كان الذي نقل حجر الشفق الأزرق من المخزن ليس سوى أهفين. فما إن عاد من الحملة حتى خبّأه على نحو سرّي ليحفظ عهده مع ميلودي.
غير أن المعبد لم يمض وقتٌ طويل حتى بدأ يسأل عن مصير ذلك الحجر، الذي كان وجوده قد نُسي منذ زمن.
توقّعوا أنه سيُستخدم لمعالجة داء التحجّر السحري، لكن لم يُستعمل في أي أمر.
ثم جاءت أوامر بإيقاف البحث عنه. كل شيءٍ عنه كان مفاجئاً للغاية.
“وماذا قالوا عن سبب منع البحث؟”
“قالوا أنه كان لمجرد جردٍ للمخزون، وبما أنه لن يُستعمل أُخرج من نطاق الإدارة.”
كانت الكلمات تبدو مقنعة، لكنها بالغة العجلة ومصطنعة على نحو مريب.
“ثم…..هل رأيت هذا؟”
قطع ديرين شرود أفكار أهفين وهو يمدّ أمامه الصفحة الأولى من الصحيفة.
[صاحب السمو ولي العهد رايون، يظهر في حي الفقراء حاملاً دواءً مصنوعاً بأداةٍ سحرية. ينقذ الأرواح.]
العنوان العريض أسرّ النظر.
ومع قراءته السريعة للسطر تلو السطر، لان بريق عيني أهفين.
‘لقد أنقذت الناس مرة أخرى.’
وبدت له صورة ميلودي ماثلةً في ذهنه.
لم يستطع أن يرفع عينيه عن الصحيفة لبرهة طويلة. فوجود ميلودي الذي اختُصر في بضع كلمات، بدا له كضوء خافت يخترق ظلاماً طويلاً.
وكأنما كان يهمس له أن قراره بتشويه الجثة لإخفاء الحقيقة لم يكن خطأ.
“هل ترغب بأخذها معكَ لتقرأها؟”
قال ديرين ذلك، وقد ضاق صبراً لرؤية أهفين غارقاً في النظر إلى الصحيفة.
فلم يرفض أهفين، بل وضعها في صدره.
ثم رحل ديرين لتقديم الملفات، فيما اتجه أهفين إلى مبنى الفرسان.
وبينما كان يمر أمام قاعة المعبد، لمح امرأةً بشعرٍ أسود تندفع خارجة.
“الآنسة ليهلين؟”
ناداها أهفين وقد تعرّف عليها. فرفعت رأسها إلى صوته، وعيناها محمرّتان، وفي سواد حدقتيها دموعٌ متلألئة.
“…..سيد أهفين.”
“هل أنتِ بخير؟”
سألها وهو يتأمل وجهها المفعم بالاضطراب.
و أطبقت عينيها، فإذا بدمعةٍ غزيرة تنحدر على وجنتها البيضاء.
“لا….هيهك.”
عضّت على شفتها المرتجفة كطفلة فقدت بيتها وقد استبدّ بها الخوف.
فأخرج أهفين من صدره منديلاً ومدّه إليها.
“أشكركَ…..جزيل الشكر.”
وسرعان ما ابتلّ المنديل من دموعها.
“أريد أن أغادر هذا المكان…..لكنني لا أعلم إلى أين أذهب….ولا ما الذي عليّ فعله….هيهك.…”
عند كلماتها الغامضة تقلّص حاجبا أهفين. بينما كانت كتفاها النحيلتان ترتجفان.
“سيد أهفين، أ…..ألم ترغب يوماً في مغادرة المعبد؟”
ارتبك أهفين لحظة، ثم هز رأسه.
“لم أرغب قط.”
فعلى الرغم من شكوكه في الكاهن الأكبر، لم يجرؤ يوماً أن يتخيّل مغادرة المعبد.
منذ أن فقد شقيقته ونال قوى النور، صار المعبد كل شيء في حياته. أن يعمل بمشيئته كان حياته وسبب وجوده.
“أما لو كان لي مكانٌ أعود إليه…..فربما كان الأمر مختلفاً.”
في تلك اللحظة لم يكن لدى أهفين أي شيء سوى المعبد.
لكن بغتةً طافت في ذهنه صورة ميلودي، ولم يفهم لماذا تذكرها في مثل هذا الموقف. فهز رأسه لينفض صورتها عن خاطره، فإذا بليهلين تسأله سؤالاً آخر.
“ماذا لو لم أعد أستطيع…..اتباع مشيئة المعبد؟”
“ذلك…..لن يحدث أبداً.”
“وإن لم أعد أستطيع استعمال القوة التي اكتستبتها لشفاء الناس….بل صرت أؤذيهم بها….هيهك…..”
“هل حدث أمرٌ ما؟”
حينها فقط أدرك أهفين أن ليهلين تسرد همومها متسترةً بثوب السؤال.
هل أحد الذين كانت تعالجهم قد فقد حياته؟
“هيهك….لا….لا شيء.”
أطبقت ليهلين شفتيها المرتجفتين بعد أن كانت تبكي بحرقة. وعيناها المتردّدتان اللتان بدتا تائهتين التقطتا الجريدة التي كانت تبرز من بين ثياب أهفين.
‘الآنسة ميلودي، لو كانت هنا..…’
حبست ليهلين أنفاسها كمن اكتشف شيئاً فجأة، ثم رفعت نظرها إليه.
“سيد أهفين، أنت على صلة بالآنسة ميلودي…..أليس كذلك؟”
“…..نعم، هذا صحيح.”
“أرجوكَ، دعني ألتقي بها.”
انقبض جبين أهفين، و نبض قلبه عند سماع اسم ميلودي يخرج بغتةً من فمها.
“لماذا تريدين لقاءها؟”
“ذلك..…”
كان يعلم أن المعبد تعمّد الإضرار بميلودي، ولا يستطيع أن يجزم أن ليهلين ليست جزءاً من ذلك.
وبصوت حذر أجابته بعد تردّد طويل.
“هناك ما أود إيصاله للآنسة ميلودي. لعلها فقط…..هي القادرة على..…”
“يمكنكِ أن تبعثي برسالة إلى قصر الدوق، وسيكفيكِ ذلك.”
بكلماته الحازمة ارتسمت على وجهها خيبة أمل.
“لكن سمعت أن قصر الدوق لا يكاد يجيب على مراسلات المعبد…..كما أنني عدت من الحملة من غير أن أحيّيها كما ينبغي..…”
قالت ذلك برجاءٍ شديد، وللحظةً تراءى لأهفين مشهدهما معاً في أرض الحملة.
و تساءل إن كان يظلمها حين يشك في صدق ودّها لميلودي. فتلطف بصره قليلاً.
“سمعتُ أنها سترافق ولي العهد إلى حي الفقراء. ستجدينها هناك.”
“في حي الفقراء…..”
تمتمت كمن وجد حبل نجاة.
“أشكركَ. سأعيد لك المنديل لاحقاً.”
غادرت ليهلين، بينما ظلّ أهفين يحدّق إلى الجهة التي اختفت فيها.
و نظرة اليأس تلك في عينيها علقت بذاكرته بعمق.
***
في تلك الليلة التي نُشر فيها الخبر، استُدعي رايون من قِبل الإمبراطور إلى قاعة القصر الإمبراطوري.
“سمعت أن رايون ذهب بنفسه إلى حي الفقراء؟”
“نعم، يا جلالتك. فقد ذهب سموه إلى من يعانون من الوباء ووزّع عليهم الدواء بيديه.”
كان الإمبراطور يتلقى تقريراً عن رايون من أحد المسؤولين.
“…..وقد تحسنت حالة سبعة من كل عشرة، وزالت الحمى عن بعضهم. فالدواء الذي منحهم إياه سموّه قد أثبت فاعليته.”
أومأ الإمبراطور برأسه ببطء.
وحين همّ المسؤول أن يضيف شيئاً، رفع الإمبراطور يده صامتاً ليوقفه، وقد وقعت عيناه على رايون الراكع أمامه.
ثم…..
“أحسنتَ.”
ارتجف جسد رايون عند سماع تلك الكلمة ذات الخمس حروف.
كانت مباغتةً جداً، وغريبةً جداً، وكلمةٌ انتظرها طويلاً.
“…..جلالتكَ، ماذا قلتَ الآن؟”
رفع رايون رأسه، فالتقت عيناه بنظرات الإمبراطور التي لم يسبق لها أن أشرقت بذلك الدفء.
“قلتُ: أحسنتَ.”
ابتلع رايون أنفاسه. لوهلة خُيّل إليه أن الأرض من تحته تهتز.
“وكيف خطر لكَ أن تعالج الوباء؟”
“لقد رأيتُ من أصيبوا بالداء نفسه في ساحة الحملة.”
“هكذا إذاً. لقد أديتَ عملاً عظيماً للإمبراطورية، وسأكافئكَ. فما الذي تريده؟”
انحنى المسؤول الذي بجانبه و تحدّث بخضوع،
“يا جلالتك، ما رأيكَ أن تمنحه لقباً في مهرجان التأسيس القادم؟”
“هل موعد المهرجان قريب؟ لقد حلّ سريعاً.”
كان ذلك أعظم مناسبات الإمبراطورية، يُحتفل فيه سنوياً بيوم تأسيس إمبراطورية فالكاراس.
لكن قبل أن يُكمل الإمبراطور حديثه، أخذ يسعل بعنف. سعالٌ متواصل لم يهدأ بسهولة، وانتهى الأمر بأن أمر رايون بالانصراف.
خرج رايون إلى ممرات القصر الإمبراطوري، وتمتم بصوتٍ واهن،
“…..أحسنتَ، هل كان يقولها لي؟ حقاً، هذه أول مرة أسمعها.”
فاحدّث مساعده وهو يسير بحذر إلى جانبه.
“سموك، لقد كان ذهابكَ إلى حي الفقراء قراراً صائباً.”
“…..نعم.”
ظل وجه رايون يحمل ملامح الدهشة وكأنه لم يصدق بعد.
“أكان لابد أن أنقذ عشرات الأرواح حتى أسمع تلك الكلمة؟ لهذا لم أسمعها أبداً حين كنت أبذل قصارى جهدي..…”
ثم انحدرت كلماته بمرارة تكاد تمزق صوته.
“ولهذا كانت دوماً كلمةً لا يُسمح بها إلا لذلك الرجل…..لا لي.”
“إنها مجرد بداية.”
رنّ صوت المساعد بهدوء في أرجاء الممر الخالي.
“بداية…..”
رددها رايون، مستغرباً وقعها. ثم توقفت قدماه فجأة، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ باهتة.
______________________
بداية وش؟🤨 يعوه الفصل كله رايون وأهفين وش سويت لس يالمؤلفه
بعدين أهفين لى انه يوقع لليهيلين كان حبيته
بالله يشوف بنية حلوه تبكي قدامها ولا يحبها؟ وش سويتي فيه ياميلودي 😂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 83"