كانت القطعة السحرية قد سجّلت الكثير من أحاديث بيلّا.
كلماتها وهي تدفعها إلى قبو المبنى صارخةً “موتي!”، وما قالته قبل أيام في الكنيسة عن قارورة السم وعن الإمبراطورة… كل ذلك كان مسجّلًا بلا استثناء.
كان ذلك كافيًا لاتخاذه دليلًا لمساءلة الإمبراطورة، لكن الإمبراطورة ما كان لها أن تعلم بوجود هذا الدليل أصلًا.
غير أن الإمبراطورة قد اختفت؟!
تجمدت ملامح لويسا.
حين غادرت عبر الممرّ السري كانت واثقة أنها ستعود إلى القصر الإمبراطوري.
توقعت أن تعود لتتملص من الشبهات وتواجه الوقائع بوقاحة. لكن هذا الاختفاء المفاجئ لم يخطر ببالها قط.
قال رافاييل:
“لقد وضعنا من يراقبها، لكنها على ما يبدو تنبهت فقطعت كل صلة وفرّت.”
“إذن، هل اختفى أيضًا سموّ ولي العهد الثاني؟”
كان في الأمس مثيرًا للريبة إلى حد كبير. والحق أنها كانت تشك في ساينف أكثر من شكها في الإمبراطورة نفسها.
ذلك الرجل الذي كان يعيش مترفًا بلا اكتراث، لا يقاتل ولا يبرز في شيء، كيف له فجأة أن يفتك ببلّا؟
[“إذا قتلتُ ذلك الشخص… ستجعلني إنسانة حقًّا!”]
ظلت كلمات بيلّا الأخيرة عالقة في صدرها كشوكة مزعجة.
بينما كانت غارقة في تفكيرها، شعرت بدفء يلامس جبينها.
رفعت عينيها فإذا برافاييل أمامها بملامح جادة يربّت على ما بين حاجبيها بأطراف أصابعه كأنه يزيل عنها همومها.
ارتخى جبينها لا إراديًّا، والتقت عيناهما مباشرة.
“…إنه في القصر الإمبراطوري.”
“في القصر؟! فهل يجهل أن الإمبراطورة قد اختفت؟”
وإلا فكيف يُعقل؟!
الإمبراطورة التي كان يُظن أنها ستبقى حتى الرمق الأخير قد تلاشت، بينما بقي ساينف وحيدًا في القصر متحديًا الظروف القاسية! كم في ذلك من مفارقة.
نهض رافاييل ممسكًا بيدها، ولما نظرت رأت كبير الخدم واقفًا عند الباب بانتظار.
بدا أن بيده رسالة أو أمرًا ما قد سلّمه لرافاييل الذي خطا إلى الممرّ بخطوات هادئة.
قال وهو يسير بجانبها:
“إنه يعرف، بل ويُدرك إلى حد ما ما نعرفه نحن أيضًا. ومع أنه ينكر علمه بمكانها، فقد تركناه قيد الاحتجاز في غرفته دون أن يبدي أي مقاومة. وقد أثبت الكاردينال أن طاقة السحر الاسود في قارورة السم هي ذاتها التي خرجت من جثة بيلّا بالأمس. لهذا فالإمبراطورة يصعب أن تفلت من التهمة، وأغلب الظن أن ساينف يخطط للنجاة وحده.”
سارت لويسا بجواره وهي تومئ برأسها بذهول.
أتُراها الإمبراطورة قررت أن تتحمل كل شيء وحدها؟ لكن من المستحيل أن يكون ساينف جاهلًا بالخطة أصلًا، خاصة بعد ما فعله ببيلّا البارحة…
صورة ذلك المشهد ما زالت محفورة في ذهنها.
‘كل هذا لأجل أن يقول هيا نأكل؟’
رمشت بعينيها حين دخلت قاعة الطعام.
كانت المائدة معدّة مسبقًا بأطباق مرتبة وأبخرة الطعام الساخن تتصاعد منها.
رفعت بصرها فوجدت رافاييل قد أزاح الكرسي ينتظرها لتجلس.
“لم تأكلي منذ الأمس. حتى لو لم يكن لكِ شهية، فتناولي شيئًا.”
“آه…”
“لنتحدث على مهل أثناء الطعام.”
فأومأت لويسا.
ربما لن يجلس حتى تجلس، ثم إن رائحة الأطعمة قد أيقظت معدتها رغم أنها قبل قليل لم تشعر بأي جوع.
