ما إن رأت مادي ختم الإمبراطورة حتّى انطلقت فورًا نحو يوليكيان.
ولمّا رأته من بعيد، أدركت على الفور.
شيء ما خطأ.
في تلك اللحظة بالذات استيقظت مادي من غسيل الدّماغ.
«…اللعنة، كان بهذه البساطة.»
ضحكت مادي ضحكة خفيفة.
قبل فترة قصيرة، بعد أن جرحت يوليكيان وأستريد، اضطّرت مادي أن تعترف أنّها تحبّهما أكثر بكثير ممّا كانت تظنّ، أعمق بكثير.
مهما حاولت نسيانهما لم تستطع، وكانت قطرات دمهما تترائى أمامها باستمرار.
كانت رائحة الدّم تلازمها، تشمّ رائحة صدأ كلّما تنفّست، فلم تعد تستسيغ لقمة واحدة.
شربت الخمر بلا عدد فلم تُسكر، حتّى لو ملأت معدتها خمرًا بدل الطّعام لم يُغمَ عقلها.
تظاهرت بالثّمالة كالباقين، تجوّلت في الشّوارع وتقيّأت عمدًا.
ومع ذلك لم تنسَ شيئًا.
ازداد شعورها بالذّنب فقط.
ومع ذلك لم تكن تملك شجاعة الموت.
كانت المرّة الأولى التي تخاف فيها ألّا تستيقظ مجدّدًا.
كان ذلك دليلًا واضحًا.
مادي تحبّ يوليكيان.
مادي تحبّ أستريد.
أكثر من أيّ أحد. إلى درجة لا يمكن وصفها.
لذلك استطاعت مادي أن تنفض غسيل الدّماغ بسهولة.
المشكلة أنّ يوليكيان اكتشفها تمامًا عندما كانت تستدير لتهرب.
اقترب منها بخطى سريعة.
اشتاقت إليه، لكنّها لم تفكّر يومًا كيف تعتذر أو بأيّة وجه ستواجهه عندما تراه مجدّدًا.
لم تكن مستعدّة بعد.
ارتبكت مادي، لكنّها استعادت رباطة جأشها بسرعة.
كان ذلك غريزة بقاء.
«لا تُظهري عواطفك بسهولة مهما حدث.»
لذلك نظرت إلى يوليكيان بعينين فارغتين كأنّها تنظر إلى الفراغ.
ربّما لهذا السبب ظنّ يوليكيان أنّها لا تزال تحت تأثير الغسيل الدّماغيّ.
سيف في يد، عينان خاويتان، شفتان مغلقتان بإحكام دون أن تنبس بكلمة… من الصّعب أن يصدّق أحد أنّها بكامل قواها العقليّة.
اقترب يوليكيان بخطوات واسعة حتّى وقف أمامها مباشرة.
فاتها توقيت الهروب، ولم تعرف من أين تبدأ الكلام، فبقيت واقفة كالحمقاء.
آه، صحيح. أنا أحبّ هذا الرّجل.
عجيب، لم أرد المغادرة. لم أحبّ الابتعاد عن جانبك. كنتُ أدور حولك دون أن أشعر.
قبل أن تفتح مادي فمها، غطّى يوليكيان عينيها بيده الكبيرة، وجذبها إلى حضنه.
ثمّ تحدّث بهدوء كنسيم كأنّه يروي قصّة قديمة.
«منذ زمن بعيد، وُلدت طفلة ذات شعر ذهبيّ فاتح وعينين خضراوين عميقتين وسط بركة.»
ما هذا الهراء.
حاولت مادي دفعه، لكنّ يوليكيان لم يتحرّك.
«كبرت الطّفلة محاطة بالحبّ. حبًّا كثيرًا كثيرًا. صار شعرها الذّهبيّ أغمق مع الأيّام، وصارت عيناها الخضراوان تشبهان بحر زمرديّ صافٍ مليء بالشّعاب. شعرها المجعّد من أبيها، وعيناها ترتفعان قليلًا حين تضحك. أمّا القوّة فمن الأمّ على الأغلب، فطريّة.»
كانت قصّة مادي.
بل قصّة والدي مادي التي لا تعرفها هي نفسها.
تفاصيل دقيقة جدًّا لتكون مختلقة، ويوليكيان ليس مبدعًا إلى هذه الدّرجة.
كان يتلعثم كلّما كذب، فهذه ليست كذبة مفبركة الآن.
جذبها يوليكيان أقرب، وهمس في أذنها
«فقد زوجان ابنتهما ذات الأربع سنوات في ميناء ديوكران، ولم يعثرا عليها… اسم الطّفلة سيدهشك. قيل إنّها وُلدت في ليلة غطّى فيها شهاب كلّ السّماء. ظنّ والداها أنّ البلاد ستنهار حين ولدت، لكنّ السّماء كانت تحتفل بقدوم تلك الطّفلة الجميلة.»
انتظرت مادي بصمت البقيّة.
همس يوليكيان في أذنها كأنّه يحكي سرًّا.
«أستيل بينيت.»
ثمّ أضاف ضاحكًا كأنّه يلقي نكتة طريفة.
«اسمها الكامل أستريد بينيت. الأب هو من اختار أستريد، لكنّ الجميع اختصروه إلى أستيل لأنّه طويل. ما رأيك، أستيل؟»
رفعت مادي يديها وأزالت يد يوليكيان عن عينيها.
اتّسعت عيناها الخضراوان كعنب ناضج على وشك السّقوط.
أستيل بينيت.
[أستيل.]
ثلاثة مقاطع فقط.
تذكّرت الصّوت الذي كان يناديها هكذا.
كلّ الذّكريات الأخرى مدفونة تحت ذكريات قاسية، لكنّ الصّوت الرّقيق الذي كان يناديها «أستيل» عاد واضحًا جدًّا.
كلّما رفّت بجفنيها، وكلّما التقت عيناها بعيني يوليكيان الحانيتين، عاد ذلك الصّوت المحبّ بنفس درجة حرارة صوت يوليكيان.
حاولت مادي التراجع مذهولة، لكنّ يوليكيان لم يتركها.
«كانا يحبّانك حبًّا جمًّا، وبحثا عنك حتّى النّهاية. كانوا في طريقهم لرحلة عائليّة من ديوكران إلى ليلوفاكيا بالسّفينة… ومنذ ذلك اليوم لم يمرّ يوم واحد دون أن يوزّعوا مناشير بحث عنك.»
«أمم… ملامحكِ من أبيكِ، وشكل وجهكِ من والدتكِ. والدتكِ قويّة جدًّا.»
«متى رأيتهما؟»
«عندما متُّ قليلًا. التقيتهما بالصدفة في عالم يشبه الحلم. في البداية شككت، لكن خفتُ أن أندم لو لم أبحث، فواصلتُ التّحرّي. حتّى اسم الميناء كدتُ أنساه، كان البحث صعبًا جدًّا.»
«كيف وجدتهما؟»
«فتّشتُ كلّ قوائم الأطفال المفقودين في الميناء. طفلة ذات شعر ذهبيّ فاتح وعينين خضراوين، لو كبرت لأصبحت في الرّابعة والعشرين الآن.»
داعب يوليكيان ظهر مادي، ثمّ أضاف مازحًا.
«تعرفين إنّكِ تحرّكتِ أثناء التقاط الصّورة فخرجتِ بثمانية أذرع؟ قلبت صفحة، لكنّ نظرتكِ الغاضبة كانت مطابقة لكِ الآن فأعدتُ النّظر وتأكّدت.»
التعليقات لهذا الفصل " 170"