بدت تصرفات يوريك وكأنها نوع من العلاج بالصدمة بالنسبة إلى شارلوت.
كانت الملكة، التي كانت ترتجف عيناها كمن شاهد أمرًا مذهلاً، تبدو كشخص فقد كل حماسته في لحظةٍ واحدة.
تلاشى اهتمامها المزعج بإديث في غمضة عين، وانتقلت أنظارها بدلاً من ذلك إلى إدوارد.
“كف عن التيهان وتزوَّج سريعًا. بصفتك وليّ العهد، عليك واجب إنجاب وريثٍ للعرش الإمبراطوري.”
استمرت شارلوت لفترةٍ طويلة، بل لوقتٍ طويلٍ مملّ، في إلقاء مواعظ صارمةٍ وطويلة. والمدهش أن إدوارد كان يستمع إليها طوال الوقت بابتسامةٍ لا تفارق وجهه.
“معذرةً، لكنني بحاجةٍ إلى الراحة. ما زلت أشعر بإرهاق السفر.”
أخيرًا، انتهى العشاء، و نهضت شارلوت من مكانها بتعبٍ واضح.
حتى انتهاء المأدبة، كان يوريك يتصرف كعاشقٍ مغرمٍ حد الثمالة، يتودد إلى إديث باستمرار.
نعم، “يتودد” هي الكلمة الأنسب لوصف تصرفاته.
“كفى، لقد شبعتُ الآن. توقف من فضلك.”
كلما رفع يوريك الشوكة بنيّةٍ واضحة، كانت أنظار كل أفرادِ العائلة المالكة تتجه نحوهما تلقائيًا.
كان الجميع ينظرون إلى يوريك وهو يُطعم خطيبته بنظراتٍ ملؤها الرضا، باستثناء شخصين فقط من العائلة الملكية لـفنتلاند.
شارلوت تجاهلت الأمر بجهدٍ واضح، بينما اكتفت أستريد بإلقاء نظرةٍ باردةٍ إلى طبقها.
لم يضع يوريك الشوكة من يده إلا بعد أن بدأت إديث تتذمر من شعورها بالاختناق.
“آنسة هاميلتون.”
بينما كان المدعوون يغادرون واحدًا تلو الآخر، اقترب إدوارد من إديث.
كان يحمل تعبيرًا يشوبه شيءٌ من المرارة، و أمال رأسه إلى الجانب وهو يقول:
“لا تأخذي كلام عمتي على محمل الجد. كما رأيتِ، لقد تلقيتُ أنا أيضًا نصيبي من التوبيخ.”
حقًا، كان زير نساء يعرف كيف يراعي مشاعر المرأة بدقة. كم هو لطيفٌ منه أن يتأكد من عدم تأثرها بما حدث!
تابع إدوارد بابتسامةٍ مرحة:
“على أي حال، لا يوجد في هذا العالم من يرضي ذوقها. ربما كان يوريك الاستثناء الوحيد؟”
غمز إدوارد بعينه مازحًا، فضحك يوريك ضحكةً خافتة.
“حسنًا، حتى لو كان الأمر كذلك، فلم يعد كذلك الآن. لكنني أتفق معك في ألا نهتم بكلامها.”
“صحيح، لا تضعي الأمر في قلبك.”
وقفت إديث مشدودة القامة تحت أنظار الرجلين، وهي تصفّي حنجرتها قبل أن تقول:
“أنا حقًا بخير.”
إذا ما قيست الصدمة النفسية، فالملكة هي من تلقت الأثر الأكبر على الأرجح.
“لم أسمع كلامًا قاسيًا كما توقعت.”
ابتسم ولي العهد ابتسامةً خفيفة بدلاً من الرد. بدا الحديث وكأنه قد انتهى، لكنه لسببٍ ما بدا مترددًا في مغادرة مكانه.
هل كان لديه المزيد ليقوله؟
بعد أن حرّك شفتيه للحظات، أخرج أخيرًا ما يشغله:
“كح، آنسة هاميلتون، هل تعرفين شيئًا عن أخبار الآنسة إيلزبري؟”
“الآنسة إيلزبري؟”
كان سؤالاً خافتًا، كمن يحرص على عدم لفت الانتباه، لكن الفضول فيه كان واضحًا جدًا.
لم تكن إديث ومارغريت صديقتين، فلماذا يسأل عن أخبارها هنا؟ لكن-
“نعم، أعرف.”
للأسف، كانت إديث على درايةٍ تامة بأخبار مارغريت، فقد كانت كاساندرا ترسل لها رسائل دورية عن حال صديقتها.
يمكن القول إن ولي العهد اختار الشخص المناسب لاستخلاص المعلومات.
“لقد ذهبت إلى القصر الصيفي في الجنوب، للنقاهة.”
بالأحرى، كان الأمر أقرب إلى “الحبس”.
في السابق، عندما كانت مارغريت تطارد يوريك، تم حبسها في القصر الصيفي وحظر عليها الخروج.
هذه المرة، يبدو أنها تلقت عقوبةً أشد بسبب مطاردتها لولي العهد.
حتى الماركيز إيلزبري، الذي كان متساهلاً مع ابنته، غضب غضبًا شديدًا، بحسب ما سُمع، بل ووضع حارسًا لمراقبتها، فمن الصعب أن تتمكن من الهرب بسهولة.
“آه، فهمت.”
أومأ إدوارد برأسه كمن أدرك الأمر. لاحظت إديث أن تعبيره أصبح أكثر إشراقًا قليلاً، فضيّقت عيناها.
“هل يُعقل…؟”
“آه، لا، لا، ليس كذلك.”
لوّح ولي العهد بيده بسرعة، كمن ينفي أي سوء فهم قد تكون إيديس قد توصلت إليه.
