***
الزنزانة تحت الأرض كانت معتمة. وقد اختلطت رطوبة الجو برائحة الدم والصدأ، فلامست أنفه بحدة.
في يوم واحد فقط، صار سيريل كخرقة بالية.
ثوب الكاهن الأبيض الناصع كان قد اتسخ بالطين والدم فلم يعد يُعرف لونه الأصلي، أما وجهه فامتلأ ببقع حمراء وآثار دم متيبس.
و ما إن اقترب أهفين حتى نهض سيريل بصعوبة من زاوية مظلمة.
“أ- أنقذ…!”
وحين تعرف على أهفين، تشبث بيأس بالقضبان الحديدية.
“سيدي أهفين، أخرجني من هنا! الفاسدون يحاولون قتل كبير المعبد!”
لم يحتج الأمر وقتًا طويلًا حتى انهار تمامًا. بينما كانت عيناه المرتجفتان كانتا تلتفتان بين الحين والآخر نحو الباب.
“لا تَخْدَعْ نفسكَ. لست سوى مجرمٍ لا أكثر.”
عند هذا الرد البارد، أطلق سيريل ضحكةً بائسة.
“لا، لا! أتظن أن ما فعلته لا يتعدى مجرد وباء؟! لقد كان ذلك من أجل المعبد، من أجل الجميع!”
كانت كلماتٍ لا تستحق الرد. فرمقه أهفين بعين باردة لا تبدي أي تعاطف.
“حتى لو لم يصدقني الآخرون…..فعليكَ أنتَ أن تؤمن بي. ألا تشعر أن السلطة التي مُنحت لما من المعبد قد بدأت بالتلاشي؟”
وأشار بأصابعه المشققة نحو صدر أهفين.
“هل تعلم كم واحدًا فقط نال نعمة القدسية الجديدة خلال العشر سنوات الماضية؟ مجرد اثنين لا غير.”
“!”
لم يكن أمرًا يمكن تجاهله.
التقت عينا أهفين بعيني سيريل، فإذا بالأخير يحدق فيه كأفعى عجوز بعينين لامعتين وكأنه يقول: صدقني.
“المعبد هجر هذه الإمبراطورية. إن استمر الحال، فسوف يختفي سلطانه تمامًا عن هذه الأرض قريبًا.”
وقع أهفين في اضطراب.
تلك قوة متوارثةٌ منذ مئات السنين. و لم يشك يومًا أنها ستبقى أبدية. لكن أن تختفي..…؟
“وحين يحين ذلك، فكل ما بُني باسم المعبد سينهار في لحظة. كان عليّ أن أحمي المعبد ما دام لي قوة، كيلا يجرؤ أحدٌ على مساسه. كل ذلك من أجل الجميع!”
“…..ولو كان الثمن دماء الأبرياء؟”
شعر أهفين ببرودة تسري في رأسه.
لعل التخلي عن القداسة عنهم أمر طبيعي، ما داموا يقتلون الناس باسمها؟
أطلق ضحكةً ساخرة.
“سنرى إذاً بعد موتكَ. إن كان المعبد قد هجر هذه الإمبراطورية، أم أنكَ أنت من قاد المعبد إلى الخراب.”
تجمد وجه سيريل عند كلماته. وحين همّ أهفين بالانصراف، دوى صوته المتوسل من خلفه.
“لا ترحل! يجب أن تحميني! ألستَ أنت من قبض على عشرات السحرة بأمري؟ هذا لا يختلف عن ذلك! إنها مجرد تضحية صغيرة من أجل الجميع!”
“لا يختلف؟ ماذا تعني؟”
توقف أهفين في مكانه.
كيف يمكن أن يقارن موت السحرة بموت الأبرياء؟
“كلها أمورٌ لحماية المعبد. بفضل القضاء على نسل السحرة، استطعنا تشييد هذا الصرح العظيم، أليس كذلك؟”
شده أهفين بنظراتٍ غاضبة وهو يلتقط أنفاسه بعمق. و في عينيه البنفسجيتين امتزج الغضب بالاضطراب.
“كنت أقبض على السحرة لأنهم يهددون العالم.”
“صحيح. كانوا يريدون تدمير عالمنا، بقدرتهم الحقيرة تلك.”
تراجع أهفين خطوةً وهو يطحن أسنانه. و أحس وكأن شيئًا ينهار بداخله.
لقد آمن دومًا بمبادئ المعبد. بأن السحرة ملعونون، وأنهم سيجلبون الخراب. لكن الآن، كلمات سيريل كانت تهز كل ما صدّقه حتى اليوم.
و تصدع داخله صوت نشاز.
“أتقصد أن السحرة ليسوا ملعونين؟”
ساد صمتٌ قصير. فارتسمت على وجه سيريل مشاعر متشابكة عصية على القراءة. ثم تحدّث أخيرًا،
“أتريد أن تحمي عالمكَ؟ إذاً أنقذني.”
أهفين حاول قراءة ما يختبئ خلف كلماته، بينما قبضته تشتد على مقبض سيفه.
كلماته تسللت كالسم، تقلب داخله كل شيء.
