نظرت ميلودي بالتناوب إلى الرجلين أمامها.
“يبدو أنني أنا والسيد أهفين سنظهر معًا. أما الشخص الثالث فسيكون-”
“ليهيلين.”
قاطعت حديثه وصححت كلامه.
“القصة كانت عنكما، وعن سمو ولي العهد، وليهيلين. أما أنا، فلم أكن سوى صانعة أدوات سحرية تعمل في هذا القصر.”
“لن يحدث ذلك أبدًا. مطلقًا.”
قال ديونيس ذلك بنبرة قاطعة، وقد اختلط صوته ببعض الضيق.
“مجرد توقعٍ لم يتحقق.”
حتى أهفين، الذي نادرًا ما يُظهر مشاعره، بدا متأثرًا. فنظرت ميلودي إلى الاثنين بطرف عينها، وقد لاحظت مدى رفضهما القاطع للأمر.
“الكثير تغير الآن. بسببي. منذ أن استعادت مقاطعة كالاو الحاجز الواقي.”
كانت قد أتمت صنع آلة إبطال السحر قبل موعدها في القصة، لذا بدا أن القوة المقدسة بدأت تتلاشى تدريجيًا. ومع ذلك، لا يمكن الجزم بما لم يحدث بعد.
“هل تبقّى توقعٌ لم يتحقق بعد؟”
خيانة ديونيس وموته. ثم يوم موتها هي نفسها كانا يقتربان.
هزّت ميلودي رأسها وهي تراقب ملامح أهفين.
“ذلك كان آخر ما قرأته.”
“إذاً بات مؤكدًا أن السيدة ميلودي هي طفل الكاهنة.”
“حتى لو كان ذلك صحيحًا، لا أنوي العودة إلى المعبد. ولا أستطيع تصديق أنني ابنة تلك المرأة بعد.”
“لن يُجبركِ أحدٌ على شيء.”
قال ديونيس ذلك كأنه قرأ قلقها.
بينما كانت تفكر في التوقع، توقفت أفكار ميلودي عند والدتها.
إن كانت أمها حقًا كاهنة……فهل أحبت والدي الساحر؟
سؤالٌ مفاجئ غرز نفسه في ذهنها كشوكة طوال الحديث.
***
كان الجو حارًا، لكن الظلال لا تزال باردة.
سارت ميلودي مترنّحةً حتى وصلت إلى ركن الحديقة، فجلست ثم تمددت أرضًا. كان ذهنها فوضى من الأفكار.
‘هل يمكن لكاهنة أن تحب ساحرًا؟’
أرادت أن تسأل أهفين ذلك، لكنها لم تستطع. فقد كانت واثقة أنه سينفي الاحتمال.
‘لكن إن لم يكن حبًا……فماذا إذًا؟’
لم يبقَ سوى سببٍ واحد لاختيار أمها لوالدها. لتُحقق التوقع.
كان أهفين قد أخبرها أن كل التوقعات التي نقلتها تلك الكاهنة قد تحققت بالفعل.
طالما أنها كانت تمتلك الكثير من القوة المقدسة، فلا شك في إيمانها العميق.
لكن إن كانت امرأةً كهذه قد علمت بأنها بحاجة إلى طفل من ساحر لتقتل كبير الكهنة الذي سيجلب الاضطراب إلى المعبد……فماذا كانت ستختار؟
لم يكن هناك داعٍ للتخمين، فالإجابة كانت واضحةً منذ زمن. ومع ذلك، حين فكرت بالأمر، شعرت برثاء لا يُحتمل تجاه والدها.
“ميل، أمكِ كانت تحبكِ كثيرًا.”
هل كانت تلك الكلمات أيضًا كذبًا خدعها بها؟
‘اختارت أبي، لا بدافع الحب……وأنجبتني لا لشيء سوى……’
رغم أن الإدراك جاء متأخرًا، إلا أن قلبها تألم.
كانت تظن أنها لا تنتظر شيئًا، لكنها أدركت الآن أنها كانت تأمل في لقائها، أن تعتذر لها وتقول أن الظروف أجبرتها، وأنها كانت تفتقدهما.
“يبدو أنكِ لا تستطيعين النوم.”
جاء صوت ديونيس من الظلام، منخفضًا وهادئًا.
“الغروب تأخر فحسب.”
فتحت ميلودي عينيها وأشارت إليه بالاقتراب. فجلس إلى جانبها بثيابٍ بسيطة.
كان عطر الصابون ينبعث منه؛ لعلّه اغتسل قبل مجيئه. و كانت خصلات شعره الفضيّ تتماوج قليلًا مع النسيم.
“كنتُ أفكر في أمي.”
ارتجف طرف شفتيها وهي تتكلم.
“هل هناك حاجةٌ للتفكير بها الآن؟”
حين التفتت إليه، وجدته مستلقيًا على جنبه، يسند رأسه بيده، يحدّق بها.
“إنه أمرٌ يخصّ أمي. كنتُ دائمًا أتساءل أي نوعٍ من النساء كانت……ولماذا تخلّت عنا.”
صوتها أخذ يخفت أكثر فأكثر؛ و كان من الصعب أن تنطق بذلك.
“كنتُ أتمنى أنها أنجبتني بدافع الحب، حتى لو اضطرت لتركنا رغمًا عنها.”
تابعت بصوتٍ مرتجف، متمنيةً ألا تبدو يائسةً أكثر مما هي.
