رغم أنّ يوليكيان زوج مادي، إلّا أنّه مرشّح الإمبراطوريّة القادم، فمُنع من حضور جلسة النطق بالحكم خوفًا من التأثير على القضاء.
كان ينتظر النتيجة خارج قاعة المحكمة في عربته، فسمع الصحفيّين يندفعون خارجًا بمجرّد فتح الأبواب وهم يصرخون.
«ثلاث سنوات! ثلاث سنوات فقط!»
لم يستطع النزول من العربة لأسباب أمنيّة، فكاد يختنق ضيقًا.
لكنّ سماع الحكم فكّ عن صدره بعض الضيق.
لكن… ثلاث سنوات؟
شعر بالغضب أوّلًا، ثمّ فكّر أنّها رحمة مقارنة بجرائم القتل، ثمّ تذكّر أنّ مادي لم تقتل لأنّها أرادت، ثمّ عاد يتذكّر كلّ من قتلتهم أمام عينيه، فيقول في سرّه: ثلاث سنوات؟ هذا أفضل ممّا كنا نتوقّع.
السبب الوحيد الذي جعل الحكم ثلاث سنوات فقط هو أنّ كلّ وثائق القتل المتبقّية كانت تُعرف الفاعل بـ«فيركينغ» لا غير.
لم يكن هناك دليل قاطع على أنّ «مادي» أو «يان» قتلتا أحدًا باسميهما الشخصيّين.
لكن لا شكّ أنّها فيركينغ.
كان يمكن أن تُحمّل مادي وحدها كلّ الجرائم التي ارتكبت باسم فيركينغ، أو أن تُقسّم الجرائم على عدد فيركينغ الباقين يوم المحاكمة.
لكنّ فترات خدمتهنّ في القصر الإمبراطوريّ مختلفة، وعدد الوثائق التي تسجّل مهامّ فيركينغ هائل جدًّا.
لا أحد يعلم من أيّ عمر بدأت مادي كـ فيركينغ وفي أيّ عمر تُركت لتموت، فلا يمكن تحديد أيّ المهام كانت من نصيبها.
لكنّ مادي قالت في المحكمة بكلّ صراحة.
«كنتُ أفضل فيركينغ على الإطلاق.»
اعتراف بأنّها نفّذت أكبر عدد من المهام. هل يُعتبر تسليمًا بالذات فيُخفّف الحكم، أم اعترافًا بجرائم أكبر فيُشدّد؟
قضيّة لم يسبق لها مثيل، فتاه القضاة والشعب معًا.
كان يوليكيان يتوقّع الأسوأ، فتنفّس الصعداء.
بينما كان يهمّ بإدارة العربة للعودة، لاحظ في الخارج شعار عائلة مألوفة.
عربة بيضاء منقوش عليها زنبقة بيضاء: عائلة الكونت بارتولوز.
كانت العربة متوقّفة أمام المحكمة، لم تتحرّك رغم صراخ الناس «ثلاث سنوات».
حدّق يوليكيان في العربة المقابلة بين حشد الناس.
«لماذا حضر الكونت بارتولوز محاكمة مادي؟»
مادي هي الشاهدة الوحيدة التي سمعت لامدا يعترف بقتله شارلومي بنفسه.
بسبب ذلك أُعيد التحقيق في موت شارلومي، وكشفت مادي – رغم أنّها لم تُسجن – هويّات كلّ اللصوص والقطّاع الذين كانوا قرب موقع حادث عربة شارلومي وأثبتت براءتهم.
قيل إنّ الكونت بارتولوز ظلّ يحدّق في الفراغ بعد موت الإمبراطورة، ثمّ ضحك ضحكة فارغة حين تأكّد أنّ لامدا هو القاتل.
«كأنّني استيقظتُ من حلم طويل. كلّ شيء كان ضبابًا منذ زمن… والآن فقط أرى بوضوح. لماذا… لماذا…»
كان الكونت مسمومًا بالفعل.
سمّ غير مميت لكنّه يسبّب هلوسات خفيفة واضطرابًا عقليًّا يمنع الحكم السليم.
بعد كشف الحقيقة كاملة، قبض على رأسه وصرخ.
«كنتُ حزينًا، أقسم أنّني كنتُ حزينًا! لكنّني لم أفكّر حتى في معرفة هويّة تلك العصابة… لماذا بكيتُ فقط وأنا أعانق جثّة طفلتي؟ لماذا لم أشكّ ولو مرّة بكلام ذلك الشيطان؟ لماذا، لماذا!»
قيل إنّه عاش منذ ذلك اليوم كمن فقد روحه.
أرسل يوليكيان خادمًا يطلب مقابلة الكونت.
زواج يوليكيان ومادي كان صاخبًا جدًّا، ومادي نفسها الآن بطلة فضيحة تهزّ الإمبراطوريّة، فلم يكن من السهل على يوليكيان النزول بين هذا الحشد.
طلب من الخادم أن ينقل للكونت: إن أمكن، فلنتحدّث في عربتي.
بعد قليل، فُتح باب عربة يوليكيان.
«…سيّدة الكونتيسة؟»
«تحيّة طيّبة، سموّ الدوق الأعظم يوليكيان.»
دخلت كونتيسة بارتولوز العربة بمساعدة خادمتها، مرتدية فستانًا أسود وقلنسوة سوداء قصيرة الحافة.
كانت بزيّ الحداد الكامل.
لم يخفِ يوليكيان انزعاجه وسأل:
«…كنتمِ تنتظرين حكم الإعدام إذًا؟»
«وما أدراكِ.»
ابتسمت كونتيسة بارتولوز ابتسامة مريرة.
قبل أن يردّ يوليكيان، أضافت.
