الفصل 169
الطفلة ذات الشّعر البنيّ والعينين الخضراوين، التي بحث عنها زوجان بكلّ يأس، كبرت لتصبح فيركينغ ممتازة.
تطيع أوامر سيّدتها بإخلاص تامّ.
خرجت الإمبراطورة كاردين هايم من الباب الذي فتحته لها خادمتها المخلصة، ومشَت بكبرياء نحو الباب الرّئيسيّ لسجن القصر الجوفيّ.
عندما دخلت كانت قد فعلت شيئًا ما، فلم يبقَ إلّا بقع دم واضحة على الأرض، ولا أثر للحرّاس.
تحرّكت فيركينغ دون أن تصدر صوتًا، لكنّ الإمبراطورة لم تنحنِ ولم تخفِ وجهها أبدًا.
كانت متكبّرة.
كما كانت دائمًا.
في طريق الخروج من القصر اكتشفها بعض الفرسان، لكنّ فيركينغ قضت عليهم جميعًا.
جرّت جثّة أحدهم إلى الزّاوية، خلعت زيّه وارتدته.
ثمّ جمعت شعرها في كعكة دائرية محكمة، غيّرت تعبير وجهها، فلم تعد تشبه «مادي» الاعتياديّة إطلاقًا.
انخفض طرفا فمها بثقل، جفناها منخفضان لكنّ عينيها الخضراوان المرفوعتان تحدّقان إلى الأمام بصرامة.
بياض عينيها الأبيض النّقيّ وعيناها الخضراوان المائلتان للأعلى أعطتا انطباعًا ثقيلًا.
عندما رأى النّاس فارسًا يقود الإمبراطورة، ظنّوا أنّها نقل سجينة، فلم يهجم أحد كما في السابق.
«إلى أين أنتما ذاهبان؟»
كان هناك من سأل أحيانًا، فأجابت فيركينغ المتخفّية بهدوء.
«بناءً على أوامر صاحب السّمو الدّوق الأكبر، يتمّ نقلها.»
لم يكن في تصرّفاتها أيّ زيادة أو نقصان.
أركبت فيركينغ الإمبراطورة عربة وخرجتا من القصر.
كان الأمر سهلًا إلى درجة تثير الدّهشة.
أغمضت الإمبراطورة عينيها بهدوء وتذكّرت ذلك الرّجل.
في الحقيقة لم تستطع نسيانه.
[…لأنّني لا أزال أحبّك، أكرهك كرهًا شديدًا.]
رأت موته أمام عينيها، طعنته بيدها، ومع ذلك لم تستطع استيعاب أنّه لم يعد موجودًا في هذا العالم.
كان يبدو كأنّه سيظهر من مكان ما وينادي «كاردين» بصوته الهادئ المفعم بالثّقة والحبّ قليلًا، كما اعتاد دائمًا.
بوجهه العاديّ السّاذج الذي كان يثق بها ثقة عمياء.
نعم، كان ذلك الرّجل عاديًّا جدًّا.
ادّعى تشيتروفسكي أنّه يفهم كاردين.
لكنّه ارتعب عندما علم أنّها حامل.
ولم يحاول منعها عندما قالت إنّها ستعود إلى أيسلان حاملًا.
وحين أرسلت له الطّفل لم يقل شيئًا، قال فقط «حسنًا».
ربّى الطّفل كما أرادت كاردين.
كانت كاردين دائمًا تتوقّع ردود أفعال النّاس قبل لقائهم.
فإذا قرّرت أنّها لن تلتقي بهم مجدّدًا، كشفت لهم عن حقيقتها.
قد تلتقي بهم مجدّدًا يومًا ما في الحياة، لكنّ الموت نهائيّ، فتصبح صريحة فقط حينها.
كانت تحبّ الصّعود إلى خشبة المسرح، وتحبّ أن تكتب المسرحيّة وتشاهد من المقاعد، لكنّها نادرًا جدًّا كانت تشتاق للخروج من المسرح.
