قبل دخول قاعة المحكمة، تمّ تفتيش أجساد الجميع، لذا لم يبقَ لدى فيركينغ أيّ شيء يمكن استعماله سلاحًا.
فاستخدموا ما حولهم ليقطعوا أنفاسهم بأنفسهم.
انتزعوا سيوف فرسان الوقوف بجانبهم، وكسروا السياج الخشبيّ الأماميّ وطعنوا أنفسهم تحت الذقن بشظاياه، وبعضهم خنق رقبته بيديه المكبّلتين.
ما إن بدأ فيركينغ بالهيجان حتى ظنّ الحاضرون أنهم يهاجمون، فصرخوا وركضوا للهرب، ثم تجمّدوا مصعوقين وغطّوا أفواههم.
كان المشهد صادمًا إلى درجة تمنع حتى الصراخ.
ظلّوا يخنقون أنفسهم، تتقلّب أعينهم ويغرغرون، ومع ذلك لم يرتخِ قبضة أيديهم.
«تـ، توقّفوا!»
«أوقفوهم! توقّفوا أيّها الأوغاد!»
حاول الناس التدخّل متأخّرين، لكن فيركينغ لم يتوقّفوا يومًا عن طاعة الأمر المطلق.
أراد بعضهم إظهار الورقة مجدّدًا، لكنها ضاعت في الفوضى التي حدثت حين حاول الجميع الفرار خارج القاعة.
«ال، الورقة! يجب أن نجد الورقة!»
«أو، أو نأتي بالإمبراطورة على الأقل……!»
«الإمبراطورة ماتت أيّها الأحمق!»
«أيّ ورقة هذه؟!»
الواقفون في الأمام هم من كانوا يصرخون «موتوا» دون أن يعرفوا شيئًا عن الورقة.
مهما صرخوا «توقّفوا»، لم يتوقفوا.
دفعوا من يحاول منعهم، أو اعتبروهم عائقًا للأمر فأزالوهم، ثم واصلوا تنفيذ الأمر.
سقط أوّلًا من قطعوا أنفاسهم دفعة واحدة باستخدام أداة، ثم تبعهم من خنقوا أنفسهم، يهويون كدمى انقطع خيطها.
سكتت أصوات الصراخ في القاعة.
لو أنهم قتلوا بعضهم بعضًا لكان الأمر مختلفًا قليلًا.
أو لو ابتلعوا جميعًا سمًّا معدًّا مسبقًا لسبّناهم بلا رحمة.
لأنهم هربوا من الجريمة بالموت دون أيّ نية للتكفير.
لكنهم، حالما تلقّوا «الأمر»، ساروا نحو الموت بخطى واثقة دون أيّ تردد.
كانوا دمى حقيقيّة جُرّدت حتى من غريزة الحياة.
ومن المفارقة أن هذا بالذات أثبت أنه لم يكن لديهم أيّ قدرة على رفض أوامر الإمبراطورة.
بقيت مادي وحدها واقفة بثبات، وجهها خالٍ من أيّ تعبير.
صامتة، صلبة، تتحمّل كلّ شيء وسط المشهد المروع.
بعد صمت طويل، سألها أحدهم:
«……وأنتِ، لماذا……»
«لم تموتي؟ لأنني تحرّرت من غسيل الدماغ قبل فترة. لم يعد يؤثّر فيّ.»
«كـ، كيف……؟ إذًا لماذا لا يزال يؤثّر في البقيّة؟ حتى على حياتهم…… هكذا؟»
أجابت مادي الغريب بطبيعيّة وبدأت شهادتها.
«الطريقة الوحيدة لكسر غسيل الدماغ هي أن تعتقد أنه خطأ، وأن ترفض الأمر بشدّة. لكن فيركينغ لم يتعلّموا العواطف منذ الصغر. اضطرّوا لانتزاع مشاعرهم بأنفسهم كي يبقوا أحياء، لا وجود لـ«أنا» كإنسان، بل فقط كـ«فيركينغ» للإمبراطوريّة. لذلك ليس لنا أسماء. نحن فيركينغ لكننا لا نتذكّر حتى وجوه بعضنا. لأن عدد فيركينغ الذين يموتون كلّ يوم يجعل تذكّر وجه أحدهم بلا معنى.»
