كانت شارلوت تُعشِق القِيَمَ القديمة كما تُحبّ الكتبَ العتيقة. مسؤولياتُ العائلة المالكة، الواجب، الشَّرَف… كانت هذه بالنسبة إليها قيماً لا يجوز أن تُدنَّس مهما تغيَّرت الأزمنة. لكن السنينَ الطويلة همست لها، من جهة أخرى، بحقيقة الواقع.
ما مضى لا يُمكن استرجاعُه.
منذ أن شهدت تصرُّفَ يوريك المُذهل، لم تَنبس بكلمة واحدة عن الخِطْبة. ذلك اليوم، كان ابنُ أختها الذي رأته لم يَعُد في موضع يُمكن لها أن تُثنيه عنه. لقد تخلَّى عن المظاهر وكل شيء، وغرقَ في حمّى الحبّ بكلِّ قوة.
— أتمنَّى ألَّا يتكرَّر مثل هذا الأمر مع خطيبتي مجدداً.
كان طلبُ يوريك غير المُبالي يُثير الدهشةَ في نفسها. هل كان ذلك الفتى يعرف أن يتفوَّه بمثل هذه الكلمات؟
لطالما اعتبرت أختَها الصغرى التي رفضت عرشَ الملكة بنفسها أمرًا مثيرًا للشفقة… لكن نتيجةَ ذلك الاختيار كانت تيودور غلاسهارت، وهذا كان محضَ حظٍّ سعيد. رجلٌ يؤدّي واجباته بصمت، يبني الثقةَ بأفعاله لا بكلماته.
في شبابها، حين كانت تتحمَّل تبعات تصرُّفات والدها غير المسؤولة، كان هو بالنسبة إليها الشخصَ “المرضي”. وبالنظر إلى طباع إليسا الحرة، بدا هذا الثنائي غيرَ متناسق على الإطلاق، مما جعل الأمرَ مفاجئًا.
— أختي، يجب أن أتزوَّج هذا الرجل. أنا مَن يتحمَّل مسؤوليته!
— ما الذي فعلتِه، يا فتاة؟ لماذا على أميرةٍ أن تتحمَّل مسؤوليةَ دوق؟
— أوه… لا، هناك شيءٌ ما.
كيف لا، وقد جاءت مسرعةً من فينتلاند في لمح البصر.
أمام ذلك التعبير الغريب على وجه أختها الصغرى التي راقبتها منذ الطفولة، ظلَّت شارلوت عاجزةً عن الكلام لفترة. لكن ما أراحها قليلاً هو أن يوريك، الذي وُلد من هذين الاثنين، كان نسخةً طبق الأصل من والده. لقد نما رجلاً يعرف شرفَ الأرستقراطية ومسؤولياتها.
ظنَّت أن هذا سيظلُّ كحقيقةٍ لا تتغيَّر. لكن ابنَ أختها خيَّب آمالَها في النهاية، تمامًا كما فعلت والدتُه.
“دماءُ إيلانكو اللعينة. حقًا عنيدةٌ للغاية.”
على الرغم من هذا الهمس الخافت الذي تفوَّهت به شارلوت، لم تُبدِ أستريد، التي كانت جالسةً بجانبها، أيَّ ردِّ فعل. كلُّ ما فعلته هو أنها أخذت تُربت على رأس ابنها بهدوء.
“كم عمرُك الآن حتى لا تستطيع أكلَ حلوى واحدة بطريقة صحيحة؟”
لكن ما لفت انتباهَها كان فتاتُ الحلوى الملتصق بجانب فمه.
“يُقال إن الدمَ لا يُخدَع.”
نظرتها إلى حفيدها كانت تحمل شيئًا من الامتعاض. حتى حركتُه وهو يُنزل الحلوى بحذرٍ ويتطلَّع إليها أثارت فيها شيئًا من الضيق الخفيف.
أدارت شارلوت رأسَها لتُمعن النظرَ في أستريد من أعلى إلى أسفل.
“ومع ذلك، يوريك أفضلُ منكِ. على الأقل ينوي الزواجَ من امرأةٍ نبيلة، ولو كان ذلك مجردَ مظهر.”
لم تُبالِ شارلوت بشحوب وجه ابنتها، وتنفَّست بعمق.
ما دام الأمرُ قد وصل إلى هذه النقطة، فليس هناك خيارٌ آخر.
كان عليها أن ترفع مستوى إديث هاميلتون، بأيِّ طريقةٍ كانت، لتصبحَ جديرةً بأنظارها.
