كانت ليلة يضيء فيها القمر بضوء ساطع وواضح. وبعد منتصف الليل بقليل، دوى صوت إطلاق نار مفاجئ في منزل ريفي تابع لأسرة إيرل سنودن، وقد خيّم عليه السكون.
استفاقت كايلا من نوم خفيف، وفركت عينيها ونهضت من السرير. لقد سمعت بوضوح صوتًا عاليًا قادمًا من الطابق السفلي.
ظنت في البداية أن الصوت ربما كان بفعل الرياح، فألقت نظرة من النافذة، لكنها لم ترَ أي أثر للمطر.
كانت على وشك أن تستدعي الخادمة عبر جرس النداء لكنها توقفت. فقد مرت ذكرى عيد ميلادها الرابع عشر، واعتبرت نفسها لم تعد طفلة صغيرة.
ظنت أنه لا بأس أن تنزل الدرج وتلقي نظرة سريعة على الطابق السفلي بنفسها.
لماذا لم تدرك الأمر؟ كان عليها ألا تفعل مثل هذا التصرف الأحمق وتنهض من السرير في منتصف الليل مهما كانت غير قادرة على النوم.
ماذا لو أنها سحبت الغطاء فوق رأسها وعادت للنوم فحسب؟
أو على الأقل، لو لم تختر التوجه إلى المكتبة، متسلحة بضوء شمعة مرتعشة وسط ظلام بدا وكأن وحشًا يترصّد فيه، لكان كل شيء مختلفًا.
ولو حصل ذلك، لما رأت والدها مستلقيًا بلا حراك على سجادة مبللة بالدم القاني، ولما نظرت إلى وجهه، وقد تهشّمت صدغاه وتطايرت شظايا عظامه ومخه.
كان صباحًا باردًا، يوحي بقرب الشتاء، والأوراق الحمراء بدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى.
وقفت كايلا مع الخادم تراقب عربة تجرّها حصانان أسودان تدخل فناء قصر آل سنودن.
نظرت إلى الحصانين الأسودين وعضّت شفتها المرتجفة.
“كايلا…”
ناداها رجل في منتصف العمر بصوت خافت وهو يترجل من العربة.
“مرحبًا، عمي أندرو.”
حاولت كايلا أن تبتسم وهي ترفع رأسها نحو السيد الوقور.
“كيف حالك؟ هل كنت بخير؟”
أندرو فايلدينغ. لقد قطع طريقًا طويلًا من آشتون ليصطحبها بنفسه.
“يبدو أن هذه كل أمتعتك، أليس كذلك؟”
توقف نظر أندرو عند ثلاث حقائب موضوعة بجانب كايلا.
“آه… نعم. يقول الجميع إنني كبرت بسرعة، فلم تعد ملابس العام الماضي تناسبني. لذا… لم يكن هناك الكثير لأخذه.”
خفضت كايلا بصرها وراحت تعبث بأصابعها المتشابكة.
كانت صادقة في قولها. رغم أنها لم تكمل عامها الخامس عشر، إلا أن طولها قد بلغ تقريبًا مستوى حاجبي أندرو.
لكن أندرو استطاع أن يخمّن أن فقر أمتعتها لم يكن بسبب الطول فقط.
فحين أفلس والدها، لورانس سنودن، قام بطرد معظم الخدم، وباع كل ما يمكن بيعه.
أندرو راقب الفتاة الصغيرة التي كانت ترتدي فستانًا أسودًا قصيرًا وقبعة سوداء، تحاول أن لا تبكي.
بشعرها الكستنائي وجلدها الأبيض الذي يبدو وكأن زغب الطفولة ما زال عليه، وبعينيها الزرقاوين اللتين تشبهان سماء الخريف الباردة، كانت تشبه والدتها ستيلا بشكل مذهل.
ستيلا الجميلة…
كلما أغلق عينيه، تراءى له وجهها المبتسم. وكان يشعر بالغيظ تجاه لورانس.
لو طلب مساعدته حين أصيبت ستيلا بالسل، لما ماتت صغيرة بهذا الشكل، دون أن تنال العلاج المناسب.
لو أرسل إليه رسالة واحدة يطلب فيها المساعدة، بدل أن يستسلم للحياة، لما اضطرت ابنته الصغيرة للوقوف الآن بوجه العالم بصلابة مؤلمة.