“فقط، لأنها لم تطاردني مؤخرًا، شعرت بالفضول فجأة، هذا كل شيء.”
“الآنسة إيلزبري لا تجد الرجال الذين يحبونها جذابين. إذا كنت جادًا، فمن الأفضل ألا تظهر اهتمامًا بها أبدًا.”
يا لها من مأساة أن تحب شخصًا وتضطر للتظاهر بعدم الاهتمام به طوال حياتك!
حب مارغريت يشبه الغوص في نهرٍ ممنوع العبور.
لكن، قلوب البشر لا تطيع دائمًا ما نريد.
“قلت إن الأمر ليس كذلك.”
ضحك إدوارد ضحكةً خفيفة وهو يخدش خده. كانت في ضحكته تلك لمحةٌ من الاضطراب، لم تكن خفيفةً تمامًا.
في العربة المتجهة إلى قصر الدوق، لم يكن هناك سوى يوريك و إديث.
بفضل إليسا التي قالت “اذهبا معًا بهدوء” وصعدت إلى عربة أخرى استعارتها من القصر الإمبراطوري.
كانت أضواء مصابيح الشوارع تمرّ بسرعة خارج النافذة. بين وميض الأضواء المنعكسة على زجاج العربة، لم يكن يُسمع في الداخل سوى صوت العجلات الهادئ.
في الأيام العادية، كانت إديث تثرثر بلا توقف بجانبه، لكنها الآن صامتة تمامًا، مما جعل الصمت يبدو أثقل.
تسللت نظرة يوريك إلى إديث، التي كانت تحدق خارج النافذة بهدوء، غارقةً في أفكارها.
“ما زلتُ أشعر أن معدتي على وشك الانفجار.”
ربما لهذا السبب، بدت همستها العابرة وكأنها نسمةٌ منعشة.
“كم أكلتِ حتى تشعري بهذا؟”
“ليس من حق من أطعمني أكثر من طبقٍ كامل أن يقول هذا.”
نظرت إليه إديث بنظرةٍ حادة، وكانت تعابيرها المليئة بالحيوية، على عكس ما كانت عليه قبل قليل، مُرضيةً جدًا.
“الآن تبدين كعادتكِ.”
كان يعلم أن الناس يتحدثون عن خطيبته بكلامٍ هنا وهناك.
لكنه لم يكن يهتم. قليلون هم من يجرؤون على قول مثل هذا الكلام أمامه مباشرة.
شارلوت كانت الاستثناء الوحيد.
مهما قال الناس… فقد اختارها بالفعل، فما الذي سيتغير؟ منذ اللحظة التي قرر فيها الزواج من إديث، أصبح كل شيء آخر – الخلفية، المظهر، الشخصية – بلا معنى.
المهم الوحيد هو إديث هاميلتون نفسها، الشخص المرتبط به باللعنة.
“بالمناسبة، يوريك أنتَ حقًا تُثير الشفقة. حتى لو كان ذلك بسبب اللعنة، بالتفكير في أنكَ تقوم بمثلِ هذه الأمورِ المبتذلة أمام أقاربك!”
لم تكن إديث تدرك هذا الأمر، لكن تصرفاته السابقة كانت بمحض إرادته ولكن، لم يكن هناك داعٍ لتصحيح هذا الافتراض.
“مبتذلة؟ ألم تكن تصرفاتٍ لطيفة؟”
“اللطف ليس هكذا!”
ومع وجهٍ محمرّ تمامًا، تابعت إديث وهي تتساءل عما يفكر فيه:
“يجب أن يجعل اللُطف القلب يرتجف!”
“كم أنتِ صعبة الإرضاء.”
فهل يعني ذلك أن قلبها يصبح جافًا عندما تكون معه؟ حقًا، كان من الصعب فهم ذوق خطيبته.
بدت وكأنها ستقول شيئًا آخر، لكنها ابتلعت كلامها. وبعد لحظاتٍ من الصمت، خرج صوتها من جديد.
“منحرف.”
“فجأة؟”
“أنت… لمستَ شفتي، و ثم لعقت بلسانك… صارحني، أنت وولي العهد كنتما تلتقيان بالفتيات معًا، أليس كذلك؟”
تسربت ضحكةٌ خافتة من فم يوريك.
“لا، ليس صحيحًا. وصححي كلامك، قد يساء فهمه. لقد لعقتُ إصبعي، وليس شفتيك.”
“ليس هذا ما قصدته!”
نعم، هذه هي ردة فعلها.
كان بدايةً غير مرغوبة، لكن الآن، بدا أن غياب إديث من جانبه سيترك فراغًا.
عيناها المرفوعتان بمكرٍ، وشفتاها المنتفختان كالبطة عندما يسخر منها…
“من الأفضل أن تفرضي هيبتك.”
لم يكن يريد رؤيتها تنزوي تحت وطأة اتهاماتٍ لا داعي لها.
“ماذا؟”
“أعني، إذا حدث شيءٌ كهذا في المستقبل، تصرفي بثقة.”
نظرت إليه إديث للحظةٍ بدهشة، ثم ضحكت ضحكةً خفيفة.
“كيف عرفتَ ماذا سأقول؟”
“أي شيء.”
“ماذا لو بدأتُ أستغل اسمك في كل مكان؟”
حتى عند كتابة العقد، أو عند الحديث عن الشريك المثالي، كانت إديث دائمًا تؤكد على أهمية التفاصيل، وهي تهز رأسها قليلاً.
“لا بأس.”
نظر يوريك بهدوء إلى النافذة وأضاف:
“لأنكِ الشخص الذي وقعتُ في حبه من النظرة الأولى.”
لم تكن تلك الكلمات صادقة بالتأكيد.
لكنها لم تعد صعبة النطق كما كانت في السابق.
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 54"