رفعت مادي صوتها فجأة حتى يسمعها الجميع في القاعة.
«اقتلوا الشخص بجانبكم! إذا بقي نصف هؤلاء فقط! في البداية ربما تتذكّر من قتلتَه! لكن ماذا لو استمرّوا بملء العدد؟ كلّ يوم، كلّ يوم! إذا قتلتَ إنسانًا كلّ يوم ملعون، هل تستطيع التذكّر؟ الغبيّ الجديد الذي دخل قال: «دعنا نعيش معًا حتى النهاية»، ثم قتلتُه في اليوم التالي، هل تذكّر وجهه حزين؟ أنا من قتلته!»
عضّت مادي على أضراسها حتى برزت عضلات فكّها، ثم قالت للجميع وهي ترتجف.
«لا خيار لنا سوى أن نؤمن أن ما نفعله صحيح. نسمع عشرات المرّات يوميًّا أنه من أجل المصلحة العُليا! فلا نملك سوى تصديق ذلك!»
ارتسمت على وجه مادي ابتسامة ساخرة مريرة.
«هكذا يُصنَع فيركينغ. دمى مجنونة تؤمن أنها تعمل من أجل الإمبراطوريّة…… دمى لمجنونة ما.»
لم يستطع أحد مواصلة الكلام.
نظر القاضي من أعلى إلى القاعة المغرقة برائحة الدم وسأل مادي.
«يقول المدافع إنكِ ضحية جريمة دولة، هل تشعرين بالظلم؟ أم تشعرين بالذنب؟»
«سيادة القاضي الموقّر، للأسف، أو لحسن الحظ، أنا لا أشعر بالعواطف جيّدًا. لذلك كبرتُ دون أن أشعر بالظلم حتى. لم أكن أعلم حينها كم كان ذلك إساءة قاسية.»
كان صوت مادي ثقيلًا، خاليًا من التقلبات، مختلفًا عن نبرتها المرحة المعتادة.
لا يبدو كمن يعترف بجريمة، ولا كمن فقد عمره كلّه لجريمة رئيس الدولة، كان هادئًا بشكل غريب.
«بعد هروبي من معسكر فيركينغ، التقيتُ بأشخاص يحبّونني فعلًا فعرفتُ معنى أن أعيش كإنسان. لكنني لا أعرف حياتي السابقة، وأعتقد فقط أنني يجب أن أكفّر عن ذنبي بطريقة ما. ……لا أعلم بعدُ هل هذا شعور بالذنب أم مجرّد إحساس بالدين، فأنا ما زلت جاهلة.»
انحنت مادي للقاضي، ثم استدارت وانحنت لكلّ الحاضرين في القاعة.
«أنا آسفة لأنني لا أتذكّر. أعلم أن عليّ الاعتذار لشخص ما، لكنني آسفة. لا أتذكّر شيئًا على الإطلاق.»
سألها القاضي مجدّدًا:
«وما الشعور الذي تشعرين به الآن وأنتِ تقولين هذا؟ بما أنكِ كسرتِ غسيل الدماغ، فلا بداخلكِ إرادة قويّة، إذًا يجب أن تشعري بشيء الآن؟»
أومأت مادي برأسها قليلًا، نظرت إلى حذائها المبلّل بالدم، ثم رفعت رأسها.
«نحن…… فيركينغ لم ننتقم يومًا. لذلك لم أفهم قلوبكم، إلى أن فكّرتُ للتوّ…… للتوّ فكّرتُ بعائلتي.»
لم يحتج أحد لأن يقول، الجميع عرفوا.
عندما اتّضح أن الدوقة العاصفة الشهيرة هي فيركينغ، انقلبت البلاد رأسًا على عقب.
«لو ماتت عائلتي، أنا……»
امتلأت عينا مادي الكبيرتان فجأة بنيّة قتل.
نظرة شرسة جعلت كلّ من في الأمام يرتعدون ويتراجعون خطوة.
