الفصل 88: “هل ستسمحين لي؟”
“ماذا؟”
في البداية، ظننت أنني أسأت السمع.
“هل ستسمحين لي؟”
لكن في اللحظة التي تقابلت فيها عيناي مع عيني السير جوزيف الحمراوين العميقتين، وهو يميل برأسه ليستند خده إلى يدي، أدركت أن الأمر لم يعد يحتمل المزاح. شعرت بقلبي يهوي فجأة، كأنما انزلق إلى هاوية.
“أنا…”
ماذا أقول؟ كيف أرد؟
تشابكت أفكاري كدمية معطلة، وكأن مفاصل جسدي تصرخ وترفض العمل. لم تكن هذه المرة الأولى التي أختبر فيها لمسة بين رجل وامرأة، فلماذا شعرت بهذا الاضطراب؟ لماذا ترتجف أطراف أصابعي كأنني مبتدئة خرقاء؟
“…ألا يكفي هذا القدر من الاقتراب، يا سير جوزيف؟”
“لا تجعلني أبدو كخرقاء.” بهذا التصميم،
نجحت أخيرًا في رفع ابتسامة متصنعة إلى شفتيّ. ثم قبضت يدي برفق، محاولة دفع خده بعيدًا بحركة متعمدة خفيفة.
“لا.”
لكنه، إما لأنه لم ينتبه أو لأنه تجاهل ذلك عمدًا، لم يترك يدي. بل أمسكها بلطف أكبر، وأطلق صوتًا ناعسًا يتسلل إلى أذني كهمسة:
“أنتِ تعلمين جيدًا أنني لا أقصد هذا النوع من الإذن، أليس كذلك؟”
تفتحت على وجهه ابتسامة كزهرة ورد متورّدة، تتراقص في تألق عينيه البهيّتين.
وأنا…
“على أي حال، نحن…”
قبل أن أتمكن من الرد، اقترب وجهه حتى أصبح على مرمى الحجر مني. أنفاسه الساخنة تلامس شفتيّ، تهمس بإغراء خفي.
“…سنتزوج قريبًا.”
ذلك الحرارة المذهلة جعلت عقلي يغرق في ضباب من الارتباك. كان إغراءً قاتلاً، كأنني على وشك أن أغمض عينيّ وأستسلم كما في حلمٍ عابر.
“استفقي، يا ليزيلوت. لستِ طفلة مندفعة مليئة بالحماس. هل يعقل أن تستسلمي لغرائزكِ في هذا العمر، بعد كل ما مررتِ به من تجارب؟”
لكن، أليس من الجيد أن أستسلم للإغراء؟ كما قال، نحن على وشك الزواج على أي حال.
“لا، لا. أنا لا زلت في فترة الحداد، مما يعني أنني لا زلت زوجة لرجل آخر!”
زوجة؟ فترة حداد؟ أي حداد هذا الذي أتحدث عنه؟
هل يستحق ذلك النذل الفاسد، الذي لا يأكله حتى الحيوان، أن أحترم ذكراه كزوج؟
كانت أصوات داخلي تتصارع، كخيوط عنكبوت رقيقة تحاول الإمساك بعقلي المتأرجح في معركة محتدمة.
وأنا…
“في المرة القادمة!”
في تلك اللحظة، انفلت مني صوت غريب.
“لنفعلها في المرة القادمة. الآن، لديّ الكثير، الكثير من الأمور الأخرى التي يجب أن أهتم بها…”
نهضت فجأة، وسحبت يدي بعنف من بين يديه الكبيرتين اللتين كانتا تحتضنانها. هربت بعيدًا عن السرير كمن يفر من خطر محدق، ولم أتمكن من استعادة أنفاسي إلا بعد أن ابتعدت. يبدو أنني كنت أحبس أنفاسي دون أن أدرك.
ضحك السير جوزيف بهدوء، عيناه الحمراوان تضيقان وهما تتبعانني.
“حسنًا، ما دمتِ قد أذنتِ لي…”
“؟”
“ففي المرة القادمة، لن أحتاج إلى طلب الإذن.”