***
كان ذلك اليومَ ممطرًا بشكلٍ استثنائي. كانت قطراتُ المطر الغزيرة تطرق سقفَ القصر بلا توقُّف في تلك الأمسية.
توقَّفت عربةٌ سوداء تحمل شعارَ العائلة المالكة في قينتلاند بهدوء أمام بوابة القصر الدوقي.
“آنسة هاميلتون، أعتذر عن الإزعاج… لكن جلالةَ الملكة شارلوت قد وصلت.”
كان الخبر الذي أوصله أندرسون بمثابة صاعقة. نهضت إديث، التي كانت ترسم في الأستوديو، على عجلٍ من مكانها. سقطت فرشاتُها فأحدثت أثرًا على الأرض.
يا للحظِّ العاثر. كان جميعُ سكان القصر خارجَه في تلك اللحظة. لم يكن هناك سواها لاستقبال الضيفة.
لم يكن بإمكانها أن تُرسل الملكةَ التي جاءت دون إشعارٍ مسبق. رتَّبت ملابسَها على عجل، وهدَّأت أنفاسَها داخليًا بينما كانت تهبط الدرج.
“جلالةُ الملكة.”
شارلوت، التي كانت جالسةً على أريكة غرفة الاستقبال، لم تُدر رأسَها على الرغم من شعورها بوجود إديث.
“أنا وحدي في القصر حاليًا. لذا اضطررتُ لاستقبال جلالتِك بنفسي.”
“لا بأس. على أيِّ حال، كان لي شأنٌ معكِ.”
على عكس إليسا التي تُفضّل الألوانَ الزاهية، كانت شارلوت ترتدي، كما هي عادتُها، فستانًا أرجوانيًا داكنًا. أزرارُه المُحكمة حتى العنق ووقفتُها المتزمتة جعلتا إديث تشعرُ بالاختناق.
شأنٌ معها؟
ألم تتعامل معها منذ ذلك اليوم كأنها غيرُ موجودة؟
أشارت شارلوت بعينيها نحو الأريكة المقابلة دون تفسيرٍ إضافي، في إشارةٍ إلى أنها لن تُبقيها واقفةً على الأقل.
جلست إديث بحذر، وخيَّم صمتٌ ثقيل بينهما بينما كان أندرسون يُعدُّ المرطبات.
لم تفتح شارلوت فمَها إلا بعد أن برد الشايُ تمامًا.
“فناجينُ خزفٍ تحمل اسمَكِ. يا لها من لعبةِ حبٍّ صاخبة.”
كانت الفناجينُ مزيَّنة بأنماطٍ دقيقة من زهور النرجس الصفراء. كانت تلك المجموعةَ الخزفية التي عُرضت في المعرض. لكن إديث نفسَها كانت تخجل من استخدامها.
كان أندرسون يعرف ذلك جيدًا، لكنه أصرَّ على إحضارها. بدا أن الخادمَ العجوز يريد أن يُبرز حبَّ سيِّده بطريقةٍ خفية.
“يا للمبالغة.”
وضعت شارلوت الفنجانَ جانبًا وهي تُصدر صوتَ استهجان، ثم انتقلت إلى صلب الموضوع.
“خلال إقامتي في إيوتن، أودُّ أن تكوني وصيفتي.”
أن تُخدمَ أميرةَ إيوتن وملكةَ فينتلاند هو، ظاهريًا، شرفٌ لا يُضاهى. لكن بالنسبة إلى إديث، كان من الصعب تخمينُ النوايا.
“…إنه شرفٌ عظيم، لكنني لا أعرف إن كنتُ سأتمكَّن من خدمة جلالتِكِ على النحو الأمثل.”
ألم تُحضر معها من المملكة عددًا كافيًا من الحاشية؟ هل تحتاجُ حقًا إلى مساعدة؟ أم أنها تريد إبقائي قريبةً لتُزعجني عمدًا؟
“لا أتوقَّع منكِ أن تُرضي ذوقي.”
أومأت شارلوت برأسها بهدوء وأكملت.
“لذا، ألا ترينَ أنكِ بحاجةٍ إلى تعليمٍ مناسب؟ إنني أتساءلُ عما إذا كنتِ قادرةً حقًا على أداء دورِ زوجةِ دوق بكفاءة.”
مرَّت نظرةُ شارلوت الحادة على إديث بسرعة.
بالتأكيد، لم يكن دورُ سيدةِ عائلةٍ أرستقراطية كبيرة أمرًا هيِّنًا.
