الفصل 110 “المعشوقة دوروثيا”
لكن ما أن وصلوا حتى أثار المشهد الذي استقبلهم تقطيب الحواجب لدى الرفاق دون إرادة.
كان ذلك بسبب البيئة الداخلية الرثة التي تبعث على القلق حيال الأمان.
الجدران لم تكن سوى أحجار متراكمة بعشوائية مع دعامات خشبية لمنع الانهيار، والأرضية عبارة عن تراب مدكوك مغطى بأعشاب جافة مبعثرة بلا عناية.
الهيكل نفسه لم يبدُ كمبنى منظم. أشبه ما يكون بأنفاق حُفرت على عجل لتشكل مساحات عشوائية.
في الوسط، تجمعت قاعة واسعة نسبياً تتفرع منها ممرات قصيرة كأروقة متشعبة، تؤدي كل منها إلى قاعة داخلية أخرى، حيث يبدو أن المزادات تُعقد في كل فضاء على حدة.
كانت الأصوات الصاخبة تتفجر من كل زاوية حتى تصم الآذان.
“ألفا لات تم العرض. نعم، السيد هناك رفع المبلغ إلى ألفين ومئة لات. إن لم يتقدم أحد، سأعد إلى ثلاثة ويُسجل للسيد. واحد، اثنان، ثلاثة… تم البيع!”
“تباً! من يدفع أكثر من ألفي لات لهذا الهراء؟”
“تف، لا متعة هنا. سأذهب لأتفرج على مزاد آخر هناك.”
“اتركوا لي مجالاً! جئتُ خصيصاً لهذا الغرض!”
حتى هذا الكهف الضيق كان مكتظاً بالبشر لدرجة أن الحركة صارت شبه مستحيلة، ناهيك عن الضجيج المحيط الذي يؤلم الأذنين.
لتبادل كلمة واحدة مع الرفاق، كان لا بد من الهمس مباشرة في الأذن، وإلا لضاعت الكلمات عبثاً.
“تعرفون إشارات المزاد، أليس كذلك؟ إذن، استمتعوا بحرية، كِكِك.”
لم يحاول الدليل، الذي كشف عن أسنانه المتهالكة والمتساقطة دون اكتراث، إخفاء ضحكته المزعجة، ثم استدار عائداً من حيث أتى.
راقبه كارديال وهو يصعد الدرج الضيق مجدداً، ثم استنشق أخيراً نفساً كان يكتمه. كم كان الرائحة كريهة حقاً.
“على أي حال، هذا يختلف تماماً عما توقعته.”
تطلع الأمير رافانيل حوله بفضول، يميل رأسه يمنة ويسرة مستكشفاً المكان.
كان المارة يلتفتون إليه بين الحين والآخر. على الرغم من قبعته التي أخفت ملامحه، بدا أن هيبته الطبيعية تجذب الأنظار رغماً عنه.
“بهذا الشكل، سيكون من الصعب معرفة أين يُباع ما نريده…”
“لا تقلقوا بشأن ذلك، سم… أقصد، كَهِم، سيدي الشاب.”
تولى خادم الأمير رافانيل مهمة الإرشاد بعد ذلك.
“الأغراض الثمينة تُعرض في القاعة الأعمق لتجنب أي حوادث غير متوقعة. يجب أن تكون هنا، تعقبوني.”
تقدم الأربعة عبر القاعات والممرات المزدحمة حيث كانت المزادات على أشدها، متجهين إلى أعماق السوق السوداء.
لكنهم، خلال تنقلهم، اضطروا مراراً إلى تقطيب جباههم وهم ينظرون إلى المشاهد المحيطة.
“انظروا! هذا الشاب الجميل من نسل أرستقراطي مفلس، لم يذق اللحم قط منذ ولادته، مما منحه بشرة ناعمة لامعة. نبدأ المزاد من خمسمئة لات.”
بل أحياناً، كان عليهم أن يجبر وا أنفسهم على مواصلة السير وكبح غضبهم بعد توقف لا إرادي.
“سموك… أقصد، سيد رافانيل! تظاهر بالجهل، هذا طبيعي هنا.”