رغم أنّ كلّ من التقتهم خارج المسرح نظروا إليها كوحش.
وراباديت لم يكن استثناءً… على ما يبدو.
لكن لماذا لا يفارق رأسها؟
صوته يتردّد في ذهنها، ويداه الكبيرتان الحارّتان اللّتان ضمّتا ظهرها، ودمه الدّافئ الرّطب الذي بلّل صدرها وبطنها، كلّها واضحة جدًّا.
لكن لماذا لا تتذكّر تعبيره الأخير؟
أرادت أن تسأله.
تحبّني؟ لماذا…؟
أرادت أن تفتح عيني الميّت بالقوّة وتسأل، لكنّها تعرف جيّدًا أنّ الموت خارج المسرح، لا رجعة منه.
عاشت حياتها كلّها تطرد الممثّلين خارج المسرح بعد انتهاء العرض، فتعرف ذلك نَخاع عظامها.
كان راباديت في تلك اللحظة مجرّد ممثّل يغادر الخشبة.
ومع ذلك كان الأمر غريبًا.
حين رأى راباديت وجه كاردين خارج المسرح لأوّل مرّة، تفاجأ وغضب.
لكن في اللحظة الأخيرة، قبل أن يغمض عينيه، ملأهما بصورة كاردين هايم.
نظر إليها بهدوء، دون غضب أو لوم، ثمّ أغمض عينيه ببطء كأنّه يلوم نفسه.
لم يكن ذلك هروبًا منها أو اشمئزازًا.
كان مجرّد إغلاق الجفنين بشكل طبيعيّ ليستقبل يد الموت.
إذن لماذا بدا طبيعيًّا؟ أنت تموت وأنا أعيش.
أنا قتلت أخاك، وقتلت شعبك الذي أحببته، وأنا أعيش.
لماذا كان وجهك هكذا؟
بالضّبط، كيف كان وجهك؟
بأيّ وجه قلت لي إنّك تحبّني؟
عبست كاردين لأوّل مرّة بضيق حقيقيّ.
لم تتوقّع أن يكون إنسانًا لا يمكن توقّعه. عاشت تعتقد أنّه شفّاف تمامًا، لكنّه ضربها في مؤخّرة رأسها هكذا.
فجأة انتبهت كاردين للضّجيج خارج النّافذة المغلقة، وقالت ل فيركينغ المقابلة لها:
«ليتك قتلت هؤلاء جميعًا. يزعجون تركيزي.»
رفعت فيركينغ سيفها لتقوم، لكنّ كاردين هزّت يدها رافضة.
«لا بأس. إذا صخبوا أكثر صعب الهروب. امضي فقط.»
بدلًا من ذلك فتحت كاردين النّافذة قليلًا ونظرت إلى الخارج.
كان النّاس مجتمعين في السّاحة يندّدون بفظائع الإمبراطورة.
يحملون صحفًا وأوراقًا صغيرة مكتوب عليها جرائمها.
كانوا جميعًا غاضبين.
يسبّون، يصرخون، يبصقون باتّجاه القصر، أو ينهارون باكين يطلقون عويلًا كالصّرخات.
ربّما فقدوا عائلاتهم.
رجل في منتصف العمر كان يضرب صدره بقوّة ثمّ يعانق رأسه بيديه، ثمّ سقط على وجهه يبكي بشهقات.
«كارلايل… كارلايل… يا ولدي… كارلايل…»
فقد ابنه على ما يبدو.
أغلقت كاردين النّافذة.
حسنًا، حزنهم مفهوم، لكنّ السّاحة مكان عامّ، لو احترموا الآداب قليلًا لكان أفضل.
زادت أصوات البكاء والصّراخ والعويل.
كان كجحيم حيّ.
ضيّقت كاردين عينيها بضيق وأغمضتهما.