لقد تعلَّمت من والدتها الآدابَ بما فيه الكفاية. لكن أن تقفَ كزوجةِ دوقٍ في قلب الدوائر الاجتماعية كان شأنًا مختلفًا تمامًا.
حتى تلك اللحظة، كانت تتصرَّف بهدوءٍ كسيدةٍ نموذجية لتتجنَّب الانتقادات. لم يكن لديها لا الطباعُ ولا الظروفُ لتقودَ الأجواء بنفسها.
لذا، بعد خطوبتها من يوريك، كان عليها أن تتعلَّم كلَّ شيء من جديد. الحفلاتُ العشائية، المناسباتُ الخيرية، استقبالُ الزوار…
كم كانت الأمورُ التي يجب أن تُراعيها كثيرة.
بالنسبة إليها، التي كانت تطمحُ فقط لأن تكونَ رسامة، كان ذلك عبئًا ثقيلًا إضافيًا.
بالطبع، لم يبدُ أن يوريك يُعير ذلك اهتمامًا كبيرًا.
“نعم، لذلك أتعلَّم الكثيرَ من السيدة إليسا. لقد كانت مساعدتُها كبيرة.”
“بالطبع، هذا متوقَّع. لو كانت أختي حقًا هي مَن علَّمتكِ.”
…كانت الملكةُ تعرف أختَها الصغرى أكثرَ من أي شخصٍ آخر. حادت إديث بنظرها بخجل.
التسوُّق، زيارةُ المطاعم، اختيارُ فساتين الحفلات-
معظمُ الوقت الذي قضته في القصر الدوقي كان أقربَ إلى “اللعب”. كانت أوقاتًا ممتعة، لكنها بالتأكيد بعيدةٌ عن التعليم.
“سأسألُ بصراحة. هل سترفضين؟”
للحظة، خيَّم صمتٌ قصير على غرفة الاستقبال. بصراحة، كانت شارلوت شخصًا يُسبّب لها الإزعاج. لكن هل كان بإمكانها أن تقولَ “لا” بوضوح في هذا الموقف؟ كان ذلك مخالفًا للأدب.
“إن كنتِ لا ترغبين، فلن أُكررَ العرض.”
كان تردُّد إديث إجابةً كافيةً لشارلوت، التي نقرت بلسانها ونهضت من مكانها ببطء.
“تحمُّل دورِ زوجةِ دوقٍ بحبٍّ وحده ليس بالأمر السهل.”
بدا أن الملكةَ تراها كفتاةٍ ساذجة من قصةٍ خيالية لا تعرف شيئًا عن العالم.
لم تتوقَّع أن تتلقَّى مثلَ هذا التعنيف من خالة خطيبها، حتى والدته لم تفعل ذلك.
لو كانت قد خطبت يوريك بحبٍّ حقيقي، لما شعرت بهذا الظلم. لم تعرف شارلوت كم من التفكير والتردُّد رافقَ قرارَها.
“لا مفرَّ من ذلك. كنتُ أتوقَّع فتاةً أكثرَ ذكاءً… لكن يبدو أنكِ، كابنةِ تاجر، بطيئةٌ في الحساب.”
كلماتٌ قالتها بشفتين متشنّجتين. كان نبرةُ شارلوت باردة، لكن فيها من التحفيز المتعمَّد أكثرَ من الخيبة.
“يوريك، يا له من مسكين. أن تكونَ زوجتُه بهذا المستوى الرديء.”
كان ذلك استفزازًا صريحًا لأيِّ أحد. وكان أكثرَ الكلمات التي تركت جرحًا عميقًا في قلب إيديس. في النهاية، رفعت رأسَها وهي تعضُّ شفتيها بقوة.
“…سأفعلُ.”
كان صوتُها خافتًا لكنه واضح. في تلك الكلمة الواحدة، كان هناك غضبٌ مكبوت تجاه السيدات النبيلات اللواتي استصغرنها، وكرامةٌ كبحتها مراتٍ ومرات.
“على أيِّ حال، مهما فعلتُ فلن أرضيكِ.”
كانت كلماتٍ خرجت كالتحدّي. لكن لا بأس. ألم يقل يوريك إن عليها أن تتصرَّف بثقة؟
“سأبذلُ قصارى جهدي.”
نظرةٌ حازمة واجهت شارلوت مباشرة. في تلك اللحظة، ارتفع زاويةُ فم الملكة قليلاً.
“لديكِ بعضُ الجرأة.”
لأول مرة، ظهر شيءٌ يُمكن تسميتُه عاطفة على ذلك الوجه البارد.
— ترجمة إسراء
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 55"