“حسنًا.”
ابتسم رافاييل برضًا:
“أحسنتِ. اسألي ما شئتِ، سأجيبكِ عن كل ما تريدين.”
كان كأنه مستعد أن يبوح بكل الأسرار بلا تحفظ.
ابتسمت هي بخفة والتقطت أدوات الطعام.
“إذن… علينا الانتظار حتى تُقبض الإمبراطورة؟”
“لقد استدعيتُ الماركيز ديميتري. خشيت أن يتنصل، فسارعت للقائه، لكن بدا عليه أنه لم تصله أي إشارة. بل كان يجهل اختفاءها كليًّا.”
“إذن انتهى التحقيق بشأنه؟”
“لا. سأباشره فور عودتي.”
“آه… إذن ستغادر مباشرة بعد الطعام.”
“لا، بل بعد أن يعود والدكِ وأخوكِ إلى المنزل.”
“والدي وأخي؟ ولماذا؟”
“حرصًا على ألا تبقي وحدك. تحدثت معهما، واتفقنا على تعزيز الحراسة حولك. فالإمبراطورة ما زالت طليقة، وساينف وإن كان محتجزًا لا يُؤمن مكره.”
حين أصغت لويسا لكلامه بدأت تدرك التغييرات من حولها.
كان الخدم بالفعل أكثر عددًا من المعتاد، وتبين أن الفرسان قد انتشروا في أرجاء القصر.
ولعل السبب أن الإمبراطورة استهدفتها من قبل.
كانت تفهم دواعي الحرص، لكن أن يترك رافاييل كل أعماله ليأتي بنفسه بدا لها مثقلًا.
“لكن… أنت مشغول بما فيه الكفاية، وها أنت تترك عملك بسببي. ثم إنك سهرت البارحة حتى الصباح.”
“لا بأس، أنا بخير.”
“ها أنت تقولها! لقد نهيتني عن أن أقول ‘أنا بخير’، وها أنت تفعل مثلي يا رافاييل.”
انفلت من شفتيها غمزٌ ساخط، وارتفع طرف فمها قليلًا دون أن تشعر.
أما رافاييل فابتسم للحظة ثم كسا وجهه جِدٌّ وشيء من الحرج، كأنما يحاول استعادة رصانته بعدما كاد أن يذوب في ملامحها.
أثار هذا التبدّل فضول نظراتها، فتنحنح بصوت خفيف وقال:
“إذن… هل تودّين أن ترافقيني؟”
“ماذا؟ إلى حيث تعمل؟”
“نعم. ألستِ ترغبين في لقاء الماركيز؟”
“آه… هل ظهر ذلك عليّ؟”
دارت عينا لويسا بوسع، ثم تجعد جسر أنفها بابتسامة صغيرة.
في الحقيقة، كانت ترغب فعلًا في لقائه.
حين أعلنت الإمبراطورة في الكنيسة أنها ستتخلى عن الشرق، كان الماركيز يرتجف كله، وشعرت لويسا أنه إن أحسنت إقناعه فقد يبوح بمعلومات مهمة.
“قليلًا؟”
ابتسم رافاييل ابتسامة سلسة مرسومة كقوس أنيق، بل ولمع بصره كأنما ينظر إلى شيء يراه لطيفًا.
هل لأنه بات أكثر صراحة؟ أم أنها هي من باتت تولي اهتمامًا أكبر؟
أخذت تصرفاته تطرق ناظرها واحدًا تلو الآخر، وحتى مشاعره باتت تُنقل إليها بوضوح، الأمر الذي جعلها تشعر بالارتباك.
‘ما هذا…؟ لماذا أشعر فجأة بجفاف في شفتي؟’
أشاحت لويسا ببصرها سريعًا وابتلعت ريقها الجاف بلا داعٍ.
“من الطبيعي أن ترافقينا.”
“……حقًا؟”
كان جوابًا قاطعًا ومنعشًا.
رمشت لويسا بدهشة وهي تنقل بصرها إليه ببطء.
“نعم. إن كان ثمة أحد في الإمبراطورية يجب أن يعرف تفاصيل هذه القضية، فهو أنتِ دون سواك.”
“أنا؟”
لكن لِمَ؟ الأمر يروقها، لكنه بدا غير متوازن.
ساورها قلق من أن يكون قد خلط العاطفة الشخصية بالأمور العامة.