“حتى لو كان كذلك، تجارة العبيد غير قانونية…”
“هذا المكان بأكمله غير قانوني. لذا، من فضلك، لا تثر المشاكل…! أليس لدينا هدف؟”
“تف…”
“…العم سيرجي أيضاً، استمر في السير. إن لم تكون تريد أن يُساء فهمك على أنكمط مهتم بعبد جميل.”
“….”
كان الأمير رافانيل يشد قبضته بعينين تلتمعان غضباً.
أما سيرجي، فغطى عينيه الخضراوين اللطيفتين بظلال داكنة، وثبت تعبيراته ببرود.
فكر كارديال أنه لولا وجوده، لما استطاع أحد كبح جماح هؤلاء البالغين العاطفيين عن تصرفات متهورة.
حتى أن إحساسهما بالعدالة استمر في إثارة قلق رفاقهما مرات عديدة بعد ذلك.
بعد عناء وتخبط، وصل الأربعة أخيراً إلى قلب السوق السوداء.
كان الجو هناك مختلفاً تماماً عن قاعات المزاد التي مروا بها.
أقمشة داكنة متسخة تتدلى كستائر على الجدران والسقف، وأرضية مغطاة بما يشبه السجاد، وإن كان مجرد خرق بالية.
والأهم، كونها القاعة الأعمق، كادت تخلو من الأصوات العالية.
بل كان الجو مشدوداً وجدياً، أقرب إلى ما يعرفه كارديال عن قاعات المزادات.
“…نعم، إذن، بروش حجر القمر العالي الذي كان ملكاً للأميرة أورتنسيا قد ذهب لهذه السيدة الجميلة مقابل مئة واثنين وخمسين ألف لات.”
كان للتو قد تم بيع غرض ما.
حدث يستحق الاحتفال، لكن الأمير رافانيل، لسبب ما، عَقَد حاجبيه مجدداً.
“بروش حجر القمر العالي للأميرة أورتنسيا… أعلم أنه اختفى فجأة يوماً ما. لم أتوقع وجوده هنا.”
كان مسروقاً، بلا شك.
تنهد الرفاق في صمت متزامن. هذا السوق السوداء كان حقاً وكراً للجريمة وكل ما هو محظور.
“لو وصلنا أبكر قليلاً، لاستعدنا إرث الأسلاف… يا للأسف.”
كان ذلك مؤسفاً، لكن لا مفر منه.
لقد تعمدوا القدوم متأخرين، إذ يُعرض تراث عصر السحر في النهاية.
على أي حال، وبناءً على دعوة المزاد، سُلم البروش المسروق فوراً لمن فاز به.
يبدو أن الدفع والاستلام يتم في الحال هنا.
والمصادفة أن الفائزة كانت امرأة تقف على بعد خطوات من الرفاق.
كانت خصلات شعرها الفاتنة التي تتدلى خارج القبعة لافتة للنظر.
“أوه؟”
“…!”
آه، يبدو أنه طال النظر إليها.
شعرت بنظراتهم، فالتفتت المرأة، وتقاطعت عيناها مع عيني كارديال.
كانت عيناها زرقاوين كالبحر، مذهلتين لدرجة تستحق الإعجاب.
والأكثر من ذلك، كانت تمتلك جمالاً فاتناً جعل كارديال يحدق دون وعي كمن سُحر.
ومع ذلك، كان من الصعب تحديد عمرها.
بشرتها تبدو كما لو كانت في العشرينيات أو الثلاثينيات، لكن هالتها الغامضة تشي بشيء آخر.
ربما كانت امرأة في الأربعينيات أو الخمسينيات تحافظ على جمالها الطبيعي بعناية فائقة، وهو تفسير أكثر منطقية.
مثل ليزلوت التي تبدو بشرتها كأنها في أوائل العشرينيات.
آه! في تلك اللحظة، رسمت عيناها منحنىً مغرياً.
أدار كارديال بصره فوراً في ارتباك، لكن المرأة، ولدهشته، بدأت تقترب منهم ببطء.
“ههه، مرحباً، يا صغيري. أراك لأول مرة هنا. هل هؤلاء الثلاثة رفاقك؟”
“….”