لقد كان يقصد بالعالم ما كان أهفين يؤمن به كله.
“إذاً..…”
خرج صوت أهفين متحشرجًا.
“كل ما فعلته حتى الآن كان بإرادتكَ؟ السحرة الذين قتلتهم؟ الإمبراطورية التي ظننتُ أني حميتها؟ كل ذلك….بلا أي معنى؟”
“معنى كل شيء هو—”
لكن أهفين قاطعه بغضب،
“لا. سأتحقق بنفسي.”
شدّ على أسنانه وغادر الزنزانة. و رأسه ما زال يعج بكلمات سيريل.
هل حقًا هجر المعبد هذه الأرض؟ ومن هم السحرة حقًا؟
رفع بصره إلى تمثال المعبد القابع أمام السجن.
ثم أغمض عينيه، فإذا بذكرى قديمة تومض في ذهنه.
مخبزٌ كانت تعمل فيه شقيقته. تلك الظهيرة الهادئة. ثم فتح الباب رجلٌ بائس الهيئة…..وانمحى كل شيء.
اندلعت ألسنة اللهب، و تجمد في مكانه يحدق بالمشهد. بعدها، صارت ذكرياته مشوشة.
قفز في النار، لكن يدًا ما انتشلته، ليفيق لاحقًا في المستشفى.
وعندما عاد إلى البيت، كان تابوتٌ بارد ينتظره بدلًا من شقيقته.
“لم أكن مخطئًا.”
لكن صوته وهو يتمتم بذلك كان يرتجف بلا نهاية.
***
“هل توصلتَ إلى شيءٍ ما؟”
سأل ديونيس، فصمت أهفين قليلًا ثم هز رأسه.
“يبدو أنه لن يفتح فمه بسهولة.”
“حتى بعد كل ما قاساه يظل صامتًا…..حقًا، إن الكاهن قاسٍ إلى أبعد الحدود.”
تنهد ديرين.
“فهو رجلٌ ارتكب ما لا يجرؤ عليه أي إنسان عادي.”
عقد ديونيس حاجبيه ونظر إلى أهفين متابعًا،
“هل نجحتَ في إطعامه الأداة السحرية؟”
بدل الجواب، أخرج أهفين الدواء من صدره ووضعه أمامه.
“فشلتَ إذاً.”
كانت أداةً صنعَتها ميلودي، تجمع بين التتبع والتنصت. صغيرةٌ بما يكفي لتوضع داخل الدواء.
الخطة كانت أن يُوهموا سيريل بأنهم يساعدونه ويُجبروه على ابتلاعها. لكن يبدو أن المحاولة لم تُجدِ.
ولأن ملامح أهفين توحي بشيءٍ غير عادي، لم يسأله ديونيس عن السبب.
“إذاً، ماذا نفعل الآن؟”
“لا خيار سوى المحاولة مجددًا.”
توجهت عينا ديونيس نحو ديرين.
“ماذا؟ أنا؟”
“إلا إذا وجدتُ شخصًا أثق به أكثر منكَ.”
فقفز ديرين غاضبًا،
“لن تجد أوثق مني. فأنا مثلًا كنت أشارك كل عام في مسرحيات المعبد بمهرجان التأسيس!”
“هل أعددتَ نفسك لذلك؟”
“نعم، بالطبع.”
كانت طريقةً محفوفة بالخطر، فقد تؤدي إلى هروب سيريل. لكنها الأكثر فاعليةً لكشف رجال نائب الكاهن المختبئين داخل المعبد.
وهذا ما جعل أهفين يوافق على اقتراح ديونيس.
فبعد وقتٍ قصير، ستبدأ إجراءات اختيار نائب الكاهن الجديد. ولذا وجب عليهم استئصال أتباعه كافةً قبلها.
“إذاً الباقي يعتمد عليكَ، يا سيد.”
وأشار ديونيس بذقنه نحو ديرين، فأومأ الأخير وهو يقبض كفه بإحكام.
“سأذهب إذاً.”
وما إن دخل ديرين إلى السجن تحت الأرض، حتى بدأ يُسمع من الأداة السحرية الأسطوانية الصغيرة صوتٌ خافت. وقد كان صوت ديرين.
• “سيدي الكاهن، ما زال في فرسان الهيكل من يؤمنون ببراءتكَ.”
• “أجل. كنت أعلم أن الظلام لم يُغْوِ الجميع.”
عند سماع رد سيريل، ارتسمت على شفتي ديونيس ابتسامةٌ ساخرة ملتوية.
ولم يكد يمضي يومٌ واحد حتى بلغ أهفين خبر هروبه.
“قيل أن السيطرة لا تدوم أكثر من يومين. فعلينا إنهاء الأمر قبل ذلك.”
عند كلمات ديونيس، أومأ أهفين برأسه المثقل ببطء.
_____________________
اخيرا اذا طلع السحره مافيهم شي ابو ميلودي بيرجع😔
وديونيس يقدر يتنفس طييعي😔
وتصير الحياة حلوه ويتزوج ميلودي غصباً عن ابوها😔
Dana
التعليقات