«هل تحضر جنازة زوجي مساء اليوم؟»
«…ماذا؟»
«انتـحر شنقًا صباح اليوم. لم يستطع تحمّل أنّه كان دمية للإمبراطورة، وأنّ الدوقة التي كانت فيركينغ للإمبراطورة بريئة، وأنّ الدوقة نفسها كشفت موت ابنتنا… كتب أنّه مهما كان الحكم لن يستطيع تحمّله.»
ارتعشت جفون الكونتيسة وأغمضت عينيها بقوّة.
تساقطت دمعتان كبيرتان على خدّيها.
«إنسان ضعيف. ليس هو الوحيد الذي فقد ابنته.»
«سيّدة الكونتيسة…»
«أنا لم أُسمّم. شعرتُ بالغرابة حين أحضر زوجي شابًا ليس من الأقارب وقال إنّه سيُدخله كابن بالتبنّي، لكنّني وافقت لأنّه من رجال جلالة الإمبراطورة. كنتُ بحاجة إلى ابن، وقلتُ إن كان من طرفها فلا بأس. نحن… كنا من أقرب المقرّبين للإمبراطور السابق راباديت.»
ابتسمت ابتسامة مائلة، لكنّها بدت وكأنّ ألف إبرة مغروزة في صدرها.
لم تبكِ بصوت، فقط كانت ترمش بسرعة، وتتساقط الدموع مع كلّ رمشة.
«اخترتم الصفّ الخطأ.»
«لا، مجرّد أنّنا تبنّينا لامدا فقط…»
هزّت الكونتيسة رأسها.
« عائلة عسكريّة قويّة مثلنا في صفّ الإمبراطور السابق، لا بدّ أنّك عشت طفولة مرعبة، سموّك… خوفًا من الموت في أيّة لحظة… بعد أن فقدت عائلتك كلّها…»
جلس شخصان فقدا عائلتيهما، ينظران إلى ألم بعضهما كما في مرآة.
أطرقت الكونتيسة بعد أن سالت دموعها كقطرات جليد تذوب.
«أنا… بعد جنازة زوجي، سأتبرّع بكلّ ثروتنا لعائلات من ماتوا على يد فيركينغ. يجب أن ندفع ولو جزءًا بسيطًا من ذنب عيش لامدا باسم بارتولوز. لن يكفي بالطبع.»
«وأنتِ، إلى أين ستذهبين؟»
«…لا أدري. أوّل مرّة أصبح فيها أرملة… هه، يقولون إنّ سموّ الدوقة محترفة جدًّا في تزوير الهويّات؟ سأستشيرها، ما رأيك.»
قالتها مازحة، ثمّ نزلت من العربة قائلة: «إلى المساء.»
في جنازة عائلة بارتولوز، لم يحضر سوى أربع أو خمس عائلات مقرّبة، ومن الخدم فقط.
حتى هؤلاء، ربّما خوفًا من عين يوليكيان الذي سيصبح إمبراطورًا، أرسلوا فردًا واحدًا من الزوجين احترامًا للآداب.
بدل العائلة بأكملها.
بدت الكونتيسة وكأنّها توقّعت ذلك، فاستقبلت الأمر بهدوء.
وقفت أمام نعش زوجها، وجهها خالٍ من التعبير، دموعها تتساقط كالثلج الذائب فقط، وقالت:
«إلى الأحمق الأنانيّ الذي لم يتخيّل أن يتركني وحدي. وداعًا. والد ابنتي، زوجي، صديقي الوحيد… حبّي.»
منذ ذلك اليوم، لم يرَ أحد كونتيسة باتولوز مجدّدًا.
∗ ∗ ∗
لأنّ الإمبراطور نفسه لم يسجنها، لم تُرسل مادي إلى سجن القصر الإمبراطوريّ تحت الأرض.
ذهبت، رغم أنّها دوقة الكبرى، إلى سجن العامّة تمامًا.
ثمّ الآخرين.
ملابس موحّدة، استيقاظ السابعة صباحًا، فطور، عمل صباحيّ، غداء، وقت حرّ، عمل مسائيّ، عشاء، وقت تأهيل مسائيّ، نوم العاشرة مساءً.
حياة سجن عاديّة مملّة جدًّا.
بالطبع، تكيّفت مادي بسرعة كأنّها شبح.
“وونغ! يا حبيبي! لم نطلّق بعد! وها أنت تمضي يومين بلا زيارة! مادي متضايقة!”
«…دخلتِ منذ يومين فقط، لماذا تتصرّفين وكأنّكِ عشتِ هنا عشرين سنة؟»
كان لدى مادي فساتين تفيض عن الحاجة، لكنّ زيّ السجن كان يناسبها بشكل غريب، فلم يستطع يوليكيان طرد هذه الفكرة.
لم يخفِ ارتباكه.
“النّبلاء يُلحّون على إجراء التّتويج سريعًا…… وقد قلتُ إنّي لن أفعله من دونك، فظلّ العرش خاليًا طوال هذه المدّة…….”
“افعله فحسب. ليس بالأمر العظيم.”
“بالنّسبة إليّ هو أمرٌ عظيم. كيف أتسلّم التّاج من دونك.”
«إذًا توّج داخل السجن. سأصفق لك.»
«تتويج في السجن؟»
«ألستَ تحبّني؟ أم ترفض أن تصبح إمبراطورًا في السجن؟»
«لا… ليس الأمر كذلك… اليوم لم آتِ لهذا الحديث. هل أنتِ بخير يا مادي؟ هل أطلب نقلكِ إلى مكان أفضل؟»
«لم تصبح إمبراطورًا بعد وتريد أن تفعل ما تشاء؟ لا تقلق عليّ. يقولون إنّ بعضهم غاضب حتى من حكم الثلاث سنوات. أنت فقط…»
التعليقات لهذا الفصل " 175"