“اه؟ متى قلت ذلك؟” لم أستطع الاحتجاج أو الشعور بالظلم، فقد كان الأوان قد فات لأتراجع عن كلماتي التي قلتها دون تفكير لأنجو من تلك اللحظة.
“أقصد القبلة.”
* * *
“سأجن.”
لم أستطع طرد تلك اللحظة من ذهني مهما حاولت.
حرارة يده التي غطت يدي، وأنفاسه الرطبة التي مرت على خدي وذقني، لا تزال عالقة كإحساس حي يثير القشعريرة.
تلك الذكرى المرتجفة تحولت إلى خفقان في قلبي.
ألم مشؤوم حقًا، إحساس غريب لم أختبره في حياتي البالغة اثنين وثلاثين عامًا.
لأكون صادقة، لم يكن شعورًا مرحبًا به. لستُ في سن أو وضع يسمح لي أن أنجرف وراء غرائزي.
والأهم، أعرف جيدًا كيف يمكن للمشاعر غير الضرورية أن تعطل العقل. لذا…
“نعم، من الأفضل أن أفكر في شيء آخر.”
هذا أفضل. لأرتب مهام اليوم. هناك الكثير لأفعله على أي حال.
ومع ذلك، كان من حسن حظي أنني تمكنت من إلقاء بعض المسؤوليات على السير جوزيف قبل قليل. شعرت بأكتافي تخف قليلاً.
نعم، لقد نجحت في تكليفه بتسوية تبعات الحادث.
قبل أن أغادر غرفته، طلبت منه مساعدة بسيطة، فوافق بسرور.
بل لم يكن مجرد قبول، كان…
“سعيدًا بشكل مفرط.”
لا أعرف لماذا بدا مبتهجًا لهذا الحد عندما كلفته ببعض العمل، لكنني على أي حال شعرت براحة كبيرة بفضله.
“سأقسم المهام التي سأكلفه بها غدًا بعد أن أستيقظ.”
لكن أولاً، قررت أن أترك السير جوزيف، ذا العينين الغائمتين من الإرهاق، يرتاح قليلاً.
بحسب ما قاله أحد خدمه، لم ينم جيدًا منذ فترة.
كان يستيقظ كل فجر يئن من الألم.
مهما فكرت، بدا لي ذلك عنادًا أحمق من وجهة نظري.
لكن من وجهة نظر السير جوزيف، الذي يتشبث بالبقاء، شعرت بالأسى وأنا أتخيل مدى خوفه من أن أتخلى عنه، ما دفعه إلى إخفاء معاناته بهذا الشكل.
“يجب أن أعامله بلطف أكثر من الآن فصاعدًا.”
كل هذا حدث بسبب شعوره بعدم الأمان الذي تسببتُ به.
لحظة، ألم أكن أفكر في السير جوزيف مرة أخرى؟
“سيدتي، هل انتهيتِ من حديثكِ مع السير جوزيف؟”
“آه!”
انتفضتُ مفزوعة. كانت لوريتا تنتظرني خارج الغرفة.
“ن-نعم، تم حل الأمر.”
بالمناسبة، ما هذا التشنج الذي أصابني فجأة عند سماع اسم السير جوزيف؟
“لكن يا سيدتي، لماذا بدوتِ متفاجئة هكذا؟”
“…لأنكِ ظهرتِ فجأة، هذا كل شيء.”
“يا إلهي، أي خطأ هذا مني! سأحرص أكثر في المستقبل، يا سيدتي.”
“لا بأس.”
شعرتُ بالحرج من لومها بينما كنتُ أنا من تفاجأت.
تجاهلت الأمر بلا مبالاة، فتبعتني لوريتا بابتسامة مشمسة على وجهها المغطى بلصقات الجروح.
بالمناسبة، أصيبت لوريتا بحروق في أنحاء متفرقة من جسدها بسبب الحريق.
لكنها كانت إصابات طفيفة نسبيًا، مما مكنها من مرافقتي منذ وقوع الحادث وحتى الآن.
الآن وأنا أتذكر، عندما أدركت لوريتا اندلاع الحريق، بدأت فورًا بجمع ممتلكاتي الثمينة والوثائق المهمة، مما جعلها تفوت لحظة الهروب قليلاً، فأصيبت بتلك الحروق.