شدّت قبضتيها واعتدلت، فانقطعت الأصفاد كأنها لعبة.
أغلقت فمها بقوّة حتى اصطكّت أسنانها، وسالت الدموع من عينيها المفتوحتين على وسعهما على خدّيها.
ومع ذلك بقي صوتها هادئًا.
«هلّا أخبرتموني ما اسم هذا الشعور؟»
«……هذا غضب وحزن عميقان لا يمكن وصفهما. إنه شعور أهالي الضحايا.»
حينها فقط بدأ صوت مادي يرتجف.
ركعت مادي على الأرض المغرقة بالدم.
هي التي قتلت عددًا لا يحصى، لكنها أيضًا كانت الدوقة.
بل إنها مرشّحة الإمبراطورة الآن بعد أن يصبح يوليكيان إمبراطورًا بلا شك.
وركعت شخصية بهذا القدر.
«الإمبراطور السابق مات، والإمبراطورة ماتت، والدكتور تشتروفسكي مات أيضًا، لا أستطيع أن أتخيّل كم هو مؤلم أن تفقدوا مكان تصبّون فيه غضبكم. ……حقًّا، لأنني عشتُ حياة لا يمكن تخيّلها…… أنا آسفة جدًّا لأنني تسبّبتُ بألم للكثيرين.»
عمّ الصمت الثقيل القاعة.
ثم بدأت أصوات البكاء تتعالى من هنا وهناك و بعد صمت قصير.
لأوّل مرّة منذ تأسيس الإمبراطوريّة، أُجّل الحكم.
كانت متهمة وضحية في آن.
لكنها كشفت جرائم قرية القمامة و فيركينغ بجهودها.
بل إنها كان بإمكانها أن تنجو من الاتهام كون غسيل دماغها قد انكسر، لكنها سلّمت نفسها طوعًا كأنها فيركينغ وصعدت إلى منصّة المحاكمة.
كانت هناك أسباب كافية لتخفيف الحكم، لكن لم يستطيعوا النطق بالبراءة بسهولة.
ناقش القضاة ساعات طويلة ولم يتوصّلوا إلى قرار.
فقرّروا إصدار الحكم بعد أسبوع. ولم يعترض أحد من الحاضرين لأن آراءهم كانت متضاربة أيضًا.
حُكم أن مادي ليست خطر هروب ولن تمحو الأدلّة، فستقيم في القصر الإمبراطوريّ حتى صدور الحكم.
أصرّ النبلاء على يوليكيان أن يطلّق الدوقة فورًا.
«حتى لو لم يكن بإرادتها، فهي قتلت الكثيرين، إنها مجرمة!»
«صاحب السموّ قد يصبح قريبًا إمبراطور إمبراطوريّة جيرنوا! حينها ستصبح فيركينغ إمبراطورة تلقائيًّا، هل يعقل أن تذهب إمبراطورة بلد إلى السجن؟!»
«هل تعلمون كم عدد الضحايا المكتشفين؟ ولم يكن ذلك حتى من أجل الدولة حقًّا! كان فقط لتصفية معارضي الإمبراطور السابق والسابق السابق!»
«لو كانوا معارضين فقط لكان أهون! كم عدد الأقلّيات التي أبيدت؟»
كان هناك من قدّم رأيًا مختلفًا قليلًا.
«ألم تمنع حروبًا أيضًا؟ هناك سجلّات بأن تايغون وبانادين تحالفا للهجوم وهي من منعته.»
«هل يعود الضحايا الأبرياء لأنها منعت بضع حروب؟»
«لستُ أقول هذا، أقصد أن منع حرب كانت ستعمّ الدولة لا يمكن تجاهله! كم كان عدد القتلى سيصل؟»
اقترح أحد النبلاء رأيًا يتظاهر بالحياد.
«كانت سلاحًا جيّدًا لكن استُخدمت لأغراض شخصيّة، أليس كذلك؟ إذًا من الآن فصاعدًا نستخدمها لمصلحة الدولة فقط، كأن نحسبها ساعات خدمة مجتمعيّة……»
التعليقات لهذا الفصل " 172"