فيما كان السائق يحمّل الأمتعة إلى العربة، ودّعت كايلا الخادم للمرة الأخيرة، ثم صعدت إلى العربة دون أن تلتفت وراءها.
أندرو شعر أن كايلا لن تعود أبدًا إلى هذا المكان الذي وُلدت وترعرعت فيه.
لقد تم بيع أملاك آل سنودن والقصر، إما إلى أحد أقارب لورانس البعيدين، أو صودرت من قبل الدائنين.
الآن، أصبح هذا المكان مجرد مستودع لذكريات الموت المظلمة المرتبطة بوالديها، وربما من الأفضل أن تبتعد عنه.
جلس أندرو في المقعد المقابل لكايلا، وانطلقت العربة.
داخل العربة المهتزّة، ظلت كايلا صامتة، تنظر إلى الخارج من النافذة الصغيرة.
كان وقع حوافر الحصانين يعيد إلى ذهنها الذكريات التي حاولت نسيانها.
وراحت تركز فقط على المنظر الخارجي، محاولة طرد تلك الذكريات.
“إن كنتِ متعبة، يمكنكِ أخذ قسط من الراحة. الطريق إلى آشتون طويل.”
نظرت إليه كايلا وحاولت الابتسام.
“شكرًا، عمي. لكنني لست متعبة.”
“كايلا، هل يمكنك مناداتي بـ أبي بدلًا من عمي؟ أعلم أنه ليس بالأمر السهل، لكن متى ما اعتدت على النداء، سيصعب عليكِ تغييره لاحقًا.”
هزّت كايلا رأسها ببطء.
أول مرة رأت فيها السيد أندرو فايلدينغ كانت في جنازة والدها.
وقد عرفت حينها أنه صديق قديم له، رغم أنه ليس من النبلاء، إلا أن ثيابه وقبعته من الحرير دلّتا على ثرائه الكبير.
لكن عندما عرض عليها أن يتبنّاها، لم توافق لأنها أُعجبت بثروته أو بابتسامته، بل لأن الوقوف إلى جانبه بدا أقل قسوة من الذهاب إلى دار الأيتام.
“نعم… سأفعل ذلك.”
كانت تعلم أنها ينبغي أن تناديه بـ”أبي”، لكن حين أرادت فعل ذلك، بدا وكأن شيئًا عالقًا في حلقها منعها من النطق.
“شكرًا لك. لدينا الآن عائلة جديدة، لذا علينا أن نتأقلم معًا، أليس كذلك؟”
“هل هناك أفراد آخرون؟”
“بالطبع، لدي زوجة وابن. أي أنك ستحصلين على أم وأخ أكبر.”
“…أم… وأخ؟”
شعرت بغرابة. أم أخرى غير والدتها المتوفاة؟ لم تتصور ذلك.
وأخ؟ لم يكن لها إخوة من قبل، لذا لم تستطع تخيّل شكل علاقة كهذه.
“كيف هو… أخي؟”
“لنرَ… عمره 18 عامًا، أي يكبرك بأربع سنوات. بدأ الدراسة الجامعية مؤخرًا، في جامعة بورتسموث. يقيم في السكن الآن، وسيفرح كثيرًا عندما يعلم أن لديه أختًا صغيرة.”
كان وجه أندرو يبدو فخورًا حين تحدّث عن ابنه.
تخيلت كايلا أخًا جامعيًا يبلغ من العمر 18 عامًا.
ثمانية عشر عامًا…
“ذلك الفتى أيضًا… لا بد أنه كان في مثل هذا العمر.”
عندها، عبست دون أن تشعر، فالذكريات عادت تتسلل مجددًا إلى ذهنها، يتردد صدى وقع الحوافر في أذنيها، ويسترجع وجه ذلك الفتى كل ما حاولت طمسه.
الحصان الأسود، صوت الحوافر، ملعب البولو، وذلك الفتى…
كان واقفًا بوجه صارم أمام الإسطبل، يوم التقت به، يوم لم تنسه أبدًا.
كانت تلك المرة الأولى التي رأت فيها ذلك الفتى، ولن تنساه ما حييت.
كلما رأت حصانًا أسود، كلما رأت فتىً في مثل عمره، كلما سمعت صهيلًا غاضبًا، عادت إليها تلك اللحظة.
كان يومًا مشمسًا على غير العادة، والنسيم عليلًا.
ذهبت كايلا مع والديها إلى آشتون لحضور مباراة بولو.
