في خضمّ مراسم الجنازة، خرجت مادي بمفردها من الكنيسة، وتجوّلت في طريق غابيّ هادئ.
كان شعورها غريبًا.
“هناك من يستفيد من موت شارلومي… أنتِ، التي لا يمكنها جني المال إلّا إذا تزوّجتني بسلام.”
“قُلِ الحقيقة. مهما قلتِ، لا يوجد احتمال لإلغاء هذه الخطوبة.”
كانت معتادة على أن يُشتَبَه بها.
لم يبذل الأشخاص الذين قابلتهم حتّى الآن جهدًا لتغيير انطباعاتهم المسبقة عن مادي، وهي بدورها كانت تستغلّ تلك الانطباعات، فكانت علاقاتها معهم مريحة بطريقة ما.
لكن إذا حدث شيء سيّء، كانت النظرات المشكّكة تتّجه إليها كأمرٍ مفروغ منه.
“ألستِ أنتِ من فعل ذلك؟”، هكذا كانت تعابير وجوههم.
لم يكن هناك من يخفي نظرات الشّك.
بل كان العثور على شخص لا يشكّ فيها أمرًا أصعب.
سواء كانت مادي مجرّد لصّة صغيرة، أو محتالة، أو ساعية، أو تعمل في مكتب تحريات، فبالنسبة للناس العاديّين، اللّص هو لص بكل بساطة.
شخص يأخذ أو يسرق ممتلكات الآخرين دون إذن.
لم يكن هذا القول خاطئًا.
“اللّص لص، وما المشكلة في ذلك؟”
عاشت حياة تجعل الشّك فيها أمرًا طبيعيًّا.
بل استغلّت ذلك السوء فهم أحيانًا.
عندما أرادت إنهاء موقف ما، كانت تجعل الأجواء قاتمة.
“لم أسرق! هل لديك دليل على أنّني فعلتُ ذلك؟! أنا بريئة حقًّا، حقًّا! لماذا لا يصدّقني أحد؟!”
بالطبع، إذا كان عليها الاعتراف بصدق، فالجاني كان مادي. تقريبًا دائمًا.
كان من السهل أن تتظاهر بالبراءة وتهرب من المكان عندما يشتبه بها الناس.
في التجمّعات الخاصّة لجمع المعلومات، كانت تستغلّ كل شيء ثمّ تترك المكان، أو عندما تحتاج إلى مغادرة مدينة بعد أن حقّقت مكاسبها ولا تجد عذرًا، كانت تسرق شيئًا.
لكنّها لم تسرق من أجل السرقة، بل من أجل الهروب النظيف، فكانت تترك الأشياء الثمينة خفية في بيوت الفقراء الذين بالكاد يملكون شيئًا.
أولئك الذين يعيشون على الكفاف كانوا يبيعون تلك الأشياء فورًا ويصمتون.
وهكذا، كما خطّطت، كانت الأنظار تتّجه إلى مادي، فتغادر إلى مكان جديد كما لو كانت تنتظر ذلك.
كانت علاقاتها البشريّة دائمًا بسيطة وسهلة القطع.
لكن يوليكيان لم يكن بهذه البساطة.
كان ينظر إليها ويطالبها بأن تقول إنّها ليست مذنبة، لكن عينيه الثقيلتين لم تتخلّيا عن الشّك.
كأنّها داست على الطين في مكان لم تتوقّعه.
لم يكن طريقها خاليًا من الطين من قبل، لكن…
عاشت هكذا دائمًا، فما الغريب في ذلك؟
يا للعجب.
وقفت مادي تحت ظلّ شجرة في غابة هادئة، وفكّرت في يوليكيان.
ذلك الرجل طويل القامة، بعينين زرقاوين كالبحر، وشعر فضّيّ يقارب البياض يذكّرها بثلوج الشتاء.
يد كبيرة تمسح وجهها المبلّل، وذراع قويّة وصلبة لم تفقد قوتها حتّى وهي تتدحرج على منحدر.
حاجبان ينخفضان قليلًا عندما يضحك، فيبدوان لطيفين، وعينان تأخذان شكل الهلال.
شفتان ناعمتان، متصلبّتان في حيرة عند مواجهتها، رغم أنّهما تمتدان في خطّ مستقيم.
رائحة جسده الناعمة كالشمس، تشبه رائحة لحاف جفّ تحت أشعّة الشمس.
عندما أغمضت عينيها، تخيّلته بوضوح.
كلّ ما يشكّل ذلك الرجل.
رسمته في ذهنها من رأسه إلى أخمص قدميه، ثمّ فتحت عينيها فجأة.
“…ما هذا؟ استعدي وعيكِ.”
استدارت مادي كمن يطاردها أحد.
كانت تنوي الذهاب إلى العربة لتنتظر الناس الذين سيتجمّعون قريبًا.
لكن قبل أن تصل، تلقّت ضربة قويّة على مؤخّرة رأسها بعصا.
كان المهاجم شخصًا يعرف مادي جيّدًا.
لقد ضرب مؤخّرة رأسها بكلّ قوّته، كما لو كان يتمنّى أن ينفصل رأسها عن جسدها.
بعدها، شعرت بوخز في ذراعها.
حقنة…؟
إذا كان مجرّد مخدّر عاديّ، فلن يؤثّر عليها، لذا خطّطت للنهوض بمجرّد أن تلتئم الجرح في رأسها ويصبح قشرة.
مثل هذا الجرح سيستغرق دقيقة على الأقلّ، لكن المهاجم كان ينوي قتلها.
قرّرت أن تستعيد وعيها قبل أن يتخلّص من جثّتها.
لم تعرف كيف أخفى وجوده، لكنّها فكّرت أنّها ربّما لم تنتبه بسبب انشغالها بأفكار أخرى.
كانت هذه خطتها حتّى سمعت صوت رجل.
جلس الرجل على ظهر مادي المنهارة، وفتح ساقيه ليدوس على معصميها بقوّة كأنّه يريد سحقهما.
ثمّ حقنها بحقنة كبيرة أخرى.
“هذا الدواء يُستخدم لقتل الحيوانات الكبيرة مثل الفيلة أو النمور. بالنسبة لكِ، سيكون مجرّد نوم قصير. تنامين قليلًا، ثمّ تستيقظين وكلّ شيء سيعود إلى طبيعته.”
كان لامدا بارتولوز.
شقيق شارلومي المتوفّاة.
الرجل الذي التقته في حفلة القصر الملكيّ وناداها بـ”يان”.
كان هذا الرجل يعرف كلّ شيء عن قدرات مادي على الشفاء وإزالة السموم.
“تصبحين على خير، يان.”
“…يا له من…”
لم تكمل جملتها، وفقدت مادي وعيها.
* * *
كان رأسها يؤلمها وكأنّه سينفجر.
بل شعرت وكأنّ دماغها قد انقلب رأسًا على عقب.
كأنّ أحدهم أخرج دماغها، وغمسه في ماء الغسيل، وحرّكه بعنف، ثمّ أعاد وضعه.
فتحت مادي عينيها وهي تتأوّه من الألم.
كان الضوء أمامها ساطعًا.
ساطعًا بشكل مفرط.
كانت الغرفة مظلمة تمامًا دون أيّ شعاع ضوء، باستثناء مصباح واحد موجّه إلى وجهها.
لهذا، لم تتمكّن من رؤية أيّ شيء سوى الضوء الأبيض الساطع.
سمعت حركة أشخاص في الغرفة، لكن بسبب ألم رأسها النابض وجسدها الموجوع، لم تتمكّن من شحذ حواسها كالمعتاد.
التعليقات لهذا الفصل " 71"