وكأن رافاييل قد التقط هواجسها، فأخفى ابتسامته وتصلب وجهه بجدية.
“أنت لا تدركين مكانتك بعد. فأنتِ الشخص الوحيد القادر الآن على إنقاذ الناس من دَنَس السحر الاسوز. وبفضلك، بعدما أدركتِ حقيقة بيلا مبكرًا، لم تتفاقم الحادثة، ناهيك عن أنكِ من قدم الدليل الحاسم. أليس من الطبيعي أن نشاركك التفاصيل كاملة؟”
وبالتفكير، بدا كلامه مقنعًا.
رمشت لويسا بعينيها وهزّت رأسها موافقة.
‘صحيح… في النهاية هذا لصالحـي.’
فقد كانت تتملكها رغبة منذ زمن في معرفة الأمر.
فالماركيز منذ مهرجان الصيد كان يذعن للإمبراطورة إذعانًا مشوهًا كأنها تمسك بزمامه، وحتى حين تخلت عنه علنًا في الكنيسة، لم يستطع أن يقول شيئًا، بل ابتلع غيظه فقط.
ولأنه شاركها أسرارًا كثيرة من قبل، فحتى لو لم يعرف إلى أين رحلت الإمبراطورة، فلا بد أنه يملك أدنى حد من التقدير لما قد تفعله.
تلألأت عينا لويسا بإشراقة قصيرة.
كان وجهها قد خلا من أي أثر للإرهاق، بعد أن كان قبل قليل لا يُظهر سوى التطلع إلى الراحة.
وأمام ذلك، انفرجت شفتا رافاييل ببطء وهو يحدق فيها.
“لكننا لن نتحرك قبل أن تنتهي من تناول الطعام. ولا يجوز أن تأكلي على عجل.”
قالها وهو يحاول إخفاء ابتسامة لم يستطع أن يحجبها.
***
“……لا أعلم.”
كما توقعت، لم يكن الأمر ليسير بسلاسة.
شعلات الشموع الهادئة، وأشعة الشمس التي تتسلل من خلال نافذة صغيرة لتضيء جدارًا واحدًا.
لم يكن في الغرفة ذات النافذة الوحيدة سوى مكتب وكرسي.
جلس رافاييل في مواجهة الماركيز ديميتري، وعلى الطاولة بينهما ظل الحوار يتكرر منذ لحظات طويلة.
أما لويسا التي وقفت خلفه تراقب بهدوء، فقد ضاق بصرها شيئًا فشيئًا.
فبدل أن يعترض الملركيز على وجودها خلفه أو يتساءل عن سبب حضورها، كان يرمقها بنظرات حذرة فقط.
وبالأخص…
‘لماذا يبدو عليه هذا الخوف؟’
يمكن فهم صمته باعتباره من طباعه الخاصة، لكن حتى في ظرف كهذا، حيث لا يعرف مكان الإمبراطورة، هل كان مجرد ذكر اسمها يستحق كل هذا الذعر؟
ازدادت نظرات لويسا حدة وهي تمعن النظر في ديميتري.
وجهه هزيل كأنما أنهكه القلق، وبشرته غارقة في السواد، وعيناه حمراوان ملتهبتان حتى كاد بياضهما يختفي.
ومع أن لون عينيه كان بنفسجيًا كعيني الإمبراطورة، إلا أن الفرق كان صارخًا؛ فبينما كانت نظرتها دومًا واثقة متعالية، كانت عينا الملركيز مرتعشتين صريحتين في إظهار القلق والاضطراب.
“هل تنوي الاستمرار في الإنكار؟”
“حتى خبر رحيل جلالة الإمبراطورة لم أعلمه إلا الآن! حقًا، أنا لا أعلم شيئًا.”
“لم أسألك عن ذلك فقط. سألتك أيضًا إن كنت تعلم شيئًا عن خططها.”
صوت رافاييل رغم هدوئه، كان يحمل قوة غريبة تفرض حضورها وتخنق من أمامه.
وتحت هذا الضغط المتزايد، ضرب الماركيز الطاولة بعنف وهو يصرخ كالمستشيط:
“لا أعلم، لا أعلم، لا أعلم! لا أعرف شيئًا مطلقًا! أتظن أن لي رأيًا أصلًا؟ لقد كنتُ فقط أفعل ما تأمرني به، هـ…”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 108"