وأنها تبني شيئًا قرب الكنيسة.
كما قال إن بيلا ظهرت فجأة ذات يوم، وأُمرت الأجواء بأن تهيّئها ليُعترف بها كقديسة. لكن خلال مراقبته لها أدرك أنها لم تكن تملك قوى مقدسة، بل كانت تتحكم في الطاقة المظلمة وتمتصها.
‘هل يمكن أن يكون الشيطان هو من خلق بيلا؟ وهل كان المقابل أن يمنحها جسد إنسان قبل موتها؟’
كان الماركيز يعرف أكثر مما توقعا. ورغم العقد الشيطاني الذي منعه من البوح، فقد كشف الكثير، الأمر الذي ساعد في رسم ملامح واضحة لأحداثٍ كانت غامضة حتى الآن.
لويسا وقد أثقلها الصداع، غطّت وجهها بكلتا يديها.
شيطان؟ أيعقل هذا؟ كانت تدرك أن هذا العالم منذ بدايته يفتقر إلى المنطق، لكن الشياطين…… هذا كثير.
شعرت أنّ القضية تتضخم بما يتجاوز الخيال.
“لويسا، ألا ترين أن تستريحي قليلًا؟”
“يمكنني أن أرتاح عندما نعود. لست متعبة جسديًا، لكن رأسي مزدحم بالأفكار.”
“……أتفهّم ذلك.”
تلاشى صوت رافاييل مع تنهيدة ثقيلة.
رفعت لويسا وجهها لتلمح تعابيره.
كان هو الآخر عاجزًا عن إخفاء تعقيد مشاعره.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 109"