فسرت فيركينغ ذلك كإشارة، فقامت حاملة سيفها.
قبل أن تلحق الإمبراطورة بمنعها، خرجت فيركينغ من العربة.
«يا للمتاعب.»
لا يجب أن يُرَوا.
نزلت كاردين فورًا من العربة واختبأت في زقاق.
إذا قتلت أحدًا في مكان مليء بالشّهود سيهرع الفرسان قطعًا.
غطّت كاردين نفسها برداء كبير ودخلت زقاقًا يؤدّي إلى المرفأ.
ما إن خطت خطوة واحدة حتّى لاحظت لها فكرة غريبة.
لم يُسمع صراخ الموت، فقط عويل الحزن.
التفتت كاردين ببطء، وخلعت غطاء رأسها دون أن تشعر.
التقت عيناها بـ فيركينغ المرتدية زيّ الفارس وسط الحشد.
رفعت فيركينغ يديها ببطء.
ثمّ مسكت طرفي فمها بإصبعيها الوسطيين ورفعتهما.
ابتسامة طفوليّة شيطانيّة.
ثمّ قلبت أصابعها فجأة.
رفعت مادي إصبعيها الوسطيين في الهواء، ثمّ لوّحت بيد واحدة كتحيّة وحركت فمها.
كانت حركة شفاه بسيطة حتّى الإمبراطورة التي لا تعرف قراءة الشّفاه فهمتها بسهولة.
«مجنونة.»
«…ماذا؟»
صرخت مادي بصوت عالٍ.
«الإمبراطورة! الإمبراطورة تهرب هناك!»
وكان إصبعها يشير مباشرة إلى كاردين.
التفتت مئات العيون نحو الإمبراطورة في لحظة.
اتّسعت عينا كاردين العنبريّتان.
حاولت كاردين الالتفاف والرّكض غريزيًّا، لكنّ حجرًا أصاب رأسها فترنّحت.
أمسكوا برأسها فورًا، نزعوا رداءها بعنف، وتطايرت الحجارة مجدّدًا.
لم تكن حجارة فقط، بل كلّ أنواع القمامة والنّجاسات انهالت عليها.
«يا ابنة ##! يا حقيرة! يا أحقر مخلوقة في الدّنيا!»
«بسببكِ مات زوجي!»
«أرجعي ابني! أرجعي ابني!»
بعضهم أمسك برقبتها يهزّها، وبعضهم جذب أطرافها في كلّ الاتّجاهات، فلم تستطع حتّى الرّدّ.
«راباديت.»
بين الظّلام المفاجئ الذي أحدثه النّاس أمام عينيها، لماذا تذكّرتُ اسمك أنت بالذّات؟
لا أزال لا أعرف.
أغمضت الإمبراطورة عينيها.
اندفع كلّ من كانوا يفرغون غضبهم في السّاحة نحوها كموجة.
تراجعت مادي بهدوء ودخلت مقهى مجاورًا.
يبدو أنّ صاحب المقهى والزّبائن خرجوا جميعهم لضرب الإمبراطورة، فكان المكان فارغًا.
كادت مادي تشرب القهوة دون دفع، لكنّها أخرجت نقودًا من جيبها ووضعتها على الطّاولة ثمّ خرجت.
ثمّ اتّكأت على النّافورة ونظرت إلى الكتلة البشريّة الهائجة التي تبدو كوحش واحد متماسك بالغضب.
تسلّلت رشفة قهوة عطريّة إلى فم مادي.
«أن تموتي كإمبراطورة على منصّة الإعدام شرف لا تستحقّينه.»
هكذا لن يعرف أحد من كانت تفكّر فيه الإمبراطورة في لحظتها الأخيرة، ولا ما الذي ندمت عليه.
لحسن الحظّ، مادي لم تكن مهتمّة أصلًا بتلك التّفاهات.
التعليقات لهذا الفصل " 169"