كان ذلك خطأً محرجاً. انتبه سيرجي لاقترابها، فدفع كارديال إلى الخلف وتقدم هو.
“ما الأمر؟”
“همم، ثلاثة رجال وسيمون هنا، واحد، اثنان، ثلاثة؟ أوه، أعتذر عن ذلك.”
“سألتُ، ما الأمر؟”
“يا للعجب! امرأة جميلة تقترب وتبادر بالتحية، وتتعاملون بجفاء؟ سأتغاضى عن ذلك. أنتَ وسيم حتى بعين واحدة.”
“…إن لم يكن لديكِ أمر، فلنتابع شؤوننا.”
كان سيرجي، في محاولته حماية كارديال، بارداً ودفاعياً للغاية.
نبرته القاسية وهيئته المتعالية بدتا غريبتين تماماً.
حتى كارديال شعر بالذهول، متسائلاً إن كان هذا الجانب موجوداً فيه من قبل.
لكن المرأة التي اقتربت لم تبال بموقف سيرجي.
بل زينت شفتيها بابتسامة رقيقة وتصرفت بمزيد من الود:
“يا للأسف. الشاب الصغير هو من لفت انتباهي أولاً. يا صغيري، إن أعجبك البروش، أأهديه لك؟ أو إن كنتُ أنا من أعجبتك، يمكنني تخصيص وقت لك.”
“ها…!”
سارع الأمير رافانيل لتغطية أذني كارديال بيديه.
كانت كلماتها جريئة وغير لائقة لقاصر مثله.
“لا أدري لمَ كل هذا الاندهاش. هل أصبحتَ بالغاً للتو، يا صغيري؟”
ضحكت المرأة بمرح، ثم، كمن أنهت مزاحها، قدمت نفسها دون أن تُسأل:
“أنا دوروثيا. المعشوقة دوروثيا. لا أحد في هذا العالم السفلي لا يعرفني. وأنتم، من تكونون؟”
“لا داعي لتعرفي.”
مرة أخرى، رسم سيرجي خطاً حازماً دون تردد.
هنا، بدأت شقوق تظهر في ابتسامة المعشوقة دوروثيا.
“يا للوقاحة. من يعاملني بقلة أدب كهذه سينتهي به الأمر بالندم، حتى لو كان من نوعي المفضل.”
“وقاحة؟ تتحدثين كالنبلاء. أنتِ من تبدئين لقاءً أولياً بكلام بذيء وتتلاعبين بالآخرين، فعليكِ إعادة التفكير في الأدب.”
“ها، ماذا قلت؟”
“صخبكِ مزعج. إن كنتِ هنا للمزاد، ركزي على الأغراض بهدوء.”
في النهاية، تغيرت ملامح المعشوقة دوروثيا.
عضت شفتها السفلى وهي ترتجف غضباً، ولم تعد تبدو وجهها الفاتن جميلاً.
أضاءت عيناها بنظرة قاتلة، وتحولت تعابيرها المشوهة إلى قناع شرير مرعب.
“…سأجعلك تندم على كلماتك تلك.”
بهذا، عادت إلى مكانها بخطوات واسعة، دون أن تنسى إلقاء نظرات نارية على الرفاق لفترة طويلة.
لم يرف لسيرجي جفن أمام نظراتها اللاذعة المرعبة.
بالنسبة له، كانت أولويته كحامٍ هي التأكد من حالة كارديال.
كذلك، أرخى الأمير رافانيل يديه عن أذنيه أخيراً.
“هل أنتَ بخير؟”
“…نعم.”
دون أن يلاحظوا، كانت كل الأعين حولهم مثبتة عليهم.
حتى منظم المزاد بدا منتبهاً لهم.
لذا، احتفظ كارديال بما كان يود قوله:
“…ألم تُشبه تلك المرأة شخصاً ما؟”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
الرواية مكتملة الترجمة على قناة التيلغرام الرابط فحسابي عالانستا او فالتعليق المثبت في التعليقات 💗
حسابي عالانستا : annastazia__9
التعليقات لهذا الفصل " 110"