ثم روت لي ذلك بأسى، وهي تلمع عينيها كمن تنتظر المديح.
ضحكتُ في نفسي، فبالنسبة لي، حياة خدمي أهم من أي جوهرة.
“بالمناسبة، السيد الكبير رائع حقًا، أليس كذلك؟”
“تقصدين كاردييل؟ بالطبع، كار هو فتى وسيم وموهوب وذكي في نظر الجميع.”
“بالضبط! حتى سيدتنا أصبحت تتلقى التوبيخ منه الآن.”
“ماذا؟”
من قال إنني أُوبخ؟
“ما الأمر؟ ألم تأتي إلى هنا لأن السيد الكبير أمركِ بالاعتذار للكونت ألفيرون؟ بصراحة، أنا أيضًا أعتقد أنكِ كنتِ قاسية مع الكونت.”
آه، كدتُ أنتفض مرة أخرى عند ذكر السير جوزيف. يجب أن أدفن الموضوع.
“…لقد ندمتُ بما فيه الكفاية، فلنتجاوز تلك المسألة.”
على أي حال، توجهتُ فورًا إلى وجهتي التالية: غرف الأطفال.
كانت المساحات المخصصة لهم متقاربة نسبيًا.
أول مكان طرقتُ بابه كان غرفة يوفيمينا.
“سيدتي، هل أتيتِ؟”
استقبلتني السيدة تيريا، مربية الأطفال التي أصبحت مؤخرًا مسؤولة عن يوفيمينا بشكل خاص، بوجه مظلم وهي تخبرني عن حال ابنتي.
“الآنسة تعافت بشكل جيد، وهي بالداخل الآن. لكن…”
“لكن ماذا؟”
حثثتها على الكلام وهي مترددة، فأطلقت تنهيدة ثقيلة قبل أن تروي لي خبرًا صادمًا:
“بالأمس واليوم، لم تأكل تقريبًا شيئًا، وهي ملفوفة بالبطانية طوال الوقت.”
“ما هذا الكلام…”
“عندما أزالوا الضمادات، رأت ندوب الحروق على ذراعها… فصُدمت. أنتِ تعلمين مدى خوف الآنسة من أي خدش يصيب جسدها…”
لم يكن لديّ عقل لأغضب أو أعاتبها على تأخيرها في إخباري.
دفعتُ السيدة تيريا جانبًا تقريبًا، وفتحتُ باب غرفة نوم يوفيمينا بعنف.
على السرير، كانت هناك كومة من البطانيات مرتفعة بحجم جسد طفلة.
وعلى طاولة قريبة من السرير، كانت وجبات لم تمسها يدٌ متراكمة.
شعرتُ كأن أحشائي تتقطع. كنتُ أفهم شعورها، وهذا ما زاد الألم.
كل أطفالي مميزون بالنسبة لي، لكن يوفيمينا كانت استثناء خاصًا.
لأنها فتاة تشاركني تجارب طفولة مشابهة.
إذا كان كاردييل وتشيلسيان مجرد ألعاب وعبيد في يد زوجي، فكانت يوفيمينا جوهرة نادرة وأميرة.
كان يغدق عليها بكلمات حلوة كالحلوى، يلبسها أجمل الثياب، ويهديها أفضل الأشياء.
لكن ذلك لم يكن حبًا صادقًا أو تربية بحنان.
لا، كان مجرد لعب بالدمى.
دمية جميلة يمتلكها، يزينها بأغلى الأشياء ليتباهى بها.
لقد مررتُ بتجربة مشابهة في طفولتي.
بل إن كل فتاة ولدت في عائلة نبيلة ربما مرت بذلك.
خوفًا من زيادة الوزن، خوفًا من الإصابة، خوفًا من احتراق البشرة، خوفًا من تلف الشعر، خوفًا من…
حياة يصبح فيها النظر إلى المرآة يوميًا لفحص النفس أمرًا طبيعيًا.
“يوفي، هل أنتِ بخير؟”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات على الفصل " 88"