كانت تحب الخيول كثيرًا، وخصوصًا مراقبتها وهي تركض، لذا كانت مباريات البولو من المناسبات المفضلة لديها.
بين ثمانية خيول رائعة، لفت انتباهها واحد مميز.
كان حصانًا أسود اللون براقًا، يمتد من جبهته إلى أنفه خط أبيض، فارع الطول، قويّ الأرجل. وكان ممتطيه فارس يُرى من تحت القبعة شعره الداكن.
اهتزت الأرض تحت وقع حوافره، وقلب كايلا الصغيرة خفق بقوة.
لكن سرعته كانت كبيرة جدًا، أو ربما كان هجوم الفارس شرسًا.
ضرب أحد لاعبي الفريق الآخر الكرة بعصاه، لكنها بدلاً من أن تصيبها، أصابت ساق الحصان الأسود.
صدر صوت مكتوم، وسقط الحصان، وسقط معه الفارس يتدحرج على العشب.
فزعت كايلا ووقفت، وتصاعدت همهمات الجمهور.
نهض الفارس بسرعة، لكن الحصان لم ينهض.
توقفت المباراة، وأُخرج الحصان الأسود على عربة.
“أبي، هل تعتقد أن الحصان سيكون بخير؟ اللاعب لم يُصب، لذا… ربما الحصان لم يتضرر كثيرًا، صحيح؟”
كان صوتها يرتجف.
“أتمنى أن لا يكون قد تأذى كثيرًا، لكن لا أستطيع التأكد.”
“كايلا، لا تقلقي، هناك أطباء يعتنون بالخيل. سيهتمون به جيدًا.”
ربّتت أمها على رأسها بحنان.
لكن كايلا لم تكن لتطمئن حتى ترى الحصان يقوم مجددًا. ولم يكن والدها ليسمح لها بالذهاب لرؤيته.
فقالت إنها ذاهبة إلى الحمام، وهربت نحو الإسطبلات، وسألت أحد الموظفين هناك.
كان أمام الإسطبل نحو عشرة أشخاص، ومن بينهم رأت الحصان الأسود مستلقيًا على العربة.
اقتربت، لكن…
“آنسة صغيرة، من الأفضل ألا تذهبي.”
كان هناك فتى طويل يرتدي زي لاعبي البولو، ملابسه ملطخة بالتراب.
كان شعره الأسود يتدلى على جبينه، وعيناه تتوهجان تحت حاجبيه الشبابيين.
“لست صغيرة.”
قالتها بجدية.
كان من الغريب أن ينعتها بالصغيرة، وهي أطول من بعض النساء، لكنها سرعان ما أدركت أنه أطول منها بكثير، وربما لم يتجاوز السابعة عشرة.
“حسنًا، لستِ صغيرة، بل آنسة صغيرة… على أي حال، لا تقتربي.”
“لست أتطفل… فقط أردت السؤال إن كان الحصان بخير.”
“ذلك… حصاني.”
نظرت إليه بدهشة، وفهمت الآن سبب حزنه.
“لقد كُسرت ساقه. تحطمت عظامه. تعرفين ماذا يعني هذا، أليس كذلك؟”
رغم أن وجهه كان خاليًا من التعبير، لكن كلماته كانت غاضبة.
تحطّمت عظامه… يا له من ألم.
“هل هذا يعني… أنه لن يستطيع المشاركة مجددًا في البولو؟”
نظر إليها بدهشة، وكأنها لا تفهم شيئًا.
“أنت لا تعرفين شيئًا. حين تُكسر ساق الحصان، لا يمكنه العيش. يتألم بشدة… ثم يموت في النهاية.”
“يموت؟”
لم تستوعب. إنها مجرد ساق مكسورة، كيف يكون الموت هو الحل؟ ربما يكذب.
أرادت أن تتحقق، أن ترى بعينيها، لكنه وقف في طريقها.
“لا تنظري.”
“…لماذا؟”
“قلت لا تنظري.”
ذلك الحصان الرائع الذي كان يركض قبل قليل… كيف يقول بكل بساطة إنه سيموت فقط لأن ساقه انكسرت؟ شعرت بالكراهية نحوه.
“لا! لا تتحكم بي!”
وحاولت تجاوزه، لكنه أمسك بذراعها بشدة، ثم غطى عينيها بكفه، بقوة لا تستطيع الإفلات منها.
وقبل أن تصرخ، دوى صوت إطلاق نار مدوٍّ…
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 1"