‘كنت على وشك قتل الجميع وأصبح كارثةً تمشي على الأرض.’
لكن قبل أن يفقد ديونيس صوابه تمامًا، ظهرت ميلودي بمحض الصدفة.
***
في فجرٍ ساكنٍ والناس جميعًا في سبات، توجه ديونيس إلى غرفة دوقة القصر.
غرفةٌ مظلمة، وعلى أحد جدرانها عُلّقت صورةٌ لامرأة ذات شعر فضي يشبه شعره.
فيونا ثيوديل بالكراس. مصلحةٌ عظيمة من مصلحي الإمبراطورية.
هذا هو اللقب الذي أُطلق على والدة ديونيس.
ديونيس، الذي جاء إلى الدنيا على حساب حياة أمه، وُلد وهو يحمل عبء واجبٍ ثقيل: أن يصعد إلى عرش الإمبراطور، وأن ينجز ما لم تقدر عليه فيونا.
و لكي يرقى لتوقعات الجميع، تحمل نظامًا صارمًا يفوق طاقة الأطفال. كان قاسيًا بحق، لكن حتى ذلك لم يكن كافيًا ليصل إلى ظلها.
وفي الذكرى الثالثة عشرة لوفاة فيونا، أزهرت قواه السحرية.
“صاحب السمو، هل أنتَ بخير؟ وجهكَ…..شاحب..…”
“آه…..آااااه…..آآااااااخ!!”
بدأ الألم من قلبه، ثم سرعان ما اجتاح جسده بأكمله.
غمره إحساسٌ بأن جسده كله يرفضه الحاجز المقدس.
وعندما أفلت أخيرًا من هذا الألم المريع وفتح عينيه، أدرك الحقيقة. أنه تحول إلى ساحر.
“تجسيدٌ أرسله حاكم الظلام ليدمر العالم.”
“وحشٌ قتل المئات من الأبرياء في الإمبراطورية.”
“قومٌ محكومٌ عليهم بالجنون، حتى يصيروا مثل المسوخ.”
كان يعرف كل ما يُقال عن السحرة.
‘أليس هذا عقابًا، لأني قتلت أمي بولادتي؟’
وإن كان هذا عقابًا لقاء روح أمه، لكان تمنى أن تُستبدل روحه بروحها.
لكن ما تملّكه لم يكن شعورًا بالذنب. بل كان غضبًا. سخطًا تجاه العالم الذي جعله يتلقّى هذا العقاب.
في البداية، نظر إليه الناس بشفقة. لكن مع مرور الوقت، بدأوا يعاملونه كما يُعامل الحيوان الضال.
حتى أقربهم لم يكونوا استثناءً.
“مربيتي..…”
“لا…..لا تقترب مني، يا صاحب السمو….أرجوكَ…..لا أريد أن أموت….أرجوكَ..…”
لم كان حيًّا فعلاً، بل فقط مَن كُتب عليه أن يظل على قيد الحياة، لا أكثر. ولذا، تحمّل كل شيء فقط لأنه لا يُسمح له بالموت.
لكن، كيف له أن يصف ما شعر به حين رأى ذلك الساحر يتجول بحرية داخل الحاجز المقدس دون أن يبدو عليه أي ألم؟
“يقال أنه حصل على أداة سحرية غريبة. من أحد الأطفال، على ما يبدو.”
احترقت الأداة واختفت في لحظة، و لم يبقَ منها سوى رماد، لكن تلك اللحظة…..ذلك الشعور العابر…..كان تحررًا، واضحًا وقاطعًا، من الألم البغيض.
ومنذ تلك اللحظة، عزم على أن يعثر على صانعة الأداة، ولو كلّفه ذلك أن يقلب الأرض رأسًا على عقب.
وكان الجواب أقرب مما ظن. و بوقاحة شديدة، كانت داخل معبد النور ذاته.
وبينما كان ديونيس غارقًا في أفكاره، لمح فتاةً تقف خارج النافذة فخطا نحوها.
“ما الذي تفعلينه؟”
ميلودي، التي أفزعها صوته، انحنت برأسها وأجابت بخجل،
“هذا…..امتصاص الضوء.”
“ليلاً؟”
“لقد انقلب نومي…..وأردت أن أتعرض ولو قليلاً لضوء القمر.”
كانت تمشي بمحاذاة سور القلعة.
أفكارها كانت واضحة كأنها تُقرأ من كتاب مفتوح. لا بد أنها تبحث عن ثغرة ما، لتهرب منها وقتما تشاء.
“ذاك السور، هو حدود القصر.”
“نعم، مرتفع…..كنت فقط أراه، مجرد فضول. فهذه أول مرة أعيش فيها داخل قصر.”
نظراتها المرتبكة وكلماتها الخاضعة لم تخفِ نيتها. لقد كانت تنوي الفرار.
هل يُقال عنها ساذجة؟ أم أنها…..لطيفةٌ بطريقة ما؟
“لماذا؟ هل تفكرين في القفز؟”
“إن خرقت العقد، فسيكون…..مؤلمًا، أليس كذلك؟ أنا أتألم حتى من طرقة مطرقةٍ صغيرة.”
“لن تموتي.”
“وهل سأكون قادرةً على التظاهر بعدم الشعور بأي شيء…..مثل الدوق؟”
“….كلا، الألم…..أمرٌ لا يعتاد عليه المرء أبدًا.”
عيناها الخضراوان كانتا ممتلئتين بالشفقة وهي تنظر إليه. والمثير للاستغراب أنه لم يجد في تلك النظرة ما يزعجه.
ثم التفت ديونيس نحو الفرسان و تحدث بهدوء،
“سمعت أن أحدهم عثر على فتحةٍ صغيرة تشبه جحر كلب عند السور الشمالي. تحققوا من الأمر.”
“أمركَ، سيدي.”
وفي اليوم التالي، لمح ديونيس ميلودي تتسكع قرب السور الشمالي.
“أي جحر كلاب؟ كان يجب أن يسميها عش نمل.”
قالت ذلك بصوتٍ ممتعض وهي تحدّق في الفتحة الصغيرة، مما جعله يضحك بخفة.
فتاةٌ غريبة…..تُثير السخرية، وتُقلقه في آنٍ معًا.
ربما…..كانت هذه فرصةً جديدة منحه إياها العالم.
لكن أحيانًا، كان يشعر أن ذلك الأمل المتسلل بداخله ينخره من الداخل، حتى ليتمنى أن يُسحق ويباد قبل أن يتجذر.
لأنه لم يشأ أن يغوص في أملٍ لا أصل له.
نظر إلى ميلودي وهي تبتعد، وأطلق زفرةً ثقيلة، مُثقَلة بالضياع.
***
“فشلٌ آخر، اليوم أيضًا.”
مرّ أسبوعٌ على قدوم ميلودي إلى قصر الدوق. وهذا كان الفشل الحادي والثلاثين.
“سأخرج قريبًا في مهمة تطهير للوحوش.”
قال ديونيس ذلك وهو ينفض بقايا نواة سحرية قد تفتّتت بين يديه، بنبرة خالية من الاكتراث.
“عندما أعود، أتمنى أن أجد شيئًا قد اكتمل. لا يهم إن كان قبيح الشكل.”
“قبيح..…؟! هذا…..ليس قبحًا، أنا فقط ركّزت على الأداء بدل الشكل!”
أعادت ميلودي استذكار الصيغة السحرية التي استخدمتها في القطعة الفاشلة.
هي لم تأبه بالشكل، بل لم تفعل يومًا. حتى حين كانت تعمل في المعبد، كثيرًا ما سمعَت أنهم لا يرغبون بوضع ما تصنعه على طاولة الزينة.
لقد امتلكت عقلًا حادًا ويدين ماهرتين، لكنها لم تمتلك ذوقًا جماليًا ولا مهاراتٍ جسدية.
فالبشر لا يمكن أن يملكوا كل شيء.
“ومتى…..تعود من مهمتكَ هذه؟”
ردّ ديونيس على سؤالها الجاف بابتسامة خفيفة وصوت واثق.
“شهرٌ واحد.”
صيد الوحوش عملٌ محفوف بالمخاطر، لكنه سيكون بخير. فديونيس كان بارعًا في فنون السيف، وخارج الحاجز المقدس لم يكن الألم يلمسه.
‘آنا بالتأكيد ستشعر بالأسى لغيابه المؤقت.’
ومع هذا التفكير، نظرت ميلودي إلى ملامحه المفرطة في الوسامة بلا داعٍ، لكن صوته الجاد قطع تأملها،
“من الأفضل ألا تفكري في الهرب.”
“لدينا عقد، أليس كذلك؟”
“صحيح، لكن حتى العقد كُتب بلغة الرون السحرية. من يدري؟ قد تحاولين استخدام ذكائكِ في أمر أحمق.”
“معكَ حق…..لمَ لم يخطر لي هذا من قبل؟”
لمَ لم تفكر في استغلال المصفوفات السحرية داخل العقد الذي صاغه غيرها؟
تأجج الحماس في قلب ميلودي، وبدأت تتمتم بحروف الرون التي تُستخدم عادةً في العقود السحرية، حينها تحدث ديونيس مجددًا، بنبرة تحذير أكثر حدة،
“لا تفكّري حتى. ما لم ترغبي في أن أعاقب كل من يساعدكِ على الفرار.”
“لكنني أنا من سيفرّ، فلمَ تُعاقب الآخرين؟”
“لأنهم أبرياء. ولهذا السبب، سيكتفون بالعجز فقط. أما أنتِ…..فستموتين على يدي. فاحذري في غيابي. أنا لست معتادًا على ترك شيء يخصني دون رقابة.”
ميلودي، التي بدا عليها الاندهاش، أطلقت تنهيدةً وأشارت بإصبعين،
“سأتواجد في مكانين فقط: غرفتي…..ومختبر العمل.”
وما إن أنهت كلامها، وعادت إلى معملها تفكر في كيفية تعديل التعويذة الموجودة في العقد، حتى دوّى وقع حوافر الخيل من خارج النافذة.
فأسرعت إلى النافذة، فتحتها وأطلت برأسها. و قد كانت عربةٌ مزيّنة بالذهب، فخمةٌ ومبهرة، كانت تعبر بوابة القصر مسرعةً نحو الداخل.
و هناك ستة خيول كانت تجر العربة.
لقد كانت حقاً عربة خرجت من القصر الإمبراطوري.
آنا، وقد ارتسمت الدهشة والحماس على وجهها، أمسكت بكم ميلودي وجذبتها،
“يا إلهي، إنها عربة ولي العهد! لم يصلنا أي إشعار مسبق، تُرى ما الأمر؟”
ثم دوّى صوت الجرس، مُعلنًا استدعاء الخدم إلى الساحة.
***
“لا حاجة لأن تنزل. طريق العودة إلى القصر من ذاك الاتجاه.”
خرجت ميلودي برفقة آنا إلى الساحة، فوجدت ديونيس واقفًا هناك، يبدو أنه كان أول من استقبل الزائر.
رغم كلماته الباردة، نزل ولي العهد، رايان، بثبات وثقة، دون أن يتراجع. فميلودي خفضت رأسها بانحناءة، لكنها سرقت نظرةً خاطفة نحوه.
شعره الأزرق الباهت تراقص مع الريح، و كانت عيناه بلون السماء حين تحجبها الغيوم. ر فكّه المحدد منح ملامحه حدة رجولية.
كان وجهه أشبه ما يكون بأمير في قصة خيالية.
__________________
ديونيس مختم آداب الضيافة😭😭😭😭
المهم تجنن مشاعر ديونيس لميلودي من الحين بدا يوقع شكله؟🥰
وميلودي ماتخاف حتى وهي تدور النحشة واضحة مره ماعندها منا ومنا
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 8"