“لكن إن كنتُ مجرد أداة لتوقعها، فإني أشفق على أبي كثيرًا.”
مدّ ديونيس يده وأعاد خصلةً من شعرها خلف أذنها. بينما داعب النسيم جبينها برقة.
“مهما كانت الحقيقة آنذاك، فقد كان والدكِ يملككِ أنتِ.”
قال ذلك بصوتٍ دافئ.
“العيش كساحر في فالكاراس يعني حياةً مليئة بالعزلة والمشقة. لكن بوجودكِ، لم يكن وحيدًا. أليس ذلك كافيًا؟”
كان والدها يسميها حبه، وملاكه، وكنزه، وهدية حياته.
ربما كانت حياته أسهل بدونها، لكنها كانت ستكون أكثر وحدة. مثل أولئك السحرة الذين هلكوا وحدهم خارج الحاجز.
حين فكرت بالأمر على هذا النحو، بدا لها أن كون أمها قد استغلت والدها لم يكن بالأمر السيئ. فبفضل ذلك فقط، وُجدت هي، والتقت بوالدها.
مدّت ميلودي يدها ولمست وجنة ديونيس المظللة بظل الشجرة.
كان بارعًا في مواساتها، سواءً حين كانت تقلق بأنها ربما بدّلت مصير ليهيلين، أو كما هو الآن.
“صحيح……أنا موجودة، أليس كذلك.”
“الجراح التي يسببها الناس، لا تُنسى إلا بالناس أنفسهم.”
قال ديونيس ذلك، ثم أمسك بيدها الموضوعة على خده ورفعها إلى شفتيه، ليطبع قبلةً خفيفة على راحة كفها. فأحست بلمسة رطبة جعلت قلبها يرتجف.
“حين التقينا أول مرة، كنت أعلم مسبقًا أنني سأبرم عقدًا معكَ يا دوق.”
عندما تذكرت ذلك، بدا الأمر عجيبًا لها. فلم تصدق أنها تجلس الآن مع من كانت تتمنى الفرار منه آنذاك.
“في الحقيقة……لم أكن مرتاحةً لذلك.”
“يبدو أنها لم تكن مجرد (قليلًا) من الكراهية.”
قطّب حاجبيه، ربما لاستعادته يوم أُجبرت على إبرام العقد.
“لقد قاد الدوق تمردًا.”
“أنا؟”
اتسعت عيناه دهشةً عندما اعترفت ميلودي بالحقيقة بصوتٍ حذر.
“وفي النهاية فشلتَ. لكن، ألم تحلم يومًا حقًا بالتمرد؟”
“ليس بعد.”
بعد لحظةٍ من التفكير، أجاب بصوتٍ منخفض.
“لو قدّر لي أن أتمرد، فسيكون عندما يصعد رايون العرش. لأنه حين يصبح إمبراطورًا، لن يُبقي على حياتي.”
كأنه يقول أن ذلك التمرد لم يكن سوى سبيل للبقاء. وربما كان الأمر كذلك حتى في القصة، إذ اندلع التمرد بعد وفاة الإمبراطور.
“مؤسفٌ أمر ذلك الدوق ديونيس في التوقع.”
تصلبت ملامح ديونيس عند سماع كلماتها.
“ربما سيكون عليّ اتخاذ القرار ذاته قريبًا.”
“هل تنوي حقًا أن تتمرد؟”
تساءلت بقلق، غير مصدقة أن لا سبيل آخر. فأجابها بسؤالٍ آخر بدل الرد.
“أتكرهين أن أكون غير الدوق؟”
“ما الذي تعنيه بهذا فجأة؟”
“لدي مالٌ وفير……لكن لن أكون دوقًا بعد الآن.”
“المنصب لا يهمني.”
ابتسم ديونيس برضا.
“إذاً لن أضطر إلى ارتكاب الخيانة.”
“هل تنوي التنازل عن اللقب؟”
“حين يحين الوقت.”
“لكن ألم تكن ترغب في حماية فالكاراس؟”
الرجل الذي عرفته ميلودي كان دومًا يسعى لحماية الإمبراطورية.
“كنت أفعل ذلك فقط لألا أصبح وحشًا.”
التقت عيناه بعينيها، وقد تخللهما اضطرابٌ عابر.
“إن تخلّيتُ حتى عن هذا الاسم، فسأكون كما يقولون……سأصبح وحشًا بحق.”
كان في عينيه عمقٌ مظلم كهاوية بلا قاع. هزّت ميلودي رأسها.
“أنتَ لستَ وحشًا.”
“الآن أعلم. لأنكِ لا يمكن أن تنظري إلى وحشٍ بتلك العينين.”
أي عينين كانت تملك لتجعله يقول ذلك؟
ثم قبّل يدها مرةً أخرى.
“هل ستشفقين عليّ إن أصبحت لا دوقًا ولا حاكمًا، بل مجرد ساحرٍ عادي؟”
انفرجت شفتيها المرتجفتان قليلًا.
“لماذا تريد أن أراكَ مسكينًا؟”
“لأنكِ تمنحين قلبكِ دومًا لمن تريهم بائسين.”
فأسرعت ميلودي إلى نفي ذلك.
“قلبي ليس لكَ لأنكَ مثيرٌ للشفقة، بل لأنني—”
______________________________
واو اعتراف غير مباشر؟؟😭😭😭😭😭😭
ونااااااسااااااااااه الفصل حلو
طبعا مع اكثر الروايات كل ماقربت النهايه زاد الالحاد 